fbpx

جوع فقراء طرابلس يكفر بـ”كورونا”: سنموت في أي حال

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الناس في طرابلس باتوا يبيعون ثيابهم ليشتروا قارورة غاز وعلبة دواء، وفق ما يروي كثيرون لـ”درج”، ثمّ يلامون ويُضرَبون لأنهم نزلوا إلى الشارع من أجل الصراخ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“إحدى السيدات كانت تطلب من البائع أن يعطيها الماء المالح الذي يبقى في وعاء الجبن بعد إفراغه. حين سألناها عن السبب، أخبرتنا أنها تبلل الخبز لأولادها بماء الجبن المالح حتى لا يأكلوه حافاً”، يخبر أحد نشطاء طرابلس.

لم تخرج طرابلس أبداً في تصنيف المدن من عداد تلك المشاغبة، مثيرة الجدل. المدن التي لا يمكن أن تقول عنها مثلاً: “مدينة الزحمة” أو “مدينة هذا السياسي” (أو ذاك)، أو حتى “مدينة المسلمين”، ذلك أن المدينة اختزنت في تاريخها من المماليك إلى اليوم حضارات ومجموعات بشرية كثيرة. فتحوّلت المدينة إلى “مدينة كل شيء” كما يقول صديقي الطرابلسي، مدينة المحاور ومدينة الجوع، وأيضاً مدينة أغنى أغنياء البلاد، مدينة حي المقابر وحي التنك وسكان المستودعات واللاجئين، وأيضاً مدينة أبرز سياسيي لبنان وأكثرهم ثراءً. فالقصور في طرابلس لا تبتعد أبداً من بيوت التنك، ليشكّل المشهدان المتناقضان وجه طرابلس الأكثر غرابة وبؤساً. هنا لن تبذل جهداً كبيراً حتى تفهم النظريات الطبقية والمصائب الاجتماعية المتنوعة، يكفي أن تمشي ساعةً واحدة في شارع باعة الخضر المتجولين، أو تشاهد أطفال “حي الغرباء” يلعبون بين المقابر، ليس لأنها قد تشبه حديقة ورد، بل لأنّ بيوتهم هناك، بينها.

أهل طرابلس غير المشمولين بمشاريع الدولة أو عينها الساهرة، مشمولون الآن بإجراءات الإقفال بسبب تفشي فايروس “كورونا”. فيكون عليهم الاختيار بين الجوع أو المرض، فيما يتجوّل مراسلون صحافيون بين الأزقة المدماة من كثرة العوز، ويلعبون دور شرطي الآداب، ويؤنّبون الذين لم يقفلوا محلاتهم الصغيرة أو لم يركنوا عرباتهم المتجوّلة في فترة الحجر. لكنّ أحداً لم يسأل هؤلاء: كيف ستأكلون؟ كيف تدفعون إيجارات بيوتكم؟ فواتير الكهرباء والماء والهاتف؟ كيف تشترون الأدوية لمرضاكم؟

القصور في طرابلس لا تبتعد أبداً من بيوت التنك، ليشكّل المشهدان المتناقضان وجه طرابلس الأكثر غرابة وبؤساً.

في 25 كانون الثاني/ يناير 2021، قررت طرابلس المتروكة، التي أتاها إعلاميون ورجال أمن من كل صوب، ليعاقبوها على عدم الإقفال التام، أن تنزل ليلاً إلى الساحة، في مشهد يذكّر كثيراً بانتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019. فـ”عروس الثورة” هي قبل أي شيء عروس الفقر وعروس النسيان، ولا يملك أهلها سوى هذا الشارع لتفريغ شيء من الغضب القديم وذاك المستجدّ أيضاً، فالغضب في طرابلس ليس واحداً.

وبطبيعة الحال، لا تملك السلطة الحاكمة شيئاً تقدمه لطرابلس أو لغيرها، فجوبه التحرّك في المدينة وغيرها كما في بيروت وصيدا، بالبطش والقمع، حتى أن وسائل إعلام بارزة امتنعت عن تغطية التحركات، فيما كان مراسلوها بقمة نشاطهم وهم يوبّخون العمّال المياومين على عدم الالتزام بالحجر.

الحصن الحريريّ

المدينة التي أوهمت على مدى سنوات بالحصن السنيّ الحريري بشكل أساسيّ، إلى جانب الميقاتية والصفدية وآل كرامي وغيرهم، لم تعد تقوى الآن على رفع يدها لتقول “أنا هنا”. فرفع الأيدي ترف خسرته ربما مع تراجع الحريرية السياسية وأيضاً الحريرية بصفتها داعماً عينياً ومادياً لسكان طرابلس الفقراء. إذ تبيّن أن بعض أولاد طرابلس المساكين يساقون إلى صناديق الاقتراع مقابل 100 دولار أو حصص غذائية في المناسبات، لكنهم لن ينعموا بأي مشاريع أو تقديمات اجتماعية رسمية، تحسّن ظروفهم، وتجعلهم بمنأى عن الحاجة إلى 100 دولار مرة كل ست سنوات.

والآن مع ظروف الحجر والإقفال العام، يمكن تخيّل ما تعانيه طرابلس المنسيّة، الهشة وقد سقطت الحصون عن كتفيها.  

“الإعاشات” لا تصنع حياة!

يصف الناشط محمد العمر الوضع في طرابلس بالمأساوي: “الفقر تضاعف في المدينة، فمن كان يملك عملاً يؤمن له حاجاته الأساسية، أصبح الآن في العراء ويقبل بأي عمل ليؤمن الطعام لعائلته. ثم إنّ العمال المياومين كثر في المدينة وهم يتكاثرون الآن بسبب البطالة وندرة فرص العمل”. “المياومون هم أكثر المتضررين الآن بسبب الأزمة الاقتصادية وبسبب إجراءات الإقفال. فمن كان يحصل على 30 ألف يومياً من عربة الفول أو الذرة أو العصير، يشتري بها الخبز والطعام لأولاده والبضاعة لليوم التالي، ماذا يفعل الآن؟”.

ويضيف العمر لـ”درج”: “هناك جمعيات تحاول تأمين حصص غذائية لكنّ ذلك لا يكفي فالناس لا يملكون أي سيولة لشراء الدواء أو الخضار أو دفع الإيجارات، الطعام ليس كل ما يحتاجه الإنسان ليعيش”. ويتابع العمر: “لذك نزل الناس إلى الشارع ليوصلوا رسالة إلى هذه الدولة النائمة التي تعاملهم بطريقة غير آدمية. ثم المساعدات التي يقدمها الجيش بقيمة 400 ألف ليرة للعائلات الفقيرة، لم تعد تكفي لشراء الخبز شهرياً في ظل هذه الظروف والغلاء”. ويؤكد أن “مشهد الاحتجاجات لا بدّ أن يتكرر فلم يعد أمام الطرابلسيين ما يخسرونه. لا شيء سوى طوابير المساعدات التي يتحاشاها كثيرون لأن كرامتهم عزيزة”.

وفق دراسة أجرتها الإسكوا بعنوان “الفقر في طرابلس” عام 2015، أي قبل انهيار الليرة والمصارف، تبيّن أن طرابلس مدينة فقيرة مع جيوب رفاه. يعاني 57 في المئة من أهلها من الفقر والحرمان، ومنهم 26 في المئة يعيشون في فقر مدقع ويصنفون في خانة الأشد حرماناً، بينما هناك 77 في المئة متعثرون اقتصادياً، و35 في المئة يعانون مشكلات صحية، ومثلهم يقطنون في مساكن غير لائقة، و25 في المئة محرومون من التعليم. وأوصت الدراسة بعدد من الحلول، لكنها تطايرت مع الريح كما كل الوعود التي قُطعت من أجل طرابلس.

“من كان يحصل على 30 ألف يومياً من عربة الفول أو الذرة أو العصير، يشتري بها الخبز والطعام لأولاده والبضاعة لليوم التالي، ماذا يفعل الآن؟”.

“منذ نحو سنة ونصف السنة لا تأتينا أي مساعدات لا من تيار المستقبل ولا حتى من غيره، على رغم الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب الذي نعيشه”، يقول حمزة (25 سنة) وهو يعمل في سوق الخضار، يقود عربة صغيرة وينادي على المشترين حتى يؤمن قوت يومه. “إذا ما اشتغلنا ما مناكل. وهلق الشرطة وين ما كان والإقفال تام. كيف مناكل؟”. ويردد بلهجته الطرابلسية، “كان ناقصنا كارونا (كورونا)”.

حمزة وشباب وشابات وأطفال ومسنون ومسنات، تُهدر أعمارهم من أجل أن يبقوا تحت وطأة الفقر والعوز والجهل وتبقى مدينتهم غارقة في الأزمات، بانتظار سياسيّ يوزع بعض المساعدات وآخر يعشمهم بالوعود والأحلام. ففي طرابلس (الكبرى) يعيش حوالى 850 ألف إنسان، وتعتبر الكثافة السكانية عالية جداً، إذ تصل إلى 7086 شخصاً في الكيلومتر المربع الواحد.

الناس في طرابلس باتوا يبيعون ثيابهم ليشتروا قارورة غاز وعلبة دواء، وفق ما يروي كثيرون لـ”درج”، ثمّ يلامون ويُضرَبون لأنهم نزلوا إلى الشارع من أجل الصراخ.

إقرأوا أيضاً: