fbpx

طرابلس التي أعادتني إلى “الحزب الشيوعي”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إنها المدينة الوحيدة. هذا الصراخ هو صراخ المدينة، وهذا الحب وهذا العنف أيضاً…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

إلى خالاي أحمد وعبدالله

 قياساً بغيرها من المدن اللبنانية، طرابلس تستدرجك إلى التفكير بها أكثر من قريناتها. لكل منا نحن غير الطرابلسيين قصته مع هذه المدينة. هي مدينة حية فعلاً، تتقاطع عندها معظم المشاعر والوجدانات، وتشتغل فيها كل معضلات المشرق والمتوسط. كُتب عنها ما لم يكتب عن بيروت، وصرفنا وقتاً دافئاً وأليفاً في أزقتها وساحاتها ومقاهيها. الناس فيها يأخذونك إلى قصصهم على نحو لا يفعله أهل المدن المتحفظون عادة على جعلك في قلب قصصهم. في طرابلس وحدها تمكنا من لقاء أمهات “الجهاديين” وشقيقاتهم، وسمعنا حكاياتهن مع أبنائهن وأشقائهن.  

إنها المدينة، لا بل هي المدينة الوحيدة. الفقر فيها هو فقر المدن، وكذلك الوفرة والغنى. مفارقات الفقر بمحاذاة مفارقات الوفرة تماماً. مثلما التدين والمحافظة يجاوران الرغبة في كسر طوقهما. وطرابلس إذ استدعتنا إلى قصص إسلامييها وإلى تعقب وقائع قصصهم الصغيرة في أحيائها، لم تُشعرنا بأننا بعيدون من أنفسنا. قالت لنا هذا نحن وهذا أنتم، ولا داعي للمراوغة. وضعتنا بمواجهة أنفسنا التي نحاول أن نشيح بأنظارنا عنها.

وحدها طرابلس استدرجت الرواية إلى أزقتها. جبور الدويهي الزغرتاوي لم يوارِ القارئ عندما كتب عن حي الأميركان، وصهيب أيوب لم يشعر بحرج الكتابة عن أسرارها. أما خالد زيادة ومحمد أبي سمرا فقد نبشا مصارينها في غفلة منها. بيروت لم تفعل ذلك. بيروت مدينة بلا “مصارين” أصلاً! سبع عائلات ومرفأ وتنتهي قصتها. طرابلس هي عاصمة هذا الخراب وهذه الألفة، وهي حكاية مكتملة ومتواصلة.

ما يحصل اليوم في طرابلس هو امتداد لهذه الحكاية. الشبان الخارجون من الأزقة إلى ساحة عبد الحميد كرامي لكي يصرخوا في وجه الدولة التي تولت تجويعهم، هم أبناء السيدات اللواتي تحدث عنهم جبور الدويهي في “حي الأميركان”، وهم أبناء “أم اسميعين” التي نتعقبها بشوق وحب في بوستات صهيب أيوب، وهم أيضاً الخارجون من غضب محمد أبي سمرا في كتابه عن المدينة، والمقيمون خلف سور خالد زيادة في “يوم الجمعة يوم الأحد”. فهل من مدينة أكثر كرماً منت علينا بهذا العدد من الكتب؟

عليك أن تقصد طرابلس حين يذاع خبر عن انتحاري لبناني فجر نفسه في سوريا أو في العراق. العونيون الأغبياء يعتقدون أن هذه الحقيقة هي جزء من الموقع الرجعي والمحافظ للمدينة. يروجون ذلك في إعلامهم، ويشيرون إليه في تصريحاتهم. وطرابلس غير المنفصلة عن العالم، فعلت ذلك على نحو ما فعلته باريس واسطنبول وبغداد ودمشق. بيروت لم تقدم عليه لأنها مدينة مفتعلة ولأنها تُراقب نفسها وتقف أمام المرآة كل صباح. وبيروت وما أن يقترب الجوع من ابن لها حتى تطرده إلى عرمون وبشامون. طرابلس فعلت العكس تماماً. أغنياؤها صاروا خارج السور، فيما عائلاتهم ممتدة شرايينها في الأحياء الشرقية من المدينة.

إنها المدينة الوحيدة. هذا الصراخ هو صراخ المدينة، وهذا الحب وهذا العنف أيضاً. المدينة التي أوى إليها جدي الشيعي في خمسينات القرن الفائت وهضمته وهضمت أخوالي الذين صاروا طرابلسيين. المدينة السنية التي كانت ذات يومٍ عاصمة الحزب الشيوعي، والتي خرج عشرات الآلاف من أبنائها في تشييع قائد الحزب فيها أحمد المير الأيوبي. والتي تُشعرك أنت صاحب الأحكام الجافة أن للإلفة مصادر أخرى، وأن السِعَة ليست قصراً على مهرجانات بعلبك ودير القمر.

قصدت طرابلس طفلاً تأخذه أمه إلى منزل جده ومنزل خاله في السبعينات، وقصدتها مقاتلاً في صفوف الحزب الشيوعي في الثمانينات، وقصدتها صحافياً متعقباً الإسلاميين فيها في التسعينات ومطلع القرن، ولاحقاً قصدتها صديقاً لعليا وكاظم وما بينهما من أقارب وأصدقاء في منتجعات جنوب المدينة. وكل طرابلس من هذه الطرابلسات كانت تقول لي شيئاً مختلفاً، وتقدم رواية مختلفة عن نفسها. وحدها المدن من يفعل ذلك، ومن يجعلك حائراً بين حكاياتها، ووحدها من يقدم روايات مختلفة عن نفسه.

وطرابلس التي لا تكذب تقول اليوم القصة كما هي. تعيدني إلى الحزب الشيوعي وإلى قصة أحمد المير الأيوبي، وإلى خالي أحمد الذي صار شيوعياً فيها، وإلى خالي عبدالله الطبيب الذي أرسلته طرابلس إلى زغرتا وإلى بشري لكي يعالج أهل الجبال هناك. أما أنا، فقد أوفدتني إلى مدن “الجهاد” في العراق وأفغانستان في أعقاب تغطيتي وقائع ليلة رأس السنة عام 2000، حين أعلن ابنها بسام كنج إمارته هناك، وكان في حينها عائداً من كندا وعرج على كابول في طريق عودته إلى طرابلس.

اليوم تردّني طرابلس إلى ساحة الشهداء في بيروت، بعدما غادرتها قبل سنة من اليوم. فكل الحب لطرابلس.      

إقرأوا أيضاً:

  

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.