fbpx

رامي مخلوف … السلطان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

استطاع رامي منذ البداية فرض سطوته على الساحة السوريّة الاقتصاديّة والسياسيّة، من دون استعطاف أيديولوجيّ أو تأييد جماهيري حتى، وحين التجأ إلى الظهور الاجتماعي والتقرّب من الناس، كان سبب ذلك فقدانه القدرة على متابعة ما أسس له…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يكن رامي مخلوف سوى سلطان، هذا ما كشفته الأيام السوريّة الطويلة. سلطان في إمارة سورية كثيرة المفاصل والقوى، لكن ليس بوسعنا أن نقول إلا أنّ رامي من أهم السلاطين السوريين، الذين تعاقبوا على مفاصل الحكم السوري. استخدامنا كلمة سلطان، وهو أحد ألقاب رامي مخلوف في سوريا، كسلطان للأعمال والأموال، يبدو دقيقاً، من دقة معنى المصطلح في أصله اللاتيني. فالسلطان يأتيه النمو والتقلص، ويملك الطبيعة التوترية دائماً. في بداية الثورة السوريّة، توجّه رامي مخلوف بلا تفكير نحو الصحافة. لكن فقره الأيديولوجيّ جعله أضحوكة سوريّة مكررة، حينما جعل أمن إسرائيل من أمن النظام. فمن ينسى المقابلة الشهيرة التي استحوذت على الواجهات الإعلاميّة للمعارضة السوريّة والنظام نفسه، الذي سارع بدوره إلى دفع رامي مخلوف لإنشاء مؤتمر إعلامي، تبرّع فيه بأمواله. وسريعاً ما تبين أن ذلك كان مزيّفاً؛ إذ لم يتبرع رامي بشيء أبداً، وثائق كثيرة أثبتت زيف تبرعاته.

لرامي مخلوف هوس بالظهور الاجتماعيّ، هذا ما سنعرفه لاحقاً، أو أنه ندمٌ متأخر يحاول ترميمه الآن.

 لم يكن رامي ليهتم بالوجود الاجتماعي، أو بوجوده العلني داخل الهيمنة الاجتماعيّة التي أمّنها أبناء العائلة الأسديّة بالتراكم الإيديولوجي والقهري. الإطلالة الوحيدة لرامي كانت “جمعية البستان الخيريّة”، وجهه الاجتماعيّ الوحيد، إذ كانت كافية له، بخاصة في محيطه العائلي والطائفي. يحمل رامي نتيجة صلة القرابة بينه وبين بشار الأسد، شعوراً بالواجب يدفعه إلى السيطرة على الاقتصاد السوريّ. فانتفاخ رامي الاقتصادي، وسيطرته على مفاصل الاقتصاد وعلاقاته والمنتجين فيه، جعل العلويين في موضع استفهام.

هل البلد بات لرامي مخلوف؟ هذا السؤال العمومي الواضح قد طُرِح تحت قبة البرلمان أيضاً. وضعت أحزاب يساريّة مشاريع رامي ومؤسساته أمام نوع من المساءلة، ما جعله تحت المراقبة دائماً. في ذروة الاحتجاجات المكتوبة للمعارضة السورية، اعتقل الأمن عناصر من اليسار المعارض في سوريا، بحجة تجاوزات اقتصاديّة تسيء إلى الوطن. وأخبرنا معارض يساريّ ومعتقل سابق عمّا طُلِب منه في المعتقل، إذ أجبروه على كتابة تقرير عن فساد رامي مخلوف لرفعه إلى الجهات المختصة.

 كل هذا ذهب هباءً، كان رامي يسيطر على كلّ شيء من دون أي رقابة، ومن دون أن يظهر حتى، فقد اقتصرت أخباره على ما يُنشر عبر مؤسساته وبياناته الاقتصاديّة العامّة، التي كانت تتبناها مؤسسات الدولة بوزاراتها كافة. فحينما حاول سليم ألتون مثلاً -وكيل شركة “هيونداي” في سوريا- التملّص من الدخول في صفقات “شام القابضة” التي أسسها رامي مخلوف، وأدارها هيثم جود، عوقب الألتون في اليوم التالي بمنع دخول سياراته إلى سوريا، بحجّة مخالفتها المواصفات السوريّة. وعودة الألتون إلى رشده المتوافق مع مصالحهم أعادت سيارات “هيونداي” إلى سوريا. هذا مثال بسيط عن الاقتصادي الذي أهمل المجتمع، وأهمل أيّ قيمة لوجوده، سوى دلالة تسلّط الميليشيات الاقتصاديّة. مهندس إنشاءات صناعيّة في دمشق أكدّ لنا أن احترافية رامي مخلوف المهنية عالية جداً، ويملك أكبر كادر مهنيّ شديد المعرفة والتقانة، وبذلك فإنّ استعداداته اللوجستية جادّة دائماً ومثيرة وذات أهميّة تدل على كادرٍ اقتصاديّ ملائمٍ لنطاق عملٍ يتجاوز حجمه حجمَ سوريا. هذه الخبرة ذات منشأ خارجي إذاً، لكن رامي وضع جهداً لا بأس به لضبط الاقتصاد السوريّ الداخلي والسيطرة عليه. ولم يحجب أعماله عن أي قطاع يُمكنه استعماله.

امتلك رامي مخلوف بُعداً أمنياً من سيطرته على قطاع الاتصالات. كانت الحجة آنذاك أنّ “الرئيس الأسد لا يستطيع وضع شبكة الخطوط المحمولة في يد شركات عالمية لكي يحمي أمن الوطن”، ولأن الأقربين أولى بالمعروف كان على رامي أن يحمل قطاع الاتصالات السوريّة كأمانة، هذا ما يُشيعه النظام، ليبرر تضخّم حجم رامي مخلوف، أما بين الجموع السوريّة ذات الطبيعة الساذجة، فيُقال: “أعطى الاقتصاد لابن خالته لكيلا يُسرَق البلد”. في عودتنا إلى المجتمع السوري لم يحصل السوريون سوى على الصدقات من رامي مخلوف. لا يعمل رامي مخلوف كجمعية خيريّة، لا يملك بيانات ووثائق. وفي التعامل مع المجتمع السوري، يعُامِل رامي مخلوف السوريين من دون حداثة إدارية، وفقاً لمبدأ المعارف والقرابة والوساطات، الأمر الذي جذب الكثير من عامّة الناس إلى جمعيات رامي. وعلى رغم مساعدته عموم الطوائف، إلا أنه لم يفتح مركزاً مسجلاً في دمشق أو حلب أو دير الزور، وجوده في الساحل، قرب قريته وتحت اسمها حمل طابعاً شعبيّاً، وبهرجة لأبناء الطائفة. نحج رامي في التغلغل في الساحل، بمساعدته فقراء العلويين من خلال توفير مستلزمات صحيّة وعمليات مستعصية، لينال بذلك قبول قلّة من جمهور العلويين. هذا تحديداً ما كان يعنيه؛ أي إضفاء البساطة العلويّة، على دور رجال السلطة ليظهروا كأشخاص خيّرين، وبسطاء طيبين. فقر السوريين وعجزهم، أمام سطوة المال والأبنية الحديثة والسيارات الفارهة والقصور، كان يُغيّب بأدوار الرجال الخيّرين، إنها طهارة مصطنعة أخفت وراءها الكثير من الخداع والدناءة. دروشة يتم الحفاظ عليها لنزع فكرة الدولة المؤسساتيّة والاجتماعيّة. الوفرة السورية تتحول لاستحالة بالنسبة إلى الشعب الفقير، لكي يأتي بعد ذلك دور مخلوف البطولي في إنقاذ بعض الفقراء والدراويش بملايين الأموال مجهولة المصدر. أما استهداف العلويين فقد كان يحمل طابعاً خاصاً للتفرقة، إذ إنّ قبولهم العيش ضمن النسيج السوريّ، قد صوّرهُ النظام على أنّه خطر ورعب، وزكاة السلاطين العلويين عُدَّ مكرمة وعطاء غير منتهٍ، وتحقيقاً لأمان العيش.

لم يتطرق رامي لأي بُعد طائفي واضح في أعماله، على رغم معرفة الجميع بالطابع الطائفي لعمل منظّمته الخيريّة. رامي في الوقت ذاته يملك حسّاً سليماً في العمل، لذا ابتعد من توزيع الوظائف بطريقة طائفيّة، وأبعد عائلته أيضاً من نطاق عمل مؤسساته. ابتعاده من العائلة والطائفة يبدو تقنياً في التمايز الوظيفي بين عمله المهني وتفكيره وسلوكه الطائفي والاجتماعيّ. حتى إننا في مراجعة سير وأعمال بعض الأطراف من عائلة رامي، لم نشاهد أسماء من العائلة في قمة الهرم الإداري لأعماله. رامي يبتعد من العائلة أيضاً؛ ففي مقابلة لنا مع أفراد من عائلته، أكدوا لنا أن رامي يخصص رسولاً للتواصل مع العائلة، وقد عاش أغلب أوقاته قبل الثورة السورية في لبنان. 

لقاء مع مرافقه الشخصي

لقاؤنا الطويل مع مرافق رامي مخلوف الشخصي السابق كان مثمراً: “لم تذق عائلة رامي مخلوف الخبز السوري يوماً”، خبزهم اليومي يأتي من لبنان، ولا يستهلكون أيّ منتج سوري في غذائهم. يعيش رامي في بنية مختلفة عن البنية السورية، وحتى عن بنية النظام وشخصياتها. قلما عَرِف رامي سوريا أو سار فيها، كان لبنان الأقرب إليه في كل شيء، يومياته وصلاته ونطاق أعماله، وحينما يصل رامي إلى سوريا، يصبح تحت حماية الحرس الجمهوري؛ إذ يُفرز له عناصر من الحرس الجمهوري، ويحرص هو نفسه على أن يتدرب على رياضات قتالية.” وحينما سألنا مرافقه عن زيارة رامي الساحل أو علاقته بأهله، أخبرنا: “لا يزور رامي اللاذقية أو ريفها أبداً، إلا إذا تحرك الرئيس السوريّ بذاته إلى اللاذقية، فهو لا يبدو سعيداً داخل سوريا أبداً”. 

في بداية الثورة خرج كل مرافقي رامي الشخصيين عن سيطرته، فاكتفى بحرس القصر الجمهوري، لكن أغلب الظن أنّ أبعاداً أخرى بدأت تولد في حياة رامي؛ فما إن بدأ حصار رامي اقتصادياً من دول العالم، وقوبل من الجميع بالسخرية والمساءلة، حتى تحول نحو الاحتكاك بالمجتمع بطريقة هوسيّة. يبدو أن تقييده عالمياً، وحصر قدراته على السفر والتنقل قد أذاه حقاً، لقد تذكر رامي أن مصدر دخله الوحيد من هذه البلاد التي باتت تلفظه الآن وتحاول إخراجه وابن خالته منها. تذكر رامي العلويين ها هنا. فبدأ يقيد مصاريف مؤسساته، ويقلل من مراكز الخدمة، وذلك دعماً للجيش بحسب وصف شركته. وتخفيف المصاريف، وِجِّه لدعم الدولة السوريّة. هنا تظهر مخاوف رامي مخلوف، الذي بدأ يكتشف أنّ ابن خالته في خطر، وأنّ عليه التفكير في السياسة، من دون أن ينظر إلى السوريين وكأنهم قطيع مُسيّر، أو أن العالم قادر على فهم معادلته عن إسرائيل بسهولة.

“الدفاع الوطني”

في الحرج من المجتمع الذي لا يعرفه رامي إلا عبر الصدقات والمكرمات، بدأ الخوف يتزايد من حجم الوفيات السوريّة، واتساع التمرّد ضد النظام، ومحدودية التدخل الإيراني في مواجهة الثورة السورية، إذ أوجدت إيران في بداية الأمر حلاً جوهرياً، حلّاً مفاهيميّاً قائماً على الأدلجة الدينية، التي أحرجت النظام في بداية الأمر، لكنه سرعان ما وافق عليها بصورة غير علنيّة، فتشكّل في إثر ذلك على الطريقة الخُمينية في النظام الديني العسكري ما سمّي “الدفاع الوطني”، الذي كان ميليشيات قائمة لتكون رديفة للعسكر النظامي. وقد دعمها رامي بكلّ صدق، وبذلك استطاعت مؤسسته الخيرية التوسع والتقرب من العلويين، إذ خصص رامي علاجاً إسعافيّاً وعمليات جراحيّة ودعماً خيرياً لجرحى الدفاع الوطني وأمثالهم. رغب رامي في تأسيس دعم للعلويين الذين فقدوا كثراً من شبانهم في معارك سوريا المفتوحة، وباتت مؤسسته الخيرية تميل إلى العمل مع الشيوخ العلويين الذي سارعوا إلى دعم الطائفة والانصهار فيها ومحاولة تأجيج اندفاعها ضدّ الثورة التي تجلّت بشقها العسكري كما الاجتماعيّ، تجلّياً طائفياً دينياً خالصاً في الكثير من مظاهره العسكرية. في هذا الصراع قدّم رامي مخلوف الكراسي البلاستيكية والخيم لإقامة مجالس العزاء مجاناً، قاسمته في هذا التبرّع – بصراعٍ خفي- “مؤسسة الرسول الأعظم” التابعة لإيران في سوريا. هنا، بدا رامي أكثر فأكثر مهتمّاً بالفئة الاجتماعيّة التي عليه تذكرها والانخراط فيها. فأمر شركاته مثلاً بأن تنشر إعلانات هائلة عن قداسة الجيش، كصور الجنود ذكوراً وإناثاً، والمتطوعين في النظام العسكري بصورة غير مباشرة. كانت تلك استدانة من النازية أحياناً، استدانة حادة في شعاراتها العسكريّة، لم تنقل النظام إلى أي حالة يرى فيها الوضع السوريّ بوصفه صراعاً اجتماعياً أو سياسياً. أكلت “سيرياتيل” شركة الاتصالات التابعة لمخلوف، السماء والأرض السوريّة بإعلاناتها التي تحتفي بالجيش والموت. كان رامي باذخاً جداً في سبيل أن تبدو البلاد وكأنّها تواجه خطراً يحدق بأقدس أقداسها -مؤسسة العنف- الجيش.

إقرأوا أيضاً:

الرعب وهلال الأسد

كل شيء يبدو مرعباً في عيني رامي، والوصول الإيراني كان خلقاً لسلاطين جدد غيره، كان على رامي وأمثاله أن يحذروا من وصول ما يبدو جديداً كلياً على البلاد. من تلك المخاوف نمت القوة العسكرية صورة ومعنىً وتأثيراً؛ ليظهر بعد ذلك هلال الأسد في الساحل، الذي صنع هالته الدينية بين العلويين بالاستعانة بشيوخهم. ألزم هلال الأسد منتسبي الدفاع الوطني من العلويين والشيعة حضور الدروس الدينيّة العلويّة، والانصياع للمحاضر الديني. ثم أخذت إيران -الداعمة للدفاع الوطني-  الجنود والمنتسبين إلى تلك ميليشيات، إلى دورات تأهيل عسكري وديني، ونظمت إثر ذلك رحلات حج، لشيوخٍ علويين وذوي شهداء وغيرهم. بهذا بدا النظام ضعيفاً في خلق هيمنة اجتماعيّة منتجة؛ إذ لم يستطع “حزب البعث” الامتثال للأيديولوجيا الدينية بصورة واضحة، فترك ذلك لإيران والسلاطين الذين أعلنوا الولاء لها، بعيداً من دوائر الدولة الرسمية. كان دور رامي المتعاطف والصحي والإسعافي الرحيم يتلاشى تدريجيّاً. فقد بدا الإيرانيون أكثر ظهوراً، ووفقاً لرؤية عامة للاقتصاد السوريّ، فقد تكفّلت إيران بدعم الدولة السوريّة بميزانية جيدة يرفد فيها النظام خزينته. ثم وصل الروسيون، الذين أراحوا العلويين من خجل التقرّب من إيران والولاء لها، واختلق النظام حيلاً كثيرة لتهميش الدور الإيراني في سوريا كُلياً، بل حتى إنّه أخرجهم من المدن نحو الأرياف كوجود عسكريّ، وأغلقت مدارسهم وألغيت كياناتهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة. أعاد الروس لرامي مخلوف أنفاسه، لقد تنبّه بوجود سلاطين المؤسسة العسكرية الروس، إلى ضرورة إيجاد مكان بعيد من المؤسسات الاقتصاديّة المشبوهة التي يمتلكها، ليكون بعيداً حتى من أعين السوريين الذين ضاقوا ذرعاً بأمراء الحرب واتساع سطوتهم الاقتصاديّة في ظلّ مآسي الحرب. كان رامي ها هنا يملك ميليشيات أيضاً، إذ سلّح وبعيداً من الإيرانيين، ميليشيات لم يزد عدد المنتسبين إليها عن أربعة آلاف مقاتل- وفقاً لمصدرنا- الذي أخبرنا بأن هذا الرقم هو رقم الرُّخَص الأمنية لحمل السلاح المعطاة لـ”جمعية البستان”، التي ألغتها الدولة السوريّة عام 2019. كان رامي يحتاج انطلاقة جديدة للهيمنة الاجتماعيّة، ليثبت من خلالها وجوده أمام الروسيين، لا سيّما أنّ الروس رفضوا حالة انتشار السلاح العشوائيّة في سوريا، ما جعل رامي يلجأ بعناد ونوستالجيا إلى ذاكرته؛ مسترجعاً البُعد السياسي لعائلته، فيعيد فتح الأبواب مع الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعي، أملاً منه بقبوله عضواً إدارياً بينهم. لكن الحزب رفض- وفق مصدرنا في الحزب القومي- الذي أخبرنا بأن رامي كان يحاول دائماً دعم الحزب بصورة غير مباشرة، إلا أنه عام 2018 حاول دخول الحزب أملاً منه باستلام منصبٍ عالٍ فيه. كان الحزب القومي آنذاك يحمل السلاح في وجه الجناح المسلح للمعارضة السورية. الحزب القومي بقيادته اللبنانية تعرّض لصدمة في أثناء وضع الدستور السوريّ الجديد عام 2012، وقانون التعددية السياسية، الذي منع وجود قيادة حزبيّة خارج حدود الجمهورية العربية السورية، ما جعل الحزب منقسماً إلى قسمين. وعام 2017 حصل “المركز” (قيادة لبنان) على الترخيص تحت اسم “الحزب السوري القومي الاجتماعي- المركز”، واحتفظ بميليشيات “نسور الزوبعة”، متجاوزاً قانون التعددية الحزبية. الترخيص لم يعنِ الكثير لـ”المركز”، إذ واصل العمل في الفترة ما بين 2012-2017، بكل أريحية في سوريا، وقاتلت ميليشيات “نسور الزوبعة” التابعة له، إلى جانب قوات النظام.

رامي وانشقاق الحزب


تشير المصادر إلى وقوف رامي مخلوف وراء الانشقاق الذي ضرب الحزب السوريّ القومي الاجتماعيّ في سوريا، مستغلّاً قانون التعددية الحزبية. وارتبط عمل “جمعية البستان الخيرية”، والميليشيات المسلحة التابعة لها منذ ذلك الوقت، بميليشيات الحزب السوريّ “الأمانة”، فعاد رامي إلى واجهة العمل السياسي، وحاول تفعيل هيمنة اجتماعية فعّلها باكتساب الآلاف، ممن ساعدتهم جمعية البستان الخيريّة، ودفعهم إلى الانتساب للحزب القومي، وشق كوادر الحزب القومي التابعة للبنان بدفعه مرتّبات ضخمة لها من أجل استقطابها، وحاول تكريس جهده للعمل السياسي والاجتماعي المنظم، لا سيّما بعد منع الميليشيات من حمل السلاح بسهولة وعشوائية، وذلك بأمرٍ من الروسيين. لم يمنع النظام خلال عامي 2017 و2018 نشاط حزب رامي خلوف، ولا احتفالاته الكثيرة وسط الشوارع السوريّة. وبذلك وجد رامي منفذاً ليبقى على الساحة السوريّة. تغير رامي مخلوف كان سببه بلا شك ازدياد الأطراف التي تقود الحياة السياسية السوريّة ومخرجاتها، وظهور سلاطين أكثر قوة وسيطرة، ووفقَ مصدر اقتصاديّ فقد بدأ رامي مخلوف حينها يشعر بالغبن والحقد على النظام السوريّ لصعود تيّار اقتصاديّ جديد في الحرب دون رقابة رامي وسيطرته عليه. كان النظام يسمح لمئات الاقتصاديين بالوصول إليه لإصلاح علاقاته، لا سيّما أنهم كانوا من الخليج أو فيه، منهم سامر فوز الذي كان ذا قوة في دول الخليج وغيره من أصحاب رؤوس الأموال المسيحيين المقرّبين من روسيا. يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، ازداد التدخل الروسيّ، ورأى بعض المحللين للوضع السوريّ الاقتصاديّ والسياسيّ أنّ حصار الأسد كان ضروريّاً؛ لإرغامه على اللجوء إلى قدرته الاقتصادية الخاصّة جل إنقاذ حكمه وتسيير أمور السوريين التي باتت شديدة الصعوبة. وقد نشأ خلاف لا نعرفه بين الأسد ومخلوف، لكننا بلا شك نعرف آثاره. فافتتح النظام حربه على رامي مخلوف منذ بداية عام 2019، بعدما أمر الروس الأسد بإلغاء الرخص الأمنية للأحزاب السياسيّة والميليشيات الإيرانية ووضعها خارج المدن وإداراتها، وحينما وصل الأمر إلى “جمعية البستان الخيرية” وحزب رامي القومي، ارتاب رامي وعناصره، وحصلت ملاحقات أمنية لمسؤولي مؤسسات مخلوف حتى تم اعتقالهم، الأمر الذي شكّل تحذيراً وإنذاراً لرامي في أن وصوله الاجتماعيّ قد انتهى. وصولاً إلى عام 2020، حين كان رامي مكتفياً بـ”جمعية البستان الخيرية”، بصورة قاصرة ضيّقة النطاق؛ فلم تعد خدمات رامي كافية أو جيدة. توقفت نشاطات الجمعية بشكل كُلي تقريباً، وأغلق الحزب وانحلت قياداته الحزبيّة كاملةً، وخضعت لتحقيقات أمنية، وتم إجبار أفرادها على توقيع أوراق بالولاء لبشار الأسد وترقين قيد انتمائهم الحزبي

الخلاف مع النظام

عام 2020، خضع رامي لقسوة النظام، بعدما نشبَ خلاف كبير بين رامي مخلوف واقتصاديي البلد وزعماء الحرب فيه؛ إذ بدأ الخلاف مذ ساوى بشار الأسد رامي مخلوف بالمستثمرين الجدد، ووضعه معهم في منزلة واحدة حينما طالبه بإيفاء المبالغ وجداول المدفوعات التي طالب بها المستثمرين الجدد أيضاً. رَفضُ رامي الدفع جعل النظام على مفترق طرقٍ معه، ونَزعَ رامي من الواجهة الاجتماعيّة التي حاول تأسيسها، فأُخِذَت منه “جمعية البستان الخيرية” واعتقِل كوادرها، ووضع الأسد وزوجته إداريين جدداً للجمعية، كان منهم مدير ضريح حافظ الأسد وموظفون سابقون في مكاتب زوجته. عندئذٍ بدا رامي محاصراً فانبرى بقوة لم يألفها أي أحد من أركان النظام في الداخل، لفتح باب الكلام الصريح عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ. لم يوجّه مخلوف آنذاك أيّ تهديد واضح للنظام، إلا أنه في أثناء اختفائه ظهر أمران جعلا السوريين سعداء لتهميش رامي مخلوف؛ الأول هو مظاهر الرفاهية التي يتنعم بها ابن رامي مخلوف في دبي، ما دفع السوريين إلى الهجوم الحاد عليه بعد استعراضه تَرَفِه وسياراته باهظة الثمن. أمّا الأمر الثاني، فقد تمثّل بتوقف الحرب نسبيّاً بشقّها العسكري، وما تَبِعَ ذلك من بروز الاستعراضات المالية لأمراء الحرب الجدد. تهرّب رامي سريعاً من هذا كله، بمحاولته التماهي مع حالة أيّ مظلوم سوريّ يرزح تحت وطأة الفساد الحكومي بحسب وصفه. حينما تمّ وضع حارس قضائيّ على شركة “سيرياتيل”، الشركة التي زعمَ أنّها أعطت السوريين جُل أرباحها ودفعت كلّ الضرائب، وأنها لطالما أطعمت الفقراء وساعدتهم من خلال التبرع بأرباحها. رامي في إطلالاته الأولى على مواقع التواصل، كان يعترف بتبعية شركاته وولائها للنظام السوريّ، ثم لا يلبث أن يُظهِر نفسه كمواطن عادي يتظلم إلى رئيس الدولة. بدا رامي جزءاً من المأساة السوريّة، أعتى اقتصادييها يظهر متلعثماً من دون أيّ رؤية واضحة لما يُريد، ويتحدث عن اقتصاد بلد كامل بطريقة مخجلة. هل هذا سلطان المال والأعمال الذي يعتمد عليه النظام؟ هل هذا وريث عائلة سياسيّة عريقة في الحزب القومي السويّ الاجتماعيّ؟

أدرك رامي أنّ آليات النظام السوريّ في تحطيم شركاته واسمه، هي الآليات ذاتها التي استخدمها هو ضدّ أي منافس اقتصادي له. كان رامي يشبه القذافي حين رأى نفسه ينزف دماً ولم يصدق ذلك. تجريد رامي من كل تابع له في الداخل السوري هو أمرٌ غير متوّقع أو محتمل بالنسبة إليه، ما جعله متفكك الشخصية، يتكلم تارةً كرجل دولة، وتارةً أخرى كلاهوتي يرتجل كلمات دينية متلعثمة، ويفسرها وينتهج تأويل الزمان والظروف والمصائر بطريقة اعتباطيّة. قبل تقهقر ظهوره الاجتماعي وتحوّله إلى الخطاب اللاهوتي، كان رامي يتعرض لصفعات متتالية. اعتُقِل جميع مديري شركاته في المحافظات، واقتيدوا إلى دمشق. وبحسب جهة إداريّة عالية المستوى في دمشق، فإنّ سيارات أمنية وصلت إلى فروع “سيرياتيل” وشركات رامي المختلفة، لتجبر الموظفين على توقيع أوراق تثبت ولاءهم للنظام السوري بقيادة الرئيس بشار الأسد، وأنهم لا ينتسبون إلى أيّ جمعية أو كيان سياسيّ أو اجتماعيّ يهدد أمن النظام. كان رامي يختفي تدريجيّاً من ذاكرة السوريين عامّة والفئة المقربة منه أيضاً، تلك التي صنعها وحاول شراءها بماله الكثير. في منتصف عام 2020 بدا رامي منعزلاً، انتهت السياسة وآثاراها والعمل الاجتماعيّ أيضاً.

بدا رامي مُحطّماً أكثر من أي وقت مضى، فما كان له سوى أن يلجأ إلى الله، أشار إلى ذلك بعض شيوخ العلويين؛ إذ إنّ الأمن السوريّ لم يمنع عن رامي زيارة الشيوخ، وقام رامي من أجل ذلك بشراء مكاتب دينيّة علويّة من اللاذقية وطرطوس. وقد أوضح لنا شيخ علويّ عالي القدر أنّ رامي يدرس الدين منذ الشهر الخامس لعام 2020. من هنا نفهم تحوّل لهجة رامي، التي كانت تعبيراً عن المرحلة الأخيرة من صدمةٍ أوصلته إلى ما يسمّيه النفسيّون تفكك الشخصية، المترافقة مع تغير المسالك النفسية التي يعبّر بها ويعبّر عنها، متأرجحاً ما بين المظلوم، العاطي، المضحي، المستكين، المهزوم، القوي، والقادر. ما عاد السوريون يعتبرون رامي إلّا كبقايا حيرة واضطراب ناجم عن صدمة قوية بانهيار قوى ابن خالته من جهة، وخسارة لعبته الاقتصاديّة ومشاريعه في سوريا كاملةً، من جهة أخرى.

 وجد رامي نفسه محاصراً برابحين اقتصاديين يسلبون منه سطوته الاقتصاديّة، فضلاً عن مخاوفه من فقدان النظام كلّ شيء وزواله، على رغم أحقاده الدفينة على النظام  التي تراكمت، لا سيّما بعدما طالبه الأسد بالتنازل حتى عن ثروته وعلاقاته الاقتصاديّة التي بناها في الخارج؛ فقد أقرّ مخلوف بقدرته على قيادة مشاريع ضخمة خارج البلد والالتفاف بذكاء على العقوبات الاقتصاديّة والسياسيّة المفروضة على سوريا. لم نعد نعرف رامي، نحن السوريين الذين لم يعرفوه إلّا بعد ظهوره الأول في بثٍّ مباشر من دون تعديلات فنيّة. رامي الذي كان يسلك في كل ظهور له سلوكاً نفسياً يعبّر عن محاولاته الوصول إلى السوريين والتقرّب منهم. تميل كلماته وألفاظه إلى اللهجة الطفولية، المتأثرة بألفاظ دينيّة مرجعها طفولته التي عاشها في الساحل وما لقنّه إياه شيوخ الطائفة العلويّة من تعاليم، فهل هذا يجذب العلويين؟

لا شك في أنّ رامي مخلوف أثر في الطائفة العلوية، وفي الذين دعمهم حقاً، إلا أن كل محاولاته للبروز الاجتماعيّ لم تكن سوى محاولات آنية؛ فلم يحسب رامي حساباً لذاكرة السوريين أبداً، وانتقائيتها وظروفها، ربّما لأنّه لم يؤسس ما يبدو أخلاقياً وآثراً في العقل السوريّ. ولم يعرف أن تجارب مماثلة لتأسيس هيمنة اجتماعيّة من قبل أشخاص علويين قبله، قد باءت بالفشل، منها محاولة عمّ الرئيس السوريّ جميل الأسد الذي أسس، كما ذكرنا سابقاً، لمشيخة دينية يترأسها بذاته إبّان الثمانينات، وقد أغلق حافظ الأسد جمعيته بقسوة. حاول كثيرون إنشاء معنى ما لدى هذه الطائفة الصغيرة، لضمان الدعم وتشكيل قاعدة جماهيريّة ذات أهميّة ووجود راسخ، إلا أن ذلك قوبل بالفشل.

استطاع رامي منذ البداية فرض سطوته على الساحة السوريّة الاقتصاديّة والسياسيّة، من دون استعطاف أيديولوجيّ أو تأييد جماهيري حتى، وحين التجأ إلى الظهور الاجتماعي والتقرّب من الناس، كان سبب ذلك فقدانه القدرة على متابعة ما أسس له، من دون إرضاء عامّة السوريين وأبناء طائفته تحديداً. أمّا الذين تأثروا برامي مخلوف من العلويين، فقد كان همّهم الوحيد ألّا يستحوذ مستثمرون سُنّة على الاقتصاد السوريّ وأمواله، لكن ذلك بات وهماً يدركه العلويون أنفسهم. لقد انتزعت الطائفية إلى حد كبير من عقلية السوريين؛ فتكشّف الحقائق، وإفلاس النظام السوريّ وكشف ألاعيبه وفساد إدارته ونظامه المالي الأوليغارشي، فضلاً عن ذله وحصاره من الدول التي باتت تتقاسم أرض البلد وخيراته من دون أي حماية أو مردود، كل ذلك جدد الوعي الجماعيّ للسوريين وجعل حتى بسطاء الشعب وعامّتهم أذكى من الوقوع في أيّ فخٍّ طائفي، ذاك الوعي الذي كان سببه السحق التام للسوريين وخساراتهم الكبيرة. 

في صدمة رامي معنى ذاتي ونفسي بحت، فنحن نشاهد تفكك شخصيته وتراجع ثباته النفسيّ. لقد صار سلطان الاقتصاد السوريّ مدعاة للتعاطف البائس لا أكثر.

إقرأوا أيضاً: