fbpx

“سأودع هذا العالم”: منتحرون لبنانيون يخلفون حزناً وحيرة..

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعد مرور خمس دقائق على مباراة كرة القدم التي جمعت فريقي ألمانيا والمكسيك، ذهب جوزف إلى باحة فارغة، ليطلق الرصاصة من مسدس جده على رأسه. أصدقاؤه أصيبوا بصدمة كبيرة من إقدام الصبي الذي لم يتجاوز الخمسة عشر عاماً على الانتحار، فبحسب صديقه، كان مرحاً ولا تفارق وجهه الابتسامة لكن مع ذلك قرر الرحيل.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بعد مرور خمس دقائق على بداية القسم الثاني من المباراة التي جمعت ألمانيا بالمكسيك، ذهب جوزف إلى باحة فارغة، ليطلق الرصاصة من مسدس جده على رأسه. أصدقاؤه أصيبوا بصدمة كبيرة من إقدام الصبي الذي لم يتجاوز الخمسة عشر عاماً على الانتحار، فبحسب روايات صديقه، كان مرحاً، ويتمتع بروح جميلة جداً ولا تفارق وجهه الابتسامة.

الحزن خيم على عائلته، وبدا على أفرادها الذهول أثناء تشييعه في الكنيسة. لا تمتلك عائلته إجابات وافية لمن يحاول البحث في حياة الصبي، إلا أن عبارة “لم يكن يعاني من شيء يدفعه للاقدام على الانتحار” تتردد بين أقاربه.

جوزف على عكس عدد من الشبان والشابات ممن أقدموا على الانتحار في لبنان خلال الأشهر الماضية، إذ لم يعرف عنه مزاج كئيب، أو على الأقل لم يكن ذلك ظاهراً. يقول صديقه الذي فضل عدم ذكر اسمه، إن جوزف كان يحب السهر، ويتابع بحماسة الألعاب الرياضية، وانتظر بفارغ الصبر، مجيء بطولة كأس العالم في روسيا.

لم يكتب جوزف رسالة وداع كما فعل منتحرون آخرون حين ودّعوا الدنيا في رسائل على صفحاتهم الخاصة على مواقع التواصل الإجتماعي.

أضيف اسم جوزيف إلى سجل المنتحرين الذين سقطوا عام 2018، فطارق فرنجية، وهند كرم، وموسى زهوة، ويحيى الهبري، ونجاة لطيف، هم أسماء من بين 100 حالة صُرح عنها بحسب أرقام قوى الأمن الداخلي.  ولكن الرقم غير نهائي، إذ توجد حالات كثيرة لم يصرح أهالي المنتحرين عنها، بسبب التقاليد والقيود الدينية التي تفرض عليهم الصمت.

الانتحار … ومتلازمة الأرق

انتحار موسى زهوي، شكل صدمة لأصدقائه. وقبل انتحاره  كتب كثيراً عن عجزه عن النوم. يبلغ موسى من العمر 30 عاماً، وكان يعاني من الكآبة، وكان يفصح عن مشاعره السوداوية وتشاؤمه، إلى أن انتحر بداية عام 2018. ولكن قبل أيام من موته، كتب موسى على “فايسبوك”: “سأودع هذا العالم المجنون، سأبقى شظايا في بال من أحبوني، الوداع لجميع احبتي”، وصباح اليوم التالي، صوّب فوهة مسدسه على قفصه الصدري، وضغط الزناد لينهي حياته.

صفحة موسى تكشف عن معاناة وثيقة مع النوم. فالشاب التقط لنفسه الكثير من الصور المرفقة بكلمة “لم أنَم”، وذيّل بعضها بعبارات اخرى كـ “لا معنى لحياتنا”، أو “الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعُر بالارتياح هو النوم. فعندما أكون نائِماً، لا أكون حزيناً، أو غاضباً أو وحيداً. وقتها فقط ، أكون أنا والعدم سواء.”

يشكل النوم أزمة المنتحرين، فمعظمهم كما تكشف منشوراتهم على “فايسبوك”، عانوا من أرق ليلي دام طويلاً. فالشابة ناريمان (إسم مستعار)، والتي أبدى أقاربها عدم رغبتهم بإثارة موضوعها على الإعلام مجدداً. وناريمان انتحرت عبر رمي نفسها من عن شرفة منزلها، وتقول نادين وهي صديقتها، إن ناريمان واجهت صعوبة في النوم لأسابيع سبقت انتحارها، حتى أنها لم تكن تنام لأيام متواصلة، كذلك كانت تشكو من صداع متواصل في رأسها، وشعورها الدائم بثقل فوق كتفيها.

بحسب راصدي تلك الظاهرة فإن العوارض الجسدية عند الذين انتحروا متشابهة. فناريمان وقبل انتحارها بيوم، نامت أكثر من 17 ساعة، وكان مقرراً أن تذهب مع أصدقائها إلى سهرة جماعية في شارع الحمرا، ولكنها فضلت بدلاً من اللهو أن تمد جسدها بالمزيد من الراحة قبل الإقدام على خطوتها.

وعن متلازمة الأرق الليلي، وعدم النوم التي يشكو منها الأشخاص قبل انتحارهم بأسابيع، تشير المكتبة الوطنية الأميركية للصحة، إلى “أن كل المنتحرين يعانون من مشكلات في النوم”، فـ”الاستيقاظ في ساعات النوم البيولوجي تشير إلى نشاط قوي في خلايا الدماغ المرتبطة بإحساس الفرد بالموت”. أما الطبيب النفسي في الجامعة الأميركية جوزف خوري، فيرى أن الأمراض النفسية الحادة، تفضح نفسها عبر الأمراض الجسدية، فأبرز المشكلات التي يعاني منها المنتحر قبل الانتحار هي العجز عن التعبير عن المشاعر المؤلمة جداً، وبالتالي لا يتبقى لتلك المشكلات وسيلة أفضل من الجسد لتظهر من خلاله، كالصداع وآلام المفاصل والأوجاع في الصدر.

تلك الآلام تدفع المنتحر إلى اختيار وسائل قتل عنيفة جداً، لذلك تشير الدراسات حول ظاهرة الانتحار في لبنان إلى أن الضحايا جميعاً استخدموا وسائل قتل غير الأدوية، كالمسدس، والسكين، وتبين أيضاً لجوء منتحرين إلى قتل أنفسهم عبر المشنقة، وهي وسيلة بدائية، إلا أنها تسبب آلاماً مبرحة قبل الموت، وذلك بحسب خوري.

لا معلومات وافية عن حياة المنتحرين

يشدد مؤسس مركز “نفسانيون” لعلم النفس العيادي علي الأطرش في حديثه لموقع “درج” على “ضرورة التمييز بين المنتحر ومن يحاول الانتحار، إذ لا تجوز مقارنتهما ببعضهما بعضاً، فالذي يحاول الانتحار ويفشل، يكون قد خطط مسبقاً، لإفشال انتحاره، وهو فقط يريد إثبات وجوده، لذلك نجده يلجأ إلى وسائل يدرك انها لن تقتله، كالدواء او تشطيب جسده بالشفرة، بينما المنتحر يختار أكثر الوسائل التي مضمون أنها ستقتله”.

ويضيف: “لا داتا عن المنتحرين في لبنان”، إذ لا دراسات مبنية على معلومات من أهالي الضحايا، بل إن كل الدراسات التي نطلع عليها حصلنا عليها من أشخاص حاولوا الانتحار وفشلوا”. وبالتالي لا تتوافر معلومات عن أسلوب حياة المنتحر ومعاناته وطفولته وفترة مراهقته، وطبيعة علاقته مع أفراد عائلته، وصولاً إلى معطيات عن أشخاص دخل المنتحر معهم بعلاقات عاطفية، وذلك من أجل الحصول منهم على معلومات عن أداء المنتحر الجنسي. “هل كان المنتحر مازوشياً، أم سادياً”، يعد من أهم الأسئلة من أجل معرفة البنية التي تأسست عليها دوافع الانتحار. فقد أظهرت الدراسات أن قبل أسابيع من الانتحار يدخل المنتحر بسبات جنسي، أو ما يطلق عليه توصيف “الموت الجنسي”، فيرفض المنتحر ممارسة الجنس، كحال من انعدام حاجته للتواصل مع الحياة، لأن الجنس إرادة إنجابية مناكفة لإرادة الموت في الإنسان. لذلك فإن عدم توفر “الداتا” عن المنتحر بذاته، يضع برأي الأطرش عوائق عدة حول آلية فهم علم النفس للانتحار وتفكيك الظاهرة، والتي يؤكد أنها ستتنامى في السنوات المقبلة وستبقى أسبابها غير واضحة، فليس بالضرورة كما يشاع على مواقع التواصل الاجتماعي أن يحصل الانتحار بسبب العوامل السياسية الضاغطة، أو نتيجة الأوضاع الاجتماعية والمعيشية السيئة، فقد أظهرت آخر أربع حالات انتحار سجلها لبنان أن مرتكبيها ينتمون إلى عائلات ميسورة مادياً.

وبانتظار أن تكشف دراسات دقيقة المزيد عن هذه الظاهرة، يبقى الانتحار أو الموت الاختياري واحداً من أكثر أسرار النفس البشرية غموضاً..