fbpx

عندما جعلنا فوكو خادماً للاستبداد العربي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

التعامل مع الأنظمة المنفصلة عن مجتمعاتها، على أنها سلطات ضمن نظرة فوكوية، لا يساهم في خلق التباس حول هذه الأنظمة ويعطل فهمها انطلاقاً من ظروف نشوئها، وحسب، بل يخلق مبررات لسلوكها القمعي…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تُستخدم أدوات المفكر الفرنسي ميشال فوكو لفهم السلطة في بلادنا وتحليل مركباتها، بوصفها منتشرة في كل مكان وتتحكم بكل شيء ضمن رقابة مضبوطة. لكن، ما يصح في هذا الاستخدام، يبدو أقرب إلى النتيجة في عالمنا العربي منه إلى البنية. بمعنى أن بنية السلطات لدينا تختلف عن تلك التي فككها فوكو وارتبطت بالحداثة الغربية وسردية التنوير، ما يجعل الاستفادة من أفكار المفكر الفرنسي، مرتبطة بالنتائج والآليات، أكثر من ارتباطها مرتبطة بالبنية والتركيب، وعليه، الرقابة والتحكم والضبط، بسياقاتها العربية قد تتقاطع مع الفوكوية بوصفها آليات، في حين أنها تفترق عنها لناحية المرجعيات التي تساهم في خلقها.

فنقد الاستبداد العربي، ليس مثل نقد الحداثة الغربية، حتى وإن وُجِد تشابه في النتائج، فهذا ليس سوى خدعة يمكن أن تساهم في تبرير الاستبداد في بلادنا عبر مقارنته بما هو خارج سياقه. المقصود بالخدعة، إسقاط نتائج نقد الحداثة الغربية وما أفرزته من “سلبيات”، تحوّل الفرد إلى ضحية لنظام رأسمالي عملاق، على السلطات في العالم العربي، بحيث يبدو الفرد مسحوقاً في الحالتين، سواء كان موظفاً في شركة في الولايات المتحدة يخضع لنظامها ويُراقَب عبر كاميراتها، أو كان سجيناً في معتقل عربي يخضع لتعذيب ممنهج وانتهاك متواصل. ضبط الأجساد هو الحجة الفكرية التي يشهرها الفوكويون العرب، أو ناقدو الحداثة، وأحياناً الصواب السياسي، لرسم تقاطع زائف بين الحالتين، ضمن عبثية، تسقط المفهوم بشكل معلب، من دون العمل على تطويره ليناسب الحالة المحلية التي تشكل مسرحاً له. إذ يمكن أن يكون هناك فعلاً ضبط للأجساد، لكن عدم التمييز، بين مسارح هذا الضبط، والبيئات التي يتغذى فيها، يجرد المفهوم من ديناميكيته، وقد يحرمنا من الاستفادة منه، لفهم الحالة المراد بحثها وتفكيكها.

تحوّل الفرد إلى ضحية لنظام رأسمالي عملاق، سواء كان موظفاً في شركة في الولايات المتحدة، أو كان سجيناً في معتقل عربي يخضع لتعذيب ممنهج وانتهاك متواصل.

وصناعة الزيف هنا، لا تغفل السياقات التاريخية، وطبيعة السلطات المتحكمة، وظروف الضحايا، لكنها تساوي في درجة الألم، وهنا، ثمة بعد أخلاقي، لا بد من الإشارة إليه، إذ إن المعتقل الذي يخرج جثة هامدة ليس مثل الموظف الغربي الذي يعود إلى منزله منهكاً، المساواة بينهما، تجعل قتل البشر في بلادنا، أمراً مفهوماً، ضمن نظام يتحكم في العالم، وليس جريمة يمارسها نظام محدد الملامح.

والأمر يتجاوز أحياناً، رسم التقاطعات، نحو المفاضلة، إذ إن كاتباً استنتج في ختام مقال نقدي، حول رقابة وسائل التواصل في الغرب، أن الفرد يمكن أن ينجو من الرقابة في بلادنا العربية، لأنها أقل تحكماً. وانعدام التمييز، في هذه المقاربة، يجعل جمع آراء الأفراد والاستفادة منها اقتصادياً أو سياسياً، انتخابياً أو لفهم مزاج السوق، عبر حكومات أو شركات في الغرب، مساوياً لإلغاء الرأي نفسه في بلادنا. مع العلم أن هناك آليات وموجات اعتراض لمواجهة الحالة الأولى بينهما. ثمة عراء كامل حيال الثانية، على رغم ما حصل  من انتفاضات، بعضها تحول حروباً أهلية.

الأرجح أن الإشكال الأصلي يتعلق بتعميم مفهوم السلطة، وجعلها بنية واحدة، تتمظهر أحياناً في نظام رأسمالي وأحياناً أخرى في ديكتاتور عربي. وخطورة هذا التعميم، تتمثل بعدم التفريق بين طبيعة السلطة في الغرب، وتلك التي تحكم في بلادنا.

السلطة في الغرب تؤثر وتتأثر بجملة من العناصر المتعلقة بالاقتصاد والفكر السياسي وطبيعة النخب والأقليات وسواها، ثمة سياق ينتج الشيء ونقيضه، العدالة في القوانين والتفاوت الطبقي، حرية التعبير وآليات ضبط مرتبطة بالشركات وعوالم الانترنت، حقوق الأقليات وصعود اليمين، الصواب السياسي والعنصرية، وعليه، السلطة هي جزء من هذا الصعود والهبوط في القيم وتمثيلاتها، لكنها لا تتحكم بكل شيء.

هذا لا يعني أن السلطة في العالم العربي تتحكم بكل شيء، وحسب، بل يعني كذلك أن تفاعل العناصر التي تحكم الواقع عندنا، لا تسير ضمن حركة منتجة على غرار الغرب، بغض النظر عن سلبية هذا الإنتاج أو إيجابيته، إن كان بمثابة تحكّم بمعلومات فرد ما، أو قدرة هذا الفرد على التصويت في الانتخابات والتأثير بمجريات السياسة في بلاده. انهيار الطبقات الوسطى ورسوخ الطوائف والانقلابات العسكرية وتمركز الثروة بيد قلة، تحولات ارتبطت بتثبيت الاستبداد. أي أننا عانينا من شلل في تفاعل العناصر التي تكوّن حياتنا، بفعل سياقات تاريخية معروفة تتعلق بحقبة ما بعد الاستقلال وما تلاها من إخفاقات، كانت السلطة المتمثلة بالدولة، بينها.

الأرجح أن الإشكال الأصلي يتعلق بتعميم مفهوم السلطة، وجعلها بنية واحدة، تتمظهر أحياناً في نظام رأسمالي وأحياناً أخرى في ديكتاتور عربي.

ارتباط السلطة في الغرب بالاقتصاد والمؤسسات والسياسة والثقافة وحقوق الأقليات والشركات وسواها من العناصر الفاعلة، تتحول عندنا إلى انفصال، عبر نظام متغرب عن المجتمع، ويتحكم به، وليس سلطة تتفاعل معه. التفريق بين السلطة والنظام، مهم جداً هنا، ليس لناحية الشرعية السياسية ومؤسسات الدولة وحسب، بل أيضاً لناحية الترابط مع المجتمع، السلطة ترتبط بالمجتمع (وهذا يحتمل النقد طبعاً)، النظام يتحكم فيه، يستعيض عن المؤسسات بأجهزة الأمن، مثلاً. ما يعني أن نظرية فوكو، السلطة لا تتجسد في مركز الدولة فقط، بل تتوالد كبؤر في جسد المجتمع، يصعب إسقاطها عندنا، حيث الدولة نفسها غير واضحة، وتمدد السلطة في المجتمع خاضع لتكوينات اجتماعية، ترتبط بطبيعة مجتمعاتنا من عشيرة وطائفة وعائلة.

والتعامل مع الأنظمة المنفصلة عن مجتمعاتها، على أنها سلطات ضمن نظرة فوكوية، لا يساهم في خلق التباس حول هذه الأنظمة ويعطل فهمها انطلاقاً من ظروف نشوئها، وحسب، بل يخلق مبررات لسلوكها القمعي، على قاعدة: السلطة منتشرة في كل مكان، وتمتد من الحاكم مطلق الصلاحيات في البلاد العربية إلى الكاميرا الموضوعة في شارع في إحدى المدن الغربية. وهذا أخطر من الكلام غير العقلاني حول “كذبة” الديموقراطية في الغرب، و”مسرحية” الانتخابات هناك، ذاك أن ليّ عنق فوكو ليجيب عن أحوال استبدادنا، سينتج نصاً براقاً ومقنعاً لناحية التحليل، لكن نتيجته ستكون، على الأرجح ضد فوكو نفسه، الذي تُستَخدم أدواته ضده، يستفيد منه، في المحصلة، الديكتاتور العربي، الذي يجد نفسه طبيعياً في عالم يسبح في السلطة.

إقرأوا أيضاً: