fbpx

كنت في الثانية عشرة حين انتسبت لـ”البعث” ومشيتُ في مسيرات النظام

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كانوا يغرسون فينا تقديس القائد والخوف منه، كانوا يصنعون منّا عبيداً للأسد، وربما نجحوا في ذلك…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كنتُ في الثانية عشرة حين وُزِّع علينا في المدرسة طلب انتساب إلى “حزب البعث”، ورقةٌ نكتب فيها بياناتنا ونعلن من خلالها رغبتنا بالانتساب. لم ندرك حينها ما يحدث، ولم نعلم عن البعث إلا أنّه شيء مخيف، وأنَّ علينا ملء الأوراق ومن غير المسموح التفكير بعدم الانتساب. في سوريا إمّا أن تكون بعثياً أو لن تكون أيّ شيء آخر. ولإقناع الأطفال بأهمية الانتساب لحزب البعث، كان الأساتذة والمسؤولون عنا يقولون إنه في امتحان الثانوية لدخول الجامعة يمكن أن نحصل على بعض العلامات إن احتجناها للتسجيل في فرع ما، فقط إن كنا بعثيين. وكنّا أطفالاً نصدق ما يقوله الكبار، لكنني حتى اليوم لم أسمع بطالب واحد حصل ولو على علامة إضافية واحدة لأنه بعثيّ. كان ذلك مجرّد محاولات لإقناعنا بأهمية هذا الحزب الذي أدركنا لاحقاً أنه فارغ تماماً من أيّ قيمة إنسانية أو وطنية.

للسوريين حكاياتٌ طويلةٌ مع “حزب البعث”، تبدأ منذ لحظة انتسابهم إلى المدرسة وقد لا تنتهي، إنها حكايةٌ أطول من عُمرِ نظام الأسد، لكنها حين ارتبطت به باتت أكثر وحشية، وبات “البعث” بأهمية النظام ذاته. فهو في سوريا ليس مجرد حزب تنضمّ إليه أو لا تفعل، إنه طريقة من طرائق النظام لتدجين الناس. مع العلم أن الحزب وفق أحد مبادئه يؤكّد سعيه إلى وضع دستور يكفل للمواطنين العرب المساواة المطلقة أمام القانون والتعبير بملء الحرية عن إرادتهم. إلا أن هذا المبدأ يبدو من كوكب آخر، بخاصة أن ملايين السوريين يعانون بشكل يوميّ بسبب نظام الحكم البعثيّ في سوريا.

“حزب البعث مهمٌ جداً” 

عندما عدتُ إلى البيت، أخبرت والديَّ عن الورقة فقالا لي “اكتبي اسمك ووقّعي”، ولمّا سألتهما لماذا يجب أن أفعل ذلك؟ رددا بخوف: “حزب البعث مهمٌ”، ندركُ بعد مضي السنين أن أهلنا كانوا خائفين ولم يملكوا خياراً. يكفي أن تصل وشاية بأن عائلة فلان لم تنتسب إلى الحزب لتقع في مشكلة حقيقية مع الأمن السوريّ. 

في اليوم التالي، سلّمتُ ورفاقي إدارة المدرسة الأوراق مع المعلومات المطلوبة، من دون أن نفهم كيف أو لماذا، ومن دون أن يمنحنا أحد خياراً أو حزباً آخر لنفكر به، ولم يقل لنا أحد لماذا حزب البعث بالتحديد؟ ولم نكن نستطيع السؤال أو الاعتراض، ماذا تفعل طفلة عمرها 12 سنة عندما تُجبر على أن تكون بعثيّةً!

وهكذا غدوت “عضواً نصيراً” بعد امتحان أجريناه في مدينة مجاورة، كنّا في الخامسة عشرة عندما وزعوا علينا كتيّبات عن “حزب البعث”، أهدافه، مبادئه، تقسيماته الإدارية. حاولت حفظها بصعوبة، في كلّ الأحوال لم يرسب أحدٌ في الامتحان، حرصوا على ذلك، فحتى الذين لم يجيبوا على الأسئلة، نجحوا وأصبحنا جميعنا “أنصاراً”. فهمت حينها أنه ما من راسبين في امتحان الانتساب إلى حزب البعث، كأننا نولد بالفطرة بعثيين. لم أجرِ امتحان العضو العامل، وهو المرحلة الأعلى من العضو النصير حين بلوغ الثامنة عشرة. كانوا يجمعون الأسماء التي يجب أن تصبح أعضاء عاملين كلّ مدة، لكنني لم أذهب إلى الامتحان، وكان جارنا وهو رئيس الفرقة الحزبية في قريتي يتصل بين الحين والآخر، طالباً أن أذهب إلى الامتحان، لكنني لم أفعل. في يوم اتصل وأعلمنا بأنني أصبحت عضواً عاملاً، قلت “لكنني لم أقدم امتحان الترفع!”. فأجابت أمي، “هكذا أخبرني جارنا!”.

في سوريا إمّا أن تكون بعثياً أو لن تكون أيّ شيء آخر.

أُقيمتْ  الاجتماعات في الفرق الحزبية المنتشرة في كلّ حيّ وقرية وبلدة ومدينة في سوريا، الفرقة الخاصة بقريتي كانت عبارة عن غرفة واحدة، تنمو الأعشاب حولها وأمامها، ولكي نعبر الطريق إليها كنّا نبعد الأعشاب والأشواك اليابسة، حين نُجْبرُ على الاجتماع بين الحين والآخر. وإذا امتنعنا عن الذهاب كان جارنا يتصل بوالديّ ويخبرهما بضرورة ذهابنا أو “نُفْصل من الحزب” وكانت هذه العبارة تُرعب والدي فيرسلني إلى الاجتماع مرغمةً.

الخروج بالإكراه في المسيرة الأولى 

لاحقاً في الجامعة باتت تهديدات جارنا لا تعني شيئاً مع جواب والداي: ابنتنا تسكن في دمشق ولا تأتي إلى القرية. وهكذا تخلصت من رعب الاجتماعات الحزبية إلى الأبد. لكن سأدرك أنّني لم أتخلص من حزب البعث بل أن النظام يغير أشكاله في حياتنا ليبقى فيها، يتسلل إلينا من كلّ مكان، كالوباء، كأكثر مخاوفنا رعباً، لا يمكن أن نفلت منه، إنّه في كلّ مكان حرفياً. ففي الطفولة كان يُسمى مؤسسة طلائع البعث، نغني بأصواتنا القوية: “للبعث يا طلائع للنصر يا طلائع… ونحمل السلاح للوحدة التي سقاها أهلنا بالدم… نمشي إليها ثورة ووردة من دم”. كنا نمشي في رتل طويل عائدين إلى المنازل في القرية ونحن نغني أغنية الطلائع ولا نعلم معنى الدم ولا الثورة ولا النصر، وحين لا نغني أو نلعب ونلهو، يكتب عريف الرتل الأسماء المشاغبة ويعطيها في اليوم التالي لإدارة المدرسة، ونعاقَب لأننا لا نغني للبعث بصوت قويّ ولأننا لا نمشي كرتل من الجنود.

ما معنى أن تُعَلم أطفالاً لم يتجاوزوا العشر سنوات أقوال القائد الخالد، وتجعلهم يرددون شعارات حزب البعث بصوت عالٍ؟ سوى أنهم كانوا يغرسون فينا تقديس القائد والخوف منه، كانوا يصنعون منّا عبيداً للأسد، وربما نجحوا في ذلك، فاليوم وأنا أسمع بعض الأصدقاء والجيران يبدون محبتهم وتقديسهم للأسد، أستذكر كلّ ما جعلونا نمرُّ فيه، وأعلم أننا كلنا ضحايا لهذا النظام، بمزيج من الرهبة والخوف والتقديس صرنا شعباً مدجّناً بالفعل!

أي مؤسسة تنتسب إليها هي في النهاية تحت رعاية حزب البعث، حتى لو بدا العكس، فالبعث يدير ويشرف بشكل كامل على جميع مؤسسات الدولة ويحكم سيطرته عليها. في مرحلة الدراسة الثانوية غدا اسمه “اتحاد شبيبة الثورة” وفي المرحلة الجامعية “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا”، وكان أكثر أشكال البعث رعباً بالنسبة إليّ بخاصة أني عرفته مع بداية الثورة في سوريا. كنت في المرحلة الجامعية حين دقّت المشرفات أبواب الغرف في السكن الجامعي في دمشق بقوة، وأعلمننا أننا غداً سنخرج في مسيرة مؤيدة لبشار الأسد وأيّ تخلف سنعاقب عليه. تلك الأصوات التي كانت  تزعق أمام الغرف وتأخذ الأسماء، كانت كافية لنموت من الرعب. أنهين كلامهن بأن إدارة السكن الجامعي ستحرص على قطع الكهرباء والماء في اليوم التالي كيلا تترك فرصة لأحد للاختباء في غرفته. هؤلاء الفتيات المنتسبات إلى اتحاد الطلبة واللواتي يشغلن مناصب تتعلق بالإشراف ومراقبة الطالبات، لطالما فتحنا أبواب غرفنا من دون طرقها، كنا نسمي ذلك “كبسة” وكأنهن سيمسكننا بالجرم المشهود ولم نعلم يوماً ماذا يردن، إلّا أنهن يزرعن فينا خوفاً أكبر نحن الطالبات الآتيات من مدن أخرى ولا نملك المال لاستئجار منزل فنلجأ إلى السكن الجامعي.

 في اليوم التالي استيقظنا ولم نجد لا ماء ولا كهرباء، ارتدينا ثيابنا على مضض وأصواتهن تزعق مهددةً وخرجنا في أول مسيرة مؤيدة رغماً عنا، وزعوا علينا الأعلام السورية وأعلام حزب البعث وصور الأسد، حملتُ العلم السوري المرفوع بعصى صغيرة ومشيت بين الطلاب الذين خرجوا بالآلاف من السكن الجامعي في دمشق مرغمين. وكان أهل النظام والإذاعات الرسمية يتفاخرون بأكبر مسيرة مؤيدة لنظام الأسد ولكننا كنا جميعنا نعلم، من طلاب وموظفين ومعلمين، أننا مجبرون على الخروج، وأدركنا أن النظام أجبر مؤسسات الدولة والمدارس العامة على الخروج أيضاً. حين تأكدت أنني أصبحت بعيدة بما يكفي من أعين الواشين، تركنا المسيرة أنا وصديقاتي وهربنا، ومضينا في شوارع دمشق نضحك بانتظارانتهاء المسيرة كي تعود الكهرباء والماء إلى غُرفنا، وفي يدي العلم السوري الذي لم أجرؤ على رميه.

البعث يُصلِح الأمم المتحدة ويخرّب حياتنا

في لحظة استذكرت سنوات طويلة من البعث، تفاصيل الفرق الحزبية ورائحتها العفنة والأوراق المكدسة وصورة القائد الشاحبة في الوسط، حين قرأت خبراً عن إلقاء عضو قيادة شعبة حزب البعث محاضرة في جبلة في المركز الثقافي بعنوان “نظام الأمن الجماعي وضرورة إصلاح الأمم المتحدة”، لم يكن الخبر نكتة أطلقتها “شبكة الحدود” الساخرة، ولا خبراً كاذباً يتداوله السوريون، إنّه حدث حقيقي، قام به أشخاص مقتنعون تماماً بضرورة إصلاح العالم والأمم المتحدة، تكمن المفارقة في أن هؤلاء يعيشون في سوريا ويطمحون لتغيير العالم! 

الصورة التي انتشرت على “فايسبوك” شعبة حزب البعث في مدينة جبلة في محافظة اللاذقية غدت حديث الناس، وحرّكت داخل السوريين الكثير من اللحظات والذكريات. يظهر في الصورة 15 رفيقاً ورفيقة، يجلسون خلف مقاعد أشبه بمقاعد الدراسة ويستمعون إلى محاضرة عضو قيادة شعبة الحزب. هذه الصورة ليست غريبة عن السوريين الذين يعرفونها حق المعرفة، حين يذهبون مجبرين لحضور الاجتماعات الحزبية التي تبدأ بالشعار بصوت المحاضر: “أمة عربية واحدة” ليرد خلفه الرفاق والرفيقات: “ذات رسالة خالدة”.

ماذا يعني أن تكون في سوريا وتلقي محاضرة عن نظام الأمن الجماعي، فيما وحوالى 9.3 مليون سوري مهجّرون في أنحاء العالم؟ و83 في المئة من السوريين تحت خط الفقر ويفكرون بما سيأكلونه غداً؟ ما معنى الأمن الجماعي في واحدة من أكثر الأنظمة الديكتاتورية في العالم! أليست نكتة رغم كلّ شيء؟

وبينما يفكر حزب البعث بشكل جدّي في إصلاح الأمم المتحدة والأمن الغذائي الجماعي، يغرق السوريون في مخيمات اللجوء ويقبعُ آلاف السجناء في أسوأ ظروف اعتقال في العالم، ويعيش الشعب المحاصر في الداخل واحدة من أصعب الأزمات الاقتصادية. أما الحزب صاحب الرسالة الخالدة، فيدير ظهره لهذا كله،  متجهاً نحو إصلاح العالم.

إقرأوا أيضاً: