fbpx

عشر سنواتٍ على أول البدء

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مثلما في بعضنا “سيد قطب صغير”، في البعض آخر نسخٌ من حافظ الأسد، أو جمال عبد الناصر أو صدام حسين أو كل هؤلاء مخلوطون ببعضهم البعض!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هل ذنبُ التاريخ أننا استعجلناه؟

من يظن أن ما بدء في تونس قد انتهى أو فشل، لم يكلف نفسه عناء التقصي، والقارئ نادر بيننا، فما بالك بمن يطيل النظر في تاريخ الثورات؟  ترى كم ظلمنا أنفسنا وأوطاننا وأثقلنا طموحاتنا بما لا يطاق حين توقع بعضنا أن نخرج مما شهدته بلادنا عبر السنوات العشر الماضية إلى ديمقراطيةٍ كاملة الأوصاف؟ في بلاد يزيد عمرها عن آلاف السنين من التاريخ المكتوب، كيف لنا أن ننتظر انقلاب الأمور رأساً على عقب بين يوم وليلة؟ من ذا الذي يستطيع ذلك؟ وهل يكفي لتحقيق تحولٍ كهذا جيلٌ واحد؟ بل حياة واحدة؟ 

ذو دلالة أن الذكرى العاشرة لمطلع “خريفنا” هذا صادفت أزمةً حادة واجهتها الديمقراطية الأمريكية، رأينا أخطر فصولها، وأكثرها دراميةً، تذاعٌ حيةً على الهواء. لم نعدم في بلادنا، التي تعيش طبعاً “أزهى” عصور الحرية، من أعلن شماتته. لكن من قال أن الديمقراطية، أينما كانت، كاملة الأوصاف؟ أنها نمطٌ واحد خُلوٌ من العيوب؟ الديمقراطية أبداً “عملٌ قيد التطوير”،  a work in progress كما يقال بالإنجليزية، فكيف بالدربِ الطويلِ إليها؟

طبيعيٌ أن يسود العجز عن ممارسة السياسة، عن التفاوض واجتراح الحلول الوسط بعد عقودٍ من السلطوية كالتي عرفتها منطقتنا. “الجهاد الأكبر” إذاً، إن جاز التعبير، ليس مجرد هزّ هذه المنظومة الحاكمة أو الإطاحة بتلك، بل هو تغيير منظومة القيم التي تعرّف رؤيتنا لمجتمعاتنا وسياستها

       و بما أننا اقترضنا من الإنجليزية مُصطلحاً، فبأصحاب اللغة الأصليين نتمثل، إنتهاءً ثم ابتداءً (بهذا الترتيب المعكوس عمداً). “أبو البرلمانات”، كما يطلق على البرلمان البريطاني أحياناً، لم يُلغَ من غرفته العليا، مجلس اللوردات ، المقاعد الموروثة، بما يصاحب ذلك من ألقابٍ ظلت في عائلات بعينها لمئات السنين،  لم تُلغَ هذه المقاعد إلا في عهد رئيس الوزراء الأسبق توني بلير قرب نهاية تسعينيات القرن الماضي. علماً أن ما يزيد عن تسعين عضواً ورثوا مقاعدهم باقون إلى اليوم بهذا المجلس ، وإن لم يعد ممكناً توريث مقاعدهم آلياً كما في السابق.

الصراع السياسي لإلغاء السلطة الموروثة عمره مئات السنين، إذ أنه امتدادٌ لما شهدته البلاد حين أعدمت ثورةٌ، ولّدت حرباً أهليةً، ملكاً (تشارلز الأول، قُطع رأسه 30 يناير 1649) وجعلت بريطانيا جمهورية للمرة الأولى والأخيرة في تاريخها لحوالي عقد. بعد ذلك انتقلت السلطة تدريجياً من مجلس اللوردات إلى مجلس العموم، ومع ذلك بشكل بطيء، لكن ثابت ومطرد حٌجمت سلطات الارستقراطية الوراثية. وإن استغربت أن يستغرق إيقاف تعيين أعضاء بالوراثة في أقدم برلمانات العالم ثلاثة قرونٍ ونصف، فتذكر أن عملية تحجيم سلطة ملوك إنجلترا بدأت عام 1215 بوثيقة الـ”ماجنا كارتا” الشهيرة، التي كانت ميثاقاً بين الارستقراطية الإنجليزية والملك جون (الذي حاول التملص من الوثيقة تلك مما كلفه حرباً أهلية)، مروراً بـ”اتفاقات أكسفورد” الهامة مع ابن جون وخليفته، هنري الثالث، عام 1258 التي أكدت تقليص سلطة الملك. هناك كمٌ هائل من التفاصيل، من الصدامات والأزمات والثورات والحروب، وصراعاتٍ مريرة أشعلها التطرف الديني (المسيحي البروتستانتي-الطهراني) شهدتها بريطانيا لتصل إلى الديمقراطية التي نرى اليوم.

لِمَ إذاً نُحبطُ من عشر سنوات؟ وما عشر سنوات في عمر بلادنا وإن قصرت أعمارنا نحن؟  

مثلما في بعضنا “سيد قطب صغير”، في البعض آخر  نسخٌ من حافظ الأسد، أو جمال عبد الناصر  أو صدام حسين أو كل هؤلاء مخلوطون ببعضهم البعض! كثير من الحرب مع السلطوية داخل أنفسنا كما هي خارجها، المساران لا ينفصلان. لذلك كله وأكثر، عشر سنواتٍ ليست إلا أول البدء

       لكن إن قسنا على تاريخ غيرنا، وتاريخ بريطانيا تحديداً، فالمحطة الأهم هي إعدام تشارلز الأول، وريث عرش مملكتي إنجلترا واسكتلندا، من بيت ستيوارت، عام 1649 (الذي ذكرنا)، الدرس هنا ليس فقط في الأهمية السياسية المباشرة، بل في ألاعيب الذاكرة وحيل التاريخ. ما سبق سقوط هذا الرأس الملكي ليس كما تلاه، وإن تظاهر كثرٌ في بريطانيا أن كل شيء عاد إلى سابق عهده، بل إن كلَ من عاش بعد عودة الملكية مجدداً ممن لعب دوراً مباشراً في إعدام تشارلز الأول، عوقب بالإعدام.

تشارلز الثاني، ابن تشارلز الأول ووريث عرشه، أرخ لحكمه بداية من يوم إعدام أبيه، كأن شيئاً لم يكن. لكنه نجح في تفادي الاصطدام بالبرلمان، هذا الصدام الذي كلف أباه رأسه. أما أخاه ووريثه، جيمس الثاني فحاول أن يحكم حكماً مطلقاً كأبيه، و زاد الطين بلةً أنه كان كاثوليكاً يحكم بلداً بروتستانيا متعصباً. ماذا فعل البرلمان؟ دعا ابن اخت تشارلز الثاني وزوج ابنته، البروتستانتي، ويليام الثالث، عام 1688، ليأتي ويطيح بخاله. لكن شاغلي العرش الجديدين أتيا على أساس تفاهمٍ مع البرلمان أنهى بلا رجعة الملكية المطلقة. وخشية وريث كاثوليكي من بيت ستيوارت، قرر البرلمان أن تنتقل الوارثة إلى أسرة هانوفر الألمانية-البروتستانتية (ذات القرابة البعيدة لآل ستيوارت) متخطياً، أي البرلمان، أفراد الأسرة المالكة الكاثوليك الأحق بالوراثة. لم يعد السلطان بيد من ملَكَه يوماً. من عاش العقود الثلاثة بين إعادة الملكية والإطاحة بالابن الثاني للملك المقتول، ربما أعتقد أن ما كان كأن لم يكن، لكن التاريخ لا يسير القهقرى، ولا تتوقف تفاعلاته عن العمل وإن كمنت تحت السطح.

إقرأوا أيضاً:

بمنطق السير الحتمي للأمام نفسه، من يسخر مما تواجهه الديمقراطية الأمريكية اليوم، فليتذكر أن هذا البلد لم يحرر الأفارقة الواقعين تحت سلطته من الرق إلا بعد حرب أهلية أزهقت أكثر من ستمئة ألف نفس. أما من كانوا عبيداً ومن خلفهم من نسلهم، فلم ينالوا حقوقهم السياسية الكاملة إلا في ستينيات القرن الماضي، وبعد صراعٍ طويل (العنصرية ضدهم ما زالت مشكلةً حادة). وفي كل الديمقراطيات الغربية لم يشمل حق التصويت الجميع، بما في ذلك النساء، إلا بعد جهدٍ جهيد من المطالبين والمطالبات استغرق قروناً. القوانين التي ميزت ضد الكاثوليك لم تُلغ في بريطانيا إلا في القرن التاسع عشر (إرث الصراع الكاثوليكي-البروتستانتي في قلب الاضطرابات التي عاشتها أيرلندا الشمالية حتى عهدٍ قريب، والتي يخشى اليوم من تجددها بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي). علماً أننا لم نذكر التناقض الصارخ بين القيم التي قامت عليها الديمقراطيات الأوروبية ومشاريعها الاستعمارية التي استمرت إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. مُضحكٌ إذا أن نجد بيننا من يخبرنا أن شعوبنا “غير جاهزةٍ للديمقراطية”، هل كانت أي من الشعوب التي ذكرنا “جاهزة”؟ وكم من صاحب سلطان تخلى طوعاً عن سلطانه؟ التعلم هنا، عبر عقودٍ وقرون، بالصراع والممارسة، بالتجربة صواباً وخطأً، فشلاً ونجاحاً، رغم الكلفة الباهظة،  ليس من سبيلٍ آخر.

       علماً أن تاريخاً ملئه الصراعات والانكسارات ليس قصراً على بريطانيا أو الولايات المتحدة، ولا يقف عند ما ذكرنا. مُعتادٌ أن تُخلّف الفوضى التي تتبع الثورات حاجةً ل”رجل قوي” يعيد الأمن بأي ثمن، لذلك ليس مستغرباً أن تأتي ثورةٌ على طغيانٍ ما بطغيان أسوء مما أزالت، فتبدو الانتكاسة أسوء من الكاملة. فرنسا تقدم النموذج الأشهر:  “حُكم الإرهاب” الذي أتى أعقاب الثورة الفرنسية (سنة 1789)، ثم صعود نابليون العسكري الذي سرعان ما نصب نفسه امبراطوراً (كانت الثورة قد أطاحت بالملكية). لكن كما في بريطانيا، التاريخ هنا أيضاً لم يرجع للوراء وإن بدا غير ذلك، فبعد أن عادت أسرة بوربون، التي أسقطتها الثورة  وقطعت رأس أحد ملوكها، إلى الحكم، ثم حكم ابن أخٍ لنابليون أعلن نفسه امبراطواراً (نابليون الثالث، حكم كرئيس 1848-1852، ثم “امبراطوراً حتى 1870)، استقرت الجمهورية الفرنسية التي نعرف اليوم. هذا التحول استغرق ثمانية عقود ( بدلاً من قرون عديدة في بريطانيا) لكنه قطعاً لم ينُجزَ  في عشر سنوات.

هناك بوادر أمل حيث لم يبدُ ربيع أو خريف قبل عشر سنوات

       وكما هو معتادٌ تاريخياً ألا يكون مسار الثورات خطاً مستقيماً، أو صاعداً بشكل ثابت، غير مستغرب أن يجد كلَ تغييرٍ من يقاومه، وأن يقدم كل طرفٍ صورته هو لما جرى، إلى حد قلب الحقائق، طبيعيٌ أيضاً أن يسود العجز عن ممارسة السياسة، عن التفاوض واجتراح الحلول الوسط بعد عقودٍ من السلطوية كالتي عرفتها منطقتنا. “الجهاد الأكبر” إذاً، إن جاز التعبير، ليس مجرد هز هذه المنظومة الحاكمة أو الإطاحة بتلك، بل هو تغيير منظومة القيم التي تعرّف رؤيتنا لمجتمعاتنا وسياستها. في التجارب التي ذكرنا تزامن التطور نحو المزيد من الديمقراطية مع التوسع المطرد في حريات الأفراد والفصل، المطرد أيضاً، للدين عن الدولة والفضاء العام، وإن تباينت طرق ذلك وسرعته ودرجاته. ترافق ذلك أيضاً مع صراعات متكررة مع التيارات الشعبوية-اليمينية (التي لم تغب إلا لتعاود الظهور كما رأينا في حالة ترامب). هذه المعارك عندنا بالكاد بدئت، عدا ثقافتنا الأبوية التي تستنكر الفردية (إن لم تستغرب وجود الفرد أصلاً)، نحن ما زلنا أسرى مشاريع قومية تستلهم فاشيات أوروبا السابقة على الحرب العالمية الثانية، وفهمنا لتاريخنا وهويتنا يبقى نرجسيةً جمعية ساذجة مغرقة في الوهم (الإسلام السياسي السني النموذج الأبرز، لكنه ليس الوحيد قطعاً). تفكيك هذا كله عندنا في أوائل بداياته، وعلى استحياء.

عدا الصراع السياسي الجاري في تونس، هناك بوادر أمل حيث لم يبدُ ربيع أو خريف قبل عشر سنوات. في أكثر من بلدٍ عربي هناك أنظمة تعرفُ نفسها بالعداء لـ”الإرهاب” الذي يعني ضمنا الإسلام السياسي،  حيث الحرب على الإرهاب عذر متجدد للقمع ، لكن هذه الأنظمة  نفسها لا تفوت فرصةً لتوظيف الدين في السياسة، والاتشاح برداء “الأخلاق” و”القيم” دينية الطابع ، أو تتحالف مع قوىٍ مهادنة لها تحسب على الإسلام السياسي ، أو تشرعن نفسها (أي هذه الأنظمة) باسم الإسلام.

بغض النظر عن القمع الذي لم يقضِ يوماً على فكر، إن غابت أي جهودٍ لتأكيد فصل الدين عن الدولة والفضاء العام، ألا يعني ذلك فعلياً تمهيد الطريق أمام عودة الإسلام السياسي لا العكس؟ الأمل يظهر حيث كان عسكريون أكثر مباشرة، في السودان، حيث حكم تحالف عسكري-إخواني لعقود طويلة تخللها مالا يحصى من الكوارث، لذلك، هنا، أواخر العام الماضي، ولأول مرة في بلد عربي، أُقر بصراحة لا مواربة فيها مبدأ فصل الدين عن الدولة. في العراق ولبنان حراك لا يتوقف رغم العجز حتى الآن للوصول لنتائج ملموسة. هنا سعى المتظاهرون للفظ الطائفية التي عرّفت التركيبة السياسية، وسعى كثرٌ في البلدين للتخلص تماماً من حشر الدين في السياسة. نفوذ ولاية الفقيه وحلفاء عقائديين، وموضوعيين، مؤقتين ودائمين، لهم رأي آخر ، لكن الحراك سيبقى طالما بقيت أسبابه وإن خمد حيناً وعاد للحياة أحياناً. طبعاً نكونُ سذجاً، بل مفرطي السذاجة، إذا اعتبرنا أن مجرد فصل الدين عن السياسة أو دحر الإسلام السياسي كفيل بإنهاء ما نعاني، فلا هذا الداء الوحيد، ولا هو نبت غريب عما تربينا عليه ونعيشه، لكنه عقبة أساس لا بد من اجتيازها كما هو عرضٌ لأمراض كثيرة لا مهرب من مواجهتها. مثلما في بعضنا “سيد قطب صغير”، في البعض آخر  نسخٌ من حافظ الأسد، أو جمال عبد الناصر  أو صدام حسين أو كل هؤلاء مخلوطون ببعضهم البعض! كثير من الحرب مع السلطوية داخل أنفسنا كما هي خارجها، المساران لا ينفصلان. لذلك كله وأكثر، عشر سنواتٍ ليست إلا أول البدء.

إقرأوا أيضاً: