fbpx

عن “تخاريف” المقارنة بين سويسرا ونسختها اللبنانية… وعن عوني الكعكي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في الإعلام السويسري لن تعثر على مقال كالذي كتبه عوني الكعكي، يدافع فيه عن مسؤول مالي على هذا المستوى متهم بارتكابات جسيمة مثل رياض سلامة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في شباط/ فبراير من العام الماضي ركب الصحافي اللبناني  موسى عاصي طائرة من سويسرا حيث يعيش مع عائلته إلى لبنان، وتوجّه إلى قصر العدل ليمثل أمام الحاكم المنفرد الجزائي في بيروت، لاستجوابه في دعويين مقامتين ضده من السيدة رنده عاصي بري، حرم رئيس مجلس النواب نبيه بري، ومن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، بجرم القدح والذمّ، على خلفيات منشورات لعاصي عبر حسابه على “فايسبوك”، تضمنت انتقادات لأدائهما واتهامات لهما بالفساد. القضية جاءت في فترة شهدت ملاحقة نشطاء وصحافيين ترافقت مع نشاطات ثورة 17 تشرين التي وجّهت في الشارع انتقادات لاذعة للسلطة ورموزها، واتهامات واضحة لهم بالفساد وسرقة أموال اللبنانيين. وبدا حينها أن استدعاء عاصي أمام محكمة جزائية بدل محكمة مطبوعات (حيث يجب أن يحاكم الصحافيون على ما ينشرونه) استخداماً واضحاً لنفوذ السيدة بري القوي في محاولة “تأديب” عاصي ومن خلفه كل الصحافيين الذين يتجرأون على إعلاء الصوت ضد رموز السلطة، بعصا القضاء الجزائي الغليظة. 

“كيف تقارن القضاء السويسري بمهزلة؟”. في لبنان بعد ضياع مليارات الدولارات وانهيار المصارف وحجز اموال المودعين وسرقة أملاك الدولة وآلاف قضايا الفساد التي تحدث عنها الإعلام، لم يستقل قاض واحد او مدع عام.

وكان وكيل السيدة بري ذكر في نص الشكوى التي تقدّم بها، أن المدعى عليه موسى عاصي “ذاع صيته بالافتراءات وكيل النعوت للآخرين نتيجة حقده الدفين”، ناقلاً ما كتبه عاصي بحرفية على صفحته على “فايسبوك”، منتقداً موقف المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى من الزواج المدني: “يجب على السلطة والمجتمع والأفراد حماية الأسرة وتأمين سلامتها واستقرارها وذلك عن طريق حماية الأخلاق والتربية والآداب العامة ومنع الفساد السياسي والأخلاقي والعاطفي”. متابعاً “عشوي كان انتقد التوريث السياسي والافتائي… بيذكرني برندة بري بس تنتقد الفساد”. ثم عاد وكتب تعليقاً قال فيه “نحن بيت عاصي شلناها (رندة عاصي) من العيلة، وصارت بري بس”. واعتبرت الدعوى أن أفعال المدعى عليه أساءت إلى المدعية و”طاولتها بشرفها وسمعتها وكرامتها وألحقت بها أشد الأضرار المعنوية”. 

السيدة بري عادت وأسقطت الدعوى بعد شهور تفادياً للضجيج الذي أثاره عاصي بحضوره إلى لبنان ومثوله أمام المحكمة الجزائية وتصريحاته خارجها، ومع تحول قضيته إلى قضية حريات تبناها نشطاء ومحامون في الانتقاضة، فضلاً عن دعم وسائل إعلامية ومنظمات حقوقية له. اليوم يعيش عاصي في سويسرا مع عائلته، وهو يحمل الجنسية السويسرية ويعمل صحافياً هناك. انتابته نوبة ضحك حينما قرأ مقال نقيب الصحافة اللبناني عوني الكعكي عن القضاء السويسري، دفاعاً عن استدعاء حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للمثول أمامه، مدّعياً بـ”ثقة” أن “من النادر إيجاد قاض سويسري غير مرتش”. يضحك مجدداً عبر الهاتف حينما أسأله عن المقال، ويقول إنه لا يزال غير مصدّق ان كلاماً كهذا يخرج من شخص يحمل صفة “نقيب الصحافة”. 

“لا نعيش في سويسرا في مدينة فاضلة”، يقول عاصي. “طبعاً هناك بعض الانتهاكات للقوانين. لكن المحاسبة تبقى حاضرة وهيبة القضاء لا يمكن المسّ بها. حتى مسؤولون كبار يحاسبون لأسباب قد تبدو تافهة جداً بالمعايير اللبنانية”. يعطي مثلاً عن حادثة وقعت مع احد رؤساء سويسرا الفيدراليين، حيث كان هناك حديث عن تغيير سيطرأ على قيمة العملة وأن الفرانك السويسري سيرتفع سعره، فقام هذا المسؤول بإخبار زوجته بهذه المعلومة، لتقوم في اليوم التالي بشراء عملة بقيمة ستين ألف دولار لبيعها بعد ارتفاع سعرها، وحققت أرباحاً لا تتجاوز قيمتها الخمسة آلاف دولار أميركي.

ومع أن رقماً كهذا يبدو مضحكاً لو كان الحديث عنه في لبنان، إلا أن المسؤول اضطر بعد خروج القضية إلى العلن في الصحافة إلى تقديم استقالته، ثم قام بالتبرع بالمبالغ التي استخدمتها زوجته لمؤسسة خيرية كنوع من اعتذار. يتساءل عاصي باستغراب: “هل يمكن أن يحدث أمر مماثل في لبنان؟”. وبرأيه أن المقارنة بين القضاء اللبناني والقضاء السويسري سوريالية، وظالمة للقضاء السويسري بشكل مهين: “كيف تقارن القضاء السويسري بمهزلة؟”. في لبنان بعد ضياع مليارات الدولارات وانهيار المصارف وحجز اموال المودعين وسرقة أملاك الدولة وآلاف قضايا الفساد التي تحدث عنها الإعلام، لم يستقل قاض واحد او مدع عام. يذكر عاصي في هذا السياق أن المدعي العام السويسري السابق مايكل لاوبر قدّم استقالته السنة الماضية، بعد اتهامات بأنه قام بـ”انتهاك جسيم لواجباته الرسمية أثناء أداء وظيفته”.

وتهمته كانت أنه التقى برئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم  جياني انفانتينو  (الفيفا) مرات عدة، خارج مكتبه الرسمي في أثناء التحقيقات في قضية فساد تتعلق بالفيفا. وقد استقال لاوبر بعد حكم قضائي انتقد سلوكه، مع أن المحكمة وجدته بريئاً من تلقّي أي رشاوى أو استخدام نفوذ، لكنه تعرض لانتقادات لاذعة بسبب عدم تصريحه بعقد لقاءات خارج مكان عمله مع  انفانتينو في فترة التحقيق معه. في بيان استقالته، قال المدعي العام السويسري السابق: “من أجل مصلحة المؤسسات أقدم استقالتي”، معرباً عن قلقه بشأن سمعة مكتب المدعي العام. ومع إصرار لاوبر على نفي تهمة الكذب، قال: “إذا كانت المحكمة لا تصدقني كمدع عام، فإن مكتب المدعي العام سيتضرر”. 

في الإعلام السويسري لن تعثر على مقال كالذي كتبه عوني الكعكي، يدافع فيه عن مسؤول مالي على هذا المستوى متهم بارتكابات جسيمة مثل رياض سلامة.

في سويسرا يلعب الإعلام دوراً أساسياً في المحاسبة والضغط على المسؤولين. كما أن العلاقة بين الإعلام والقضاء مضبوطة ولها حدودها. يحق للإعلامي الحصول على المعلومات من القضاء مباشرة، من دون الحاجة إلى “واسطة” أو علاقات شخصية و”عزومات” وتبادل هدايا مع القضاة للحصول على معلومات وتسريبات. عاصي يراسل المدعي العام بالبريد الإلكتروني ويحصل كصحافي على المعلومات التي يسمح القضاء بالافراج عنها في قضايا مماثلة. وقد فعل ذلك في قضية سلامة، وحصل على ردّ مقتضب من الإدعاء العام. في الإعلام السويسري لن تعثر على مقال كالذي كتبه عوني الكعكي، يدافع فيه عن مسؤول مالي على هذا المستوى متهم بارتكابات جسيمة مثل رياض سلامة. يقول عاصي إنه يخشى أن يقوم أحد في الإعلام السويسري بـ”تصغير عقله” وترجمة مقال الكعكي ونشره في سويسرا. سيكون الأمر بمثابة مهزلة للبنان واللبنانيين.

لم يقتصر الأمر على الكعكي، بل انبرت مؤسسات إعلامية ومواقع إلكترونية وصحافيون للدفاع عن حاكم مصرف لبنان، واتهام القضاء السويسري بأنه يخضع  لجميل السيد، النائب ومدير الأمن العام الأسبق والرجل الأمني القوي في مرحلة الوصاية السورية على لبنان. يصف عاصي هذه الأخبار بـ”التخاريف”. سويسرا دولة تضم أهم المنظمات الحقوقية وأهم محاكم فض النزاعات في العالم كله. وهي دولة حريصة على صورتها وسمعتها على المستوى الدولي، نظراً لدورها، خصوصاً في المسائل القضائية، التي لا تخضع للأمزجة الشخصية ولا للتمنيات والرغبات ولا للحملات الإعلامية الرخيصة على الطريقة  اللبنانية التي لا تستند إلى أي معطى أو معلومة أو مستند أو اسم، والتي تحمل اتهامات وافتراءات بالجملة. 

في ستينات القرن الماضي كان لبنان يعتبر المركز المالي للشرق الأوسط، وعاش القطاع المصرفي حالة ازدهار ونمو غير مسبوقة، بسبب تميزه بقوانين حفظ السرية المصرفية الشبيهة بتلك المطبقة في سويسرا، وهو ما نتج عنه ازدهار اقتصادي وسياحي وسياسي واجتماعي، وبلغت قيمة الليرة اللبنانية آنذاك مقابل الدولار ثلاث ليرات. رياض سلامة كان لا يزال طفلاً حينذاك. وكان يقال إن لبنان هو “سويسرا الشرق” لهذا الاعتبار، ولاعتبارات اخرى منها أنه كان واحة حرية في العالم العربي، وملاذاً للهاربين من القمع، كما كان يتمتع بجمال طبيعي آسر وبيئة نظيفة واستثمارات ونمو. اليوم، حينما يحاول موسى عاصي أن يقارن بين سويسرا ولبنان، لا يجد أي قاسم مشترك. يحاول جاهداً ان يعثر على عناصر شبه بين سويسرا ولبنان اليوم، من دون جدوى. يصمت قليلاً كما لو أنه قاضِ سويسري يراجع نفسه قبل أن ينطق بحكم نهائي في قضية معقّدة، لكنه يعود ويقول بأسف: “لبنان انتهى”.

إقرأوا أيضاً: