fbpx

عائلة لقمان سليم: باقون هنا وسنكمل ما بدأه

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“اللي ما بيلاقي طريقة لمناقشة الآخر إلا بقتله وبحط رصاصات براسه وتعذيبه قبل قتله هيدا مجرم، والمجرمين عايشين بيناتنا بس مش رح يمشونا، مش رح يخوفونا”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا يشبه دخول دارة آل سليم في حارة حريك في ضاحية بيروت ما نتوقعه حين نذهب للعزاء. لا ضجيج معزين ولا أصوات قرآن ولا سواد يملأ المكان.

تطالع الواصل إلى الدارة حديقة صغيرة هادئة وأصوات عصافير تملأ محيطها. بيت تقليدي أنيق لا بهرجة فيه ولا ادعاء لكنه يوحي بالراحة. إلى جانب الحديقة حوّل الباحث والناشر لقمان سليم مساحة مهملة إلى فسحة ثقافية غنية احتوت لسنوات أنشطة ولقاءات مهمة عن الذاكرة والحرب.

في الطبقة الثانية من المنزل، تجلس رشا سليم شقيقة لقمان بزيها الأسود في مكتبتها تقرأ تقرير الطبيب الشرعي في جريمة الاغتيال، فيما والدته سلمى تحاول الاطمئنان إلى وصول ابنها المحامي هادي من مقره في باريس للوقوف مع العائلة في مصابها، وبينهما تقف مونيكا زوجة لقمان تتلقى العزاء من أصدقاء.

ليس يوماً عادياً، لكن العائلة لا تجيد سوى أن تكون هي نفسها، غضب هادئ وحزن بالغ وعمل بثبات وبأقل ضجيج ممكن.

حملت رشا ورقة الطبيب الشرعي بسخرية، ورقة واحدة صيغت بخط اليد على عجل تشرح أن الطبيب سحب 6 رصاصات من جسد “المدعو” لقمان سليم، كما ورد في البيان. 

قتل لقمان، فرد أعزل أعدم في سيارته وترك جثمانه لنراه وليحمل رسالة للجميع. لم تستطع رشا مشاهدة جثمان شقيقها لكن من شاهده نقل لها أن وجهه كان متورماً وبه كدمات.

“ما كان (لقمان) خايف من الموت… نحنا أكيد باقيين مش خايفين منهن… هني أنذال… اللي ما بيلاقي طريقة لمناقشة الآخر إلا بقتله وبحط رصاصات براسه وتعذيبه قبل قتله هيدا مجرم، والمجرمين عايشين بيناتنا بس مش رح يمشونا، مش رح يخوفونا”.

 هاللي بيقتل بهالشكل رح ينقتل ويومتها مش رح نبكي متل ما هني كانوا شمتانين فينا امبارح مش رح نشمت فيهن. قتلوه لأنه كان احسن منهن هو دايماً كان مع القتيل مش مع القاتل. هني دايماً جنب القاتل وهني قتلة وسافلين…”.

رشا الكاتبة والشاعرة ورفيقة شقيقها في مشوار النشر والثقافة لا تعّول على  التحقيقات، “ما بتهمني الحقيقة، أنا بعرف مين قتله فمني بحاجة هلق للشغل التقني تبع الطبيب الشرعي والأجهزة والاستقصاء وكم متر قطع قبل ما يقتلوه هيدي تفاصيل ما بتهمني…”.

تعجز هنا رشا عن إكمال جملتها دون ان تتحشرج بألمها، “مش رح ابكي، فشروا هني لازم يبكوا. هاللي بيقتل بهالشكل رح ينقتل ويومتها مش رح نبكي متل ما هني كانوا شمتانين فينا امبارح، مش رح نشمت فيهن. قتلوه لأنه كان احسن منهن هو دايماً كان مع القتيل مش مع القاتل. هني دايماً جنب القاتل وهني قتلة وسافلين…”.

لم تأت كلمات رشا من فراغ، فهي عاشت مع شقيقها مسار التخوين الذي استمر لتسع سنوات خلت، وكانت معه في الدار حين ألصقت شعارات التهديد “المجد لكاتم الصوت” على جدران المنزل. ففي كانون الأول/ ديسمبر 2019، تجمع عدد من الأشخاص أمام منزله في حارة حريك، مرددين عبارات تخوين، وألصقوا شعارات على جدران المنزل كُتب عليها “لقمان سليم الخائن والعميل”، و”حزب الله شرف الأمة”، و”المجد لكاتم الصوت”.

نشر حينها سليم بياناً شهيراً اتهم فيه من سمّاهم “خفافيش الظلمة” بالمسؤولية، وحمّل الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله وحليفه رئيس مجلس النواب نبيه بري مسؤولية ما جرى و”ما قد يجري” له ولعائلته ومنزله.

لم تتحرك القوى الأمنية حينها ولم يؤخذ تهديد لقمان على محمل الجد، كذلك الأمر حين تعرض لهجوم خلال انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، في خيمة حوارية كان يشارك فيها في وسط بيروت فتعرض للهجوم وأُحرقت الخيمة وسط صرخات غضب واتهامات بالعمالة ضده. كان معروفاً حينها أن معظم الهجمات على ساحات التظاهر كانت تتم من مناصرين لـ”حزب الله” و”حركة أمل” في هجمات بدت دوماً مدفوعة من الثنائي.

تقول رشا: “على طول كنت قله أنا خايفة يا لقمان هني ناس مسلحين بيقتلوا بس كان يقلي ما بتعرفيها لجملة الحسين اللي بيقول فيها “أتخيفونني بالموت”. ما كان خايف من الموت”. 

“حزب الله”: أنا بريء

بعد ساعات من اغتيال لقمان سليم والذي وجد في سيارته على طريق العدوسية في جنوب لبنان، أصدر “حزب الله” بياناً يستنكر فيه الاغتيال ويطلب من الأجهزة الأمنية العمل على كشف المرتكبين، ودعا إلى “مكافحة الجرائم المتنقلة في ‏أكثر من منطقة في لبنان وما يرافقها من استغلال سياسي وإعلامي على حساب الأمن ‏والاستقرار الداخلي”.

لكن بيان الحزب بدا هزيلاً وغير مقنع أمام حجم الوقائع التي سبقت الاغتيال وبدت مؤسسة له. فلقمان الذي عثر عليه مقتولاً الخميس (الرابع من شباط/ فبراير 2021) في سيارته في جنوب لبنان، باحث ومفكر عمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والتوعية على أهمية المواطنة والمساواة في بلد يعاني من انقسامات وصراعات سياسية وطائفية عميقة.

كان لقمان سليم (58 سنة) ينتمي إلى الطائفة الشيعية، لكنه كان من أبرز منتقدي “حزب الله”، صاحب القوة العسكرية السياسية الأقوى في لبنان والمدعوم من إيران. ركز لقمان سليم عمله ونشاطه في منزله في حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل “حزب الله” حيث أقام مركز “أمم” للأبحاث والتوثيق.

لسنوات طويلة، ألصق به إعلام محسوب على “حزب الله” وصف “شيعة السفارة”، وهو مصطلح يدَلّ به على نشطاء شيعة يريدون إسقاط “حزب الله” وينسقون مع سفارات غربية، فهوجم مراراً وتم وصمه بأنه “خائن وعميل”.

وإذا كان الكثير من مداخلاته التلفزيونية في الآونة الأخيرة تناول “حزب الله” الذي كان سليم يعتبر أنه يأخذ لبنان رهينة لإيران، لم يتردد في انتقاد كل الطبقة السياسية المتهمة بالفساد والعجز في لبنان. 

بعد مقتله بدا الانقسام حاداً في الردود حول الجريمة، إذ انتشرت عبر حسابات شخصيات مقربة أو محسوبة على الحزب عبارات تتراوح ما بين الشماتة وما بين التجاهل. وقد أثار نجل حسن نصرالله، جواد، موجة غضب بعد تغريدته: “خسارة البعض في الحقيقة ربح ولطف غير محسوب”، مضيفاً هاشتاغ #بلا_أسف. ولكنه عاد وحذف التغريدة. 

بدت تغريدة نجل نصرالله استمراراً لمسار الآلة الدعائية للحزب التي غالباً ما تعتمد سياسة التهديد بالقتل والشماتة به. حصل هذا مراراً في حقبة الاغتيالات التي عصفت بلبنان ما بين عامي 2005 و2012.

إقرأوا أيضاً:

هل من ثقة بالتحقيق؟

في ظروف طبيعية كان يفترض أن يكون التحقيق الشفاف هو المقياس الحاسم لمن يقف خلف جريمة اغتيال لقمان سليم، لكن التحليل في الجريمة وتحميل “حزب الله” مسؤولية هنا ليس تهوراً، خصوصاً مع مراقبة الخط التصاعدي لعدد الحالات التي تم التهجم فيها على أشخاص ومضايقتهم وتهديدهم لأنهم من من بيئة “حزب الله “أو منطقته وانتقدوه علناً. 

حكايات الشبان الذين علت أصواتهم في بداية انتفاضة 17 تشرين والذين ضُربوا وأهينوا وأُذِلّوا، عبر فيديوهات مسجلة، وحقيقة أن مدد التوقيف التي تعرض لها نشطاء في صور كانت الأطول مقارنة بتوقيفات بنشطاء في مناطق أخرى تشي بذلك أيضاً. 

هناك من خرج ليطلب عدم التسرع في الإدانة وبالتريث، لكن المفارقة أن جريمة اغتيال سليم حصلت يوم كان أهالي ضحايا جريمة المرفأ يحيون ذكرى مرور 6 أشهر على مقتل 207 أشخاص بعد انفجار شحنة نيترات الأمونيوم، والتي يتم تمييع التحقيقات الخاصة بها وسط تقاذف المسؤوليات. حصلت جريمة سليم بعد أيام من إجهاض التحقيق الجنائي بتهريب أموال اللبنانيين عبر مصرف لبنان. حصلت بعد سنوات من مسار تغييب العدالة والمحاسبة عن عشرات الجرائم والاغتيالات. هنا يبدو الصبر والتريث وانتظار التحقيق خياراً عبثياً يفيد القاتل ولا يعيد الحق للضحية. وللمفارقة فقد كان لقمان سليم في مقدمة العاملين على رفض مبدأ الإفلات من العقاب في لبنان ما بعد الحرب، ودافع بشدة عن حقّ عائلات المفقودين والمخفيّين قسراً في نيل العدالة والكشف عن الحقيقة. لكن اليوم لقمان نفسه يبدو ضحية هذا النمط من الإفلات من العقاب.

لقمان وزوجته مونيكا بيرغمان

مشروع لقمان سيكمل

لقمان سليم من مواليد حارة حريك عام 1962 من أب محام معروف وأم مصرية. درس الفلسفة في جامعة السوربون في باريس.

في “دار الجديد” للنشر التي أسسها في التسعينات، تُرجِمت كتب الرئيس الإيراني الإصلاحي آنذاك محمد خاتمي، للمرة الأولى إلى العربية. وعبرها، أنتج سليم مع زوجته الألمانية مونيكا بورغمان فيلمين وثائقيين، أحدهما حول مجزرة صبرا وشاتيلا خلال الحرب الأهلية في لبنان، والثاني حول سجن تدمر في سوريا حيث تعرض سجناء لبنانيون للتعذيب.

في منزل العائلة في حارة حريك مركز “أمم”، الذي يحتفظ به سليم بنسخ عن الصحف الصادرة في لبنان منذ عقود، فهو الشغوف بالذاكرة وبضرورة عدم طمس الحقائق وفهمها. كان من أبرز نشاطات المركز مشروعه الهادف إلى شفاء جراح الحرب الأهلية، فجمع أرشيفاً هائلاً عن تاريخ لبنان الاجتماعي والسياسي وضعه في تصرف الباحثين والإعلاميين. ونظم أنشطة ولقاءات للدفع في اتجاه مواجهة جراح الذاكرة والمصالحة بين اللبنانيين.

تقول والدته سلمى، السيدة الثمانينية المصرية الأصل في تصريحات صحفية”دبحوني دبح.. لقمان كان صديقي في المناقشة والقراية استفادوا إيه من قتله؟ صرفوا عليه خمس رصاصات. ضيعوا طاقة كانت موجودة للبنان”

مونيكا زوجة لقمان وشريكته في مشاريعه الثقافية تبدو مصممة على استكمال ما بدأه، “هذا المشروع لن يصمت أبداً… يمكنهم قتل لقمان لكنهم لن يقتلوا أفكاره وسنواصل. وعلى مستوى شخصي إذا كانوا يعتقدون أنني سأخاف وأستقل الطائرة إلى المانيا، فإنهم سينتظرون حتى آخر حياتهم. أنا ورشا مع العائلة كلها، سنكمل مشروع لقمان، لقمان سيبقى حياً إلى الأبد… يمكنهم قتل جسده لكن ليس أفكاره”.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.