fbpx

إسلاميو تونس… عقد من الانتهازية والتلون من أجل السلطة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تورطت “حركة النهضة” منذ وصولها إلى السلطة في لعنة طلب الحكم بكل وسيلة، متوهمة بأنها قادرة وجديرة أكثر من غيرها بلعب هذا الدور.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مما لا شك فيه أن ثورة 14 يناير 2011، تمخضت عنها متغيرات سياسية كثيرة في تونس، كان أبرزها صعود الإسلاميين ممثلين في “حركة النهضة” إلى سدة الحكم والمشاركة فعلياً في صناعة القرار السياسي. وفيما فشل الإخوان المسلمون في مصر ودول أخرى في الاستمرار في السلطة، استطاعت الحركة القفز على كل الأزمات والصراعات السياسية وظلت الحزب الذي يقود سفينة الحكم في البلاد لعقد كامل حتى الآن. سنوات أمضتها بحصيلة صفرية على مستوى الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية، لم تحفزها على مراجعة خياراتها وسياستها بقدر ما حفزتها على مطاردة سبل البقاء في الحكم. الأكيد أن هناك أحزاباً شاركت “النهضة” الحكم، وبالتالي تتحمل معها مسؤولية الفشل، ولكن وحدها “النهضة” ظلت الحزب الأقوى في السلطة منذ 2011. وطيلة هذه الفترة تغيرت خياراتها التي بلغت حد التناقض من أجل البقاء في الحكم، إنما من دون أن تتغير السياسات في التعاطي مع مطالب الشعب الذي انتفض ضد الاستبداد والفقر والتهميش.  

تكتشف الحركة عجزها عن إيجاد الحلول والأفكار الكفيلة بإرضاء التونسيين. وعوض الإقرار بهذا الفشل والبحث عن البدائل بجدية، تندفع بكل هوس في السلطة للقبول بأي خيارات تكفل بقاءها

الحقيقة أن هذا الواقع ليس غريباً على الحركة لاعتبارات عدة، أهمها أنها أسست أفكارها العقائدية على أنقاض العداء لنظامي بورقيبة وبن علي، وروجت بكثير من التضخيم لما تعرضت له من ظلم وسجن وملاحقة. وجراء ذلك ترسخت فكرة الحركة المظلومة لدى شرائح واسعة من المجتمع وبدت الصورة الظاهرة أن المنظومة القديمة بشقيها، قمعت حزباً يحاول نشر تصورات وأفكار إصلاحية شاملة. ولكن العودة إلى نضالات الحركة يتبين جلياً أنها لم تخض يوماً معركة من أجل أهداف اقتصادية واجتماعية ولم تقدم البتة برامجاً لحل الأزمات المعيشية، بقدر حرصها على الوصول إلى السلطة وفرض النموذج الذي تريده. وقد سعت إلى ذلك حتى من خلال العمليات المسلحة ومحاولة الانقلاب على النظام. وبعد الوصول إلى الحكم الذي سعت إليه مطولاً ودفعت الكثير من أجله، صبت جل تركيزها على سبل البقاء في السلطة، حتى وإن تطلب ذلك دخول تحالفات مشبوهة وأخرى تتعارض معها فكرياً بل وتنتمي إلى المنظومة القديمة التي علقت عليها دائماً سرديات المظلومية. 

راشد الغنوشي

محطات

لعل تتبع بعض محطات الحركة ورئيسها راشد الغنوشي، وليس كلها، وهي على سدة الحكم، كفيل بتأكيد ما سلف قوله. فعام 2011 عندما عاد الغنوشي إلى تونس من منفاه في بريطانيا، سارع إلى القول، “لا أنوي الترشح لأي انتخابات رئاسية أو برلمانية ولا أسعى إلى أي منصب، كل ما أريده هو أن أستنشق هواء بلدي الذي حرمت منه لعشرين سنة”، وأكد أن كل ما يريده هو مشاركة الشباب الذي صنع الثورة في تونس من دون فساد ومحسوبية، وتأمين فرص عمل متكافئة وغيرها من الكلمات التي تصب في ترفع الرجل عن المناصب. ولكن على مدار العشر سنوات كان الرجل أحد أبرز مهندسي المشهد السياسي في تونس، وظل حتى 2019 يدير الأمور من وراء ستار، ثم قرر الخروج وتولي مناصب سياسية فتطلع إلى قصر قرطاج وتولي رئاسة الدولة، ولكنه تراجع في اللحظات الأخيرة عن هذه المغامرة خوفاً من الهزيمة بعدما أيقن أنه الرجل الأكثر ازدراء في تونس. حينها قام بالصفقة المشهورة التي أجريت ليلاً مع “حزب قلب تونس”، حتى يكون رئيس البرلمان، وعلى رغم محاولات سحب الثقة منه في أكثر من مناسبة ويقينه بأن وجوده على رأس البرلمان سبب رئيسي في التوترات التي لا تنتهي داخله، إلا أن الغنوشي الذي أبدى جوعاً كبيراً للسلطة والحكم تجاهل ذلك وتمسك بالكرسي. وما زال الرجل يأمل بسكن قرطاج مستقبلاً، على رغم تأكيد نتائج صبر الآراء كره التونسيين له.

من المحطات المفصلية الأخرى التي تؤكد سعي “النهضة” إلى السلطة هي عملها منذ تسلمها مقاليد الحكم من أجل السيطرة على كل أجهزة الدولة تيمناً بتجربة التجمع الدستوري الديموقراطي الحزب الحاكم أيام بن علي، الذي كرس فكرة التداخل بين الحزب والدول. وقد كشفت تسريبات لأحد الاجتماعات السرية لقادة الحركة خططها للسيطرة على الأمن والجيش وغيرهما من الهياكل الحيوية في البلاد. وواجهت “النهضة” عوائق كثيرة ولكنها نجحت إلى حد كبير في اختراق مختلف أجهزة الدولة، مستفيدة من فكرة العفو التشريعي العام الذي مكنها من زرع الآلاف من قادتها وقواعدها في كل مؤسسات الدولة. وبالتالي ضمان اختراق المنظومة القديمة والتغلغل في مفاصل الدولة وتأكيد سيطرة الحزب عليها كما التجربة مع بن علي وحزبه، وكل ذلك بهدف إطالة عمرها على سدة الحكم. 

وللوصول إلى هذه الغاية لم تتردد الحركة أيضاً في التحالف مع أطراف سياسية ينتمي بعضها للمنظومة القديمة كـ”نداء تونس” وبعضها ضالع في ملفات الفساد. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، أكد الغنوشي أثناء الحملة الانتخابية عام 2019 أن حركته لن تتحالف مع “حزب قلب تونس” سواء في الرئاسية أو في التشريعية “لأنها لا تتحالف مع قوى الفساد”. ولكن بعد إعلان النتائج واكتشاف “النهضة” أنها لا تمتلك الأغلبية داخل البرلمان وفي ظل رفض الأحزاب الديموقراطية الاصطفاف وراءها كما كانت تأمل، انقلب الغنوشي على موقفه السابق. ودخلت حركته في تحالف قوي مع “قلب تونس”، بل وبات يضغط من أجل إشراكه في تشكيلة الحكومة. وقبلت “النهضة” أن تناقض نفسها وأن تبدو في ثوب الكاذب فقط من أجل الإمساك بحزب تستطيع تطويعه ليبارك قراراتها وخياراتها إلى جانب “ائتلاف الكرامة” داخل البرلمان، وبمعنى أدق من أجل السلطة. لا يهم أن تستقطب حزباً تحوم حول صاحبه شبهات فساد كبيرة وتهم بتبييض الأموال ولا يهم أن يتعارض ذلك مع مواقف الحركة بشأنه وبشأن كل الفاسدين في البلاد. والواقع أن هذا بات نهجاً مألوفاً لدى الحركة التي تتهم من أطراف سياسية وحقوقية بأنها تسيطر على القضاء وتوظفه من أجل استخدام ملفات بعض الفاسدين النافذين في البلاد بما يخدم مصالحها.  

من جهة أخرى، دأبت الحركة على الترويج لمعاداتها المنظومة القديمة ولم تتردد في كل مناسبة في تأكيد أن هؤلاء هم أعداء الثورة ووصفهم بالدمويين والقمعيين، لكنها لم تجد ضيراً في استقطاب بعض هؤلاء ووصفهم بالرجال الوطنيين بمجرد دخولهم بيت الطاعة “النهضاوية”. وأحد أبرز الأمثلة كان تعيين الغنوشي الأمين العام السابق لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي (حزب بن علي) محمد الغرياني مستشاراً له، مثيراً ضجة كبيرة في الأوساط السياسية والشعبية في البلاد. ويندرج هذا الخيار أيضاً في سياق كسب أوراق رابحة كفيلة بمساعدته على البقاء في السلطة. ذلك أن النهضة الخائفة من صعود “حزب الحر الدستوري”، بقيادة عبير موسي استقطبت قيادياً مهماً من العائلة ذاتها، عسى أن تحصل على بعض الملفات أو المعطيات الدقيقة لاستخدامها كورقة ضغط ضد موسي كما استخدمت ملفات الفساد للضغط على نبيل القروي وحزبه، ولتستدرج بعض جماهير هذا التيار إلى صفها. 

لقد ساعدت هذه السياسة “حركة النهضة” على تصدر المشهد السياسي منذ 2011، في حين اندثرت الأحزاب التي اختارت أن تشاركها الحكم. ذلك أنها كانت دائماً تحسن اختيار الأحزاب الضعيفة القادرة على ترويضها أولاً، ثم اختراقها وتقسيمها عندما تنتهي مهمتها. وعلى رغم عدم اكتراث الحركة بالشأنين الاجتماعي والاقتصادي مقارنة بجهودها وركضها من أجل السلطة، فإنها لا تتردد في كل مرة في تحميل شركائها الفشل والترويج لصورة الحزب الذي يواجه العراقيل والتعطيلات من أطراف، غالباً ما تكون ضبابية “أعداء الثورة”. والحال أن “النهضة” لا تملك حلولاً ولا تصورات عملية للوضعين الاقتصادي والاجتماعي وترفض مصارحة الشعب بذلك خوفاً من خسارة الحكم.

إقرأوا أيضاً:

الباحث التونسي والكاتب السياسي فريد العليبي يرى أن “حركة النهضة الإسلامية” تحث خطاها نحو توسيع نطاق حكمها لتونس معتمدة نهجاً لا يستثني أي شعار ما دام يوصلها إلى الحكم.

ويقول لـ”درج”، “لقد قالت الحركة إنها أعدت برنامجاً لتحديث الدولة يحمل رؤية استراتيجية لتونس 2035 ولأجل ذلك تجند شيخها وهيئة أركانها للنفخ في صورتها، فقد قال راشد الغنوشي إنها أشد رسوخاً من جبل الشعانبي الذي لو واجه ما تعرضت له من هجمات، لانهار. بينما قال آخرون من قادتها إنها حركة مسالمة لا علاقة لها بالعنف، فيدها غير ملوثة بالدماء، وأنها لو اختارت هذا السبيل لهلكت تونس بأكملها. وأنها مناضلة عرفت الاضطهاد والملاحقة ولكنها لم تخرج من السجن بأحزمة ناسفة وأنها تتمول من أعضائها فقط. وهي حركة أذكياء كما أنها الأقدم في البلاد، الناجحة في التوفيق بين الثبات على المبادئ وقيم الدين والتطور مع الواقع، فقد كان منطلقها سلفياً يحرم الفن والديموقراطية لكنها اليوم أصبحت إسلامية ديموقراطية وفصلت بين الدعوي والسياسي… إلخ”.

ويضيف: “ولذلك الغرض استحوذت الحركة على شعارات أغلب الأحزاب، من الديموقراطية والإسلام والحرية والتسامح حتى العدالة الاجتماعية فقد قال شيخها إن المخططات التي أقيمت في تونس رسخت الطبقية والفوارق الاجتماعية، ولم تزلها وخاطب الجهات المحرومة بالقول (لبيك لبيك سنظل نناضل من أجلك حتى تتحقق العدالة الاجتماعية). ولكن ذلك الخطاب أضحى خليطاً مثل مرق فاسد فيه كل أنواع الخضر واللحوم والبهارات، ما أفسد مذاقه”.

الخروج من الجلباب الإسلامي

ولم تتوقف خيارات الحركة عند هذا الحد من أجل البقاء في الحكم، بل بلغت حد الخروج عن جلبابها الإسلامي أو هكذا أوهمت التونسيين والعالم رغبة منها في كسب ود التونسيين الخائفين من طروحاتها السابقة. فعام 2016 أعلنت “حركة النهضة” أنها حزب مدني وأنها تخلت عن انتمائها لتنظيم الإخوان المسلمين وأنها باتت تحترم مدنية الدولة والحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور ومجلة الاحوال الشخصية. في المقابل ما زالت الحركة تتعامل كحزب إسلامي يعتمد ويلجأ إلى الدين على مستوى التسيير الداخلي لها، ولم تتحول مطلقاً إلى حزب سياسي كما أقر بذلك القيادي لطفي زيتون بعد استقالته عن الحركة. ولعل اصطفاف النهضة المفضوح وراء الدول الداعمة والراعية للإخوان في العالم على غرار تركيا وقطر دليل آخر على ذلك. كما أن الحركة الإسلامية في تونس لن يكون بوسعها الانسلاخ عن جلدتها الأولى بهذه السهولة، لكنها لن توقف مساعيها لإقناع التونسيين والعالم بأنها باتت النموذج الذي يؤمن بتلك الأفكار التقدمية الغريبة عن أدبياتها، فقط من أجل السلطة ولا شيء غير ذلك. والوقائع التي تؤكد هذا كثيرة، أبرزها رفض الحركة مبدأ المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، على رغم مصادقتها على دستور البلاد الذي يقر بالمساواة التامة بين الجنسين. هذا فضلاً عن رفض رئيسها راشد الغنوشي باعتباره رئيساً للبرلمان وبقية نوابها التنديد بإهانة المرأة وتهديدها ومهاجمة مجلة الأحوال الشخصية وتجييش المؤيدين ضد المدافعات عن حقوق المرأة من قبل بعض النواب المحسوبين عليها فكرياً على الأقل وغيرها. 

الإسلاميون في تونس ممثلين بـ”حركة النهضة”، أوقعوا أنفسهم عن وعي أو دونه في مأزق الهرولة إلى الحكم من دون تفكير أو تحضير كافٍ.

ملفّ السلام

ملف السلام مع إسرائيل هو الآخر شملته رياح التغيير فبعدما كانت القضية الفلسطينية قضية مركزية في خطاب الإسلاميين (ليس فقط في تونس) لاعتبارات أيديولوجية بحتة أولها كون القدس أولى القبلتين وثانيها لأن فلسطين أرض إسلامية بحسب الأدبيات الاسلامية، وبالتالي لا تستطيع  حركة تتطلع لإقامة “دولة إسلامية” أن تقبل بدول يهودية على أنقاضها. إلا أنه بعد الوصول إلى السلطة بدت الأمور على خلاف ذلك، إذ رفضت الحركة في أكثر من مناسبة التصويت داخل البرلمان لمصلحة تجريم التطبيع وتعللت بأن حركة “حماس” طلبت ذلك بعدما حاصرتها الأسئلة. والواقع أن هذا الخيار مدروس لأن الإسلاميين في تونس يدركون أهمية إسرائيل بالنسبة إلى الأنظمة الغربية وبالتالي لن تستطيع المخاطرة وخسارة الصورة التي بدأت تتشكل عنها لدى هذه الأنظمة، ولن يكون بوسعها خوض مغامرة قد تعجل برحيلها عن السلطة.

تورطت “حركة النهضة” منذ وصولها إلى السلطة في لعنة طلب الحكم بكل وسيلة، متوهمة بأنها قادرة وجديرة أكثر من غيرها بلعب هذا الدور، وخوفاً من العودة مجدداً إلى المعارضة. وفي خضم ذلك أدركت أن مقتضيات الحكم تختلف بل وقد تتعارض مع أولوياتها عندما كانت في صفوف المعارضة وهو ما أدى بها إلى التحول عن أهدافها وأدبياتها. وأصبح الهوس بالسلطة فوق كل الاعتبارات والرغبة الجامحة في المناصب السياسية هو المحرك لاتخاذ القرارات والقبول بالكثير من الأمور التي تتعارض مع جوهر أفكار الحركة.

خلاصة القول إن الإسلاميين في تونس ممثلين بـ”حركة النهضة”، أوقعوا أنفسهم عن وعي أو دونه في مأزق الهرولة إلى الحكم من دون تفكير أو تحضير كافٍ. ولهذا عندما وجدت الحركة نفسها مجبرة على ترك خطاب الهوية الذي كان في وقت ما مصدراً مهماً لكسب الجماهير، سقطت في مطبات كثيرة، كشفت عوراتها وفضحت حجم الازدواجية والتناقض اللذين باتا عناوين كبرى لخطابها ومواقفها وجردها من إمكان الثبات على المبدأ أو الموقف. وبعدما أدركت أن معركة الهوية أمست عديمة الجدوى وأن الحفاظ على السلطة يقتضي توفر رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية تلبي تطلعات الجماهير، ارتبكت وتعددت أخطاؤها. فهي الحزب الذي أتى محملاً بالشعارات الهوياتية لا أكثر، متوهماً أنها ستكون ورقته الرابحة للبقاء في الحكم والحفاظ على السلطة. اليوم بعد سقوط هذه الورقة تكتشف الحركة عجزها عن إيجاد الحلول والأفكار الكفيلة بإرضاء التونسيين. وعوض الإقرار بهذا الفشل والبحث عن البدائل بجدية، تندفع بكل هوس في السلطة للقبول بأي خيارات تكفل بقاءها في الحكم.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.