fbpx

أحداث طرابلس صورة صغيرة عن انفجار شعبيّ مرتقب؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

صارت طرابلس، المدينة التي لطالما عانت من الإهمال المزمن من قِبَل الدولة المركزية منذ استقلال البلاد، تُشكل وصمة دم أخرى على أيدي نخبتها الأكثر ثراءً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عند مفترق طرق بين شارعي الحمراء وبليس، تنتشر أسماء فانون، وماركس، وجيجك على جدران أحد المحال المكسوة بألواح الخشب، محاطة بالمطرقة والمناجل سيئة الرسم في غرافيتي باللون الأحمر. تاريخياً، تُستدعى هذه الرموز والأسماء في أوقات الثورة أو المعاناة، كأسماء الأنبياء التي يُستنجد بها لدحض معاناة الناس مع الفقر والمجاعة، فبإمكان الفكر، مثله مثل الدين، أن يرسم طريقاً مستقيماً، بعلامات سهلة المنال ووهم المستقر الأخير، في هذه اليوتوبيا، هناك الثورة، التغيير، ثم الرخاء. ستُفقد أرواح، وسيسقط ضحايا، إلا أن التاريخ سيغفر غضب المظلومين وعدوانهم.

راهناً، تصاعدت التوترات في طرابلس- ثاني أكبر مدن لبنان وأفقرها- وتطورت إلى اشتباكات عنيفة بين مواطنيها الجوعى والمحرومين وقوات أمن البلاد. ورأينا مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر اشتعال عدد من المباني والمحال، بما في ذلك مقر بلدية طرابلس وسراي المحكمة، بفعل قنابل المولوتوف والقنابل اليدوية التي ألقاها المحتجون. تأتي حالة الفوضى عقب فرض الإغلاق الشامل بدءاً من 7 كانون الثاني/ يناير، بعدما فتحت الحكومة مطار رفيق الحريري أمام المغتربين العائدين إلى الوطن خلال إجازة الشتاء، من دون إلزامهم بفترة إجبارية من العزل الذاتي، أو فرض قيود لاحتواء انتشار المرض المحتوم. تكهن كثيرون بأن هذه الإجراءات الضعيفة والرخوة، والتي سمح بعضها باستمرار فتح النوادي الليلية، بينما منع الرقص، كانت محاولة لضخ “دولارات جديدة” مباشرة في القطاع المصرفي المتهاوي واحتياطاته المتناقصة. 

من الواضح أن وقت المحاسبة الذي لم تفكر الطبقة الفاسدة والحاكمة في وصوله أبداً قد حان، في وقت أبكر وفي صورة أشد غضباً مما قد يتصورون.

باتت العملة الأجنبية تُحدث تأثيراً كبيراً لمن يُمكنهم الحصول عليها، لا سيما مع تقلب سعر صرف الليرة اللبنانية، الذي وصل إلى 8800 ليرة مقابل الدولار الأميركي. بينما ارتفعت النفقات وتكاليف المعيشة إلى أعلى مستوى لها، لا سيما بالنسبة إلى العامل اللبناني متوسط الأجر. وأصبحت بيروت واحدة من أعلى المدن في تصنيف “مؤشر كلفة المعيشة العالمي 2021″، وحولت الهمسات الصادمة والتفاخر الصاخب حول المشروبات خلال نزهة ليلية والتي لا تزيد تكلفتها عن 10 دولارات أو الالتقاء في “ستاربكس” الذي لا يكلف سوى 4 دولارات، المدينة إلى ملتقى للأثرياء بين عشية وضحاها، فيما الشوارع المهجورة والخاوية لا تزال محاطة بشظايا الزجاج والركام الذي خلفه انفجار 4 أغسطس/ آب. كان من السهل أن ندرك السبب وراء الإشادة بأسماء المفكرين الاشتراكيين والشيوعيين لإصلاح الدولة المنحرفة، التي يصبح فيها الأغنياء أكثر ثراءً، مختبئين خلف أبنيتهم الزجاجية وحساباتهم المصرفية الأجنبية، بينما يعقد الفقراء آمالهم على عطف الغرباء، في محاولة لكي تدوم رواتبهم الضئيلة حتى نهاية الشهر.

انقسمت ردود الفعل على إعادة فتح البلاد بالطبع إلى معسكرين بين المنتقدين والمؤيدين. فقد أعرب المنتقدون عن قلقهم إزاء الكارثة وشيكة الحدوث بارتفاع حالات الإصابة بفايروس “كورونا”، ما أدى إلى إرباك المستشفيات وإرهاقها والإغلاق الحكومي المحدق، في حين يرى المؤيدون أن الشعب اللبناني يستحق التمتع ببعض المرح بعد أشهر من الحزن والكساد الاقتصادي الذي أنهك المعنويات وأطاح بالآمال. فقد جاء الوباء في ذيل قائمة الأولويات في بلد ارتفعت معدلات الجريمة فيه ارتفاعاً حاداً ويناضل مواطنوه للحصول على لقمة العيش.

ما يحدث اليوم في ساحة النور هو نموذج مصغر لما سيبدو عليه لبنان في الأشهر المقبلة:

مجتمع متصدع سيمزق نفسه إرباً إرباً على نحو غير مسبوق.

كما هو متوقع، فرضت الحكومة إغلاقاً عاماً خلال الأسبوع الأول من العام الجديد. وشملت التدابير إغلاق الأعمال التجارية غير الأساسية، وحظر التجوال بعد الساعة السادسة مساءً، والسماح للمطاعم بالبقاء مفتوحة لتقديم خدمة توصيل طلبات الطعام إلى المنازل فقط، وهي خدمة لا يمكن لمن يعيشون في أفقر المجتمعات المحلية في لبنان وأكثرها عزلة، الوصول إليها. بعد أسبوع واحد على الإغلاق، اتُخذت تدابير أكثر صرامةً، بما في ذلك إغلاق الكورنيش الساحلي، وهو أحد الأماكن العامة القليلة في بيروت لممارسة التمارين الرياضية، وفرض قيود على التنقل بالسيارة أو على الأقدام لمن لا يحملون تصريحاً. وعلى رغم أن التدابير المشددة لم تدم إلا 11 يوماً، فقد مددت الحكومة فترة الإغلاق العام من الأول من شباط/ فبراين حتى الثامن منه من دون الإشارة إلى التدابير التي ستظل قائمة، أو تقديم تعويضات مالية كافية للمواطنين الأشد فقراً في البلاد.

يمكن الشعور بتأثير الإغلاق حتى في أكثر الأحياء نشاطاً وازدحاماً. فقد اقتصرت أصوات الضوضاء في المدينة على أصوات الدراجات النارية التي تعمل بالديزل في الخلفية. فقد جاء الأشخاص الذين كانوا يتوقون إلى لبنان الذي عرفوه في طفولتهم أو مراهقتهم مفعمين بالأمل، وغادروا محبطين، إن لم يكونوا مصدومين من أخبار الرجال الذين أشعلوا النار في أنفسهم لأنهم لم يتمكنوا من توفير الدعم لأسرهم – الأمر الذي يُعد ركناً من أركان النظام الأبوي اللبناني. وحتى أولئك الذين يتوافدون إلى الشاليهات أو المنتجعات في جبال لبنان المكسوة بالثلوج، لم يتمكنوا من تجاهل الأمهات والأطفال الذين يتسولون للحصول على الدواء أو الخبز أثناء مرورهم بسيارتهم الفارهة من طراز “أودي” و”رينج روفر”.

من الواضح أن وقت المحاسبة الذي لم تفكر الطبقة الفاسدة والحاكمة في وصوله أبداً قد حان، في وقت أبكر وفي صورة أشد غضباً مما قد يتصورون. وإذا كانت صراعات الماضي يمكن أن تسلط بعض الضوء على ما ستؤول إليه أعمال الشغب في الوقت الحاضر، فإن تزايد الجوع والاضطرابات في البلاد من المتوقع أن يؤدي إلى ظهور حشود عنيدة لا تعرف الرحمة ولا تنحني أمام أي سلطة سوى الطعام وإلهها.

بين العنف والجوع

ومن هذا المنطلق، صارت طرابلس، المدينة التي لطالما عانت من الإهمال المزمن من قِبَل الدولة المركزية منذ استقلال البلاد، تُشكل وصمة دم أخرى على أيدي نخبتها الأكثر ثراءً، بمن فيهم نجيب ميقاتي، الذي يتربع على عرش أغنياء لبنان والذي أدرجته مجلة «فوربس» الأميركية على قائمتها باعتباره واحداً من أغنى رجال لبنان عام 2015. ولم يعد بوسع منظمات الإغاثة التي تُقدم المساعدات الموقتة أن تعوض نقص الموارد وفرص العمل في المدينة، تاركة المسنين والشباب لتدبير أمورهم بأنفسهم. وقد تجلت عواقب سوء الإدارة وسوء التقدير في ما يتعلق بإجراءات الحظر في ساحة النور في 27 كانون الثاني، عندما اندلعت المواجهات بين الشباب والشابات من جهة، الذين انضم إليهم أيضاً متظاهرون يُعتقد أنهم مدفوعون من قوى خارجية لها أجندتها السياسية المنفصلة، والقوات الأمنية من جهة أخرى، ما أسفر عن إصابات كثيرة، ومقتل شخص واحد، وطفلة صغيرة تركها والدها لأنه لم يعد قادراً على إعالتها. وتساءل المتأملون للمشهد عن الطريقة التي تمكن من خلالها مشعلو الحرائق الوصول إلى القنابل اليدوية العسكرية، مشيرين إلى أن العنف دليل آخر على أن التظاهرات الأخيرة نظمتها شخصيات سياسية. وفي نهاية المطاف، طغت أيدي النخبة مرة أخرى على مطالبات طرابلس المشروعة، الأمر الذي أدى إلى تهميش مطالبهم لتصبح أمراً ثانوياً مقارنةً بأعمال العنف التي اضطلع بها قلة من المتظاهرين الذين أدانتهم القنوات الإخبارية والمواطنين في مختلف أنحاء لبنان.

ساحة النور كصورة للبلاد

ما يحدث اليوم في ساحة النور هو نموذج مصغر لما سيبدو عليه لبنان في الأشهر المقبلة: مجتمع متصدع سيمزق نفسه إرباً إرباً على نحو غير مسبوق. سوف تفيض الشوارع بالجياع احتجاجاً على ذل الاضطرار إلى التسول والاقتراض للحصول على رغيف خبز. وفي المقابل، سيكون هناك الجياع الذين تطعمهم النخبة السياسية ويقومون بأعمالها القذرة لإشباع رمق أجسادهم المستميتة التي يبيعونها كسلعة. وأخيراً، ستتسع الهوة العميقة بين الأغنياء والفقراء في البلاد، والتي سوف تؤدي، مع الاختفاء السريع للطبقة المتوسطة، إلى بدء حرب طبقية إلى جانب الصراع الطائفي المشؤوم الذي أصاب هذه البلاد بأنواع الفساد كافة، منذ رحيل الفرنسيين عنا ومقتل من تبقى خلال الحرب الأهلية. ستتلاشى الخطوط الفاصلة بين الخير والشر، أو بين الجياع وذوي الدوافع السياسية، في ويلات حرب أهلية قد لا تتعافى منها البلاد أبداً، قياساً على حالة النسيان الجماعية للدروس التي تعلمناها منذ عام 1975 وما بعده. وسيحتفظ لبنانيو الشتات أو المغتربون في مخيلاتهم بذكرياتهم في لبنان، بينما من يعيشون في لبنان سيغادرونه أو سيعيشون فيه على مضض في حسرة على ما سرقه منهم هذا الوطن – مدخراتهم وبيوتهم وشبابهم ومستقبلهم وحقهم في العيش والتمتع بحياة كريمة.

عند التقاطع بين شارعي الحمراء وبلِيس، رُسمت إجابة الناس على السؤال حول مستقبلهم بطلاء أحمر على مباني المدينة وشوارعها. إنها دعوة إلى اندلاع ثورة علمانية واقتصادية، حيث لا يُمكن أن يتهرب أحد من المساءلة والعدالة بسبب معارفه أو ما يملكه. إنها دعوة إلى الاكتفاء الذاتي والتنظيم الذاتي، حيث يستطيع الناس تصنيع ما يحتاجونه من سلع وتوزيعها تبعاً لذلك. بيد أن النظرية والفكر يجعلان هذا الحلم يبدو وكأنه سهل المنال، تماماً كما لو أن التغريدات المعادية للإمبريالية أو قصص “إنستاغرام” كافية لتذكير الناس الذين يتضورون جوعاً بأعدائهم وتاريخهم. فقد أوشك الشعب على الانهيار، إما أن يفقد المواطن دينه أو أن يتمسك بعقيدته، منتظراً الخلاص حيثما وجد.

غني عن القول إن منتقدي المنظمات الدولية التي تتزعمها الحكومات الشمالية والغربية، سيرفضون المساعدات بسبب خوفهم من القمع الاستعماري الجديد الذي يهدف إلى الضغط على لبنان لإجباره على الامتثال والتطبيع مع إسرائيل. في حين سيوجه منتقدو وكلاء النظام الإيراني أصابع الاتهام إلى مأزق “حزب الله”، وكيف أنه لم يفعل شيئاً يذكر من أجل القضية الفلسطينية، عدا التضحية بالأسر اللبنانية الشيعية وتحويل أبنائها إلى شهداء. وفي خضم هذا الصدع، ثمة لاجئون وعمال أجانب استغلهم أرباب العمل اللبنانيون باعتبارهم عمالة رخيصة وغير مشمولة بالحماية، ويعانون من التهميش ويُستخدمون ككبش فداء من النخبة السياسية والشعب اللبناني على حد سواء، وقد وجدوا أنفسهم في خضم هذا الدمار الذي خلفته هذه الكارثة من دون أن توفر لهم الدولة احتياجاتهم الأساسية أو تساعدهم للحصول عليها. عند هذا المفترق، لن تستطيع فلسفة ماركس وفانون وجيجك، فعل أي شيء لشعب ينخر الانقسام في صلبه وفي عمقه، على نحو يصعب الشفاء منه. لا يمكن أن يكون هناك طابور انتظار للحصول على الخبز من دون وجود خبز، مثلما لا يمكن أن تكون هناك ثورة بلا إيمان ومثابرة ووحدة. أولئك الذين لديهم الدافع، والحضور القوي، والقدرة على القيادة، يستقلون الطائرات للرحيل إلى أماكن أخرى – إلى أي مكان سوى لبنان- أما أولئك الذين ظلوا مكانهم، فهم غارقون في مستنقعات القمامة والتذكير اليومي بأنه بينما يأكل أحدهم، يتضور آخر جوعاً.

إقرأوا أيضاً: