fbpx

مدرستي الريفية في تعز: كفاح اجتماعي أحالته الحرب ركاماً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ومع أنه لم يعد هناك شيء يذكر من مبنى المدرسة، إلا أن الطلاب يتوافدون يومياً للدراسة، بعضهم بثياب ممزقة رثة، يمشون -بعد هذه السنوات من إجهاض حلمهم- بين الركام بلا مبالاة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في مطلع السبعينات، ومع تنافس اليمنيين في البناء الذي فتح مضماره الرئيس إبراهيم الحمدي، تكاتف السكان الفقراء مع أحد الميسورين في قريتي النائية شرق جبل صبر في محافظة تعز وسط اليمن، وبنوا مدرستهم الصغيرة، سموها مدرسة محمد طه ناجي، تكريماً له كأحد المساهمين، وانطلقت بعدد من الفصول الدراسية. تلك الفصول بسيطة البناء هي أول وآخر ما عرفته قريتي من مظاهر الحياة الحديثة، حتى غادرتها في الشهور الأخيرة من القرن العشرين.

تفتقر قريتي، للحد الأدنى من الخدمات، فلا كهرباء، ولا مياه، ولا اتصالات، ولا طرقات معبّدة، شأنها في ذلك شأن معظم الريف اليمني المفقر، والذي يشكل 70 في المئة من قوام الجغرافيا اليمنية.

ويعتمد السكان هناك بالدرجة الأساسية على زراعة مساحات صغيرة من الأراضي وتربية المواشي، قبل أن يعرفوا الطريق إلى المدينة والغربة، بحيث اكتسبوا من حرفهم، مهارات لم تشكّل فارقاً حقيقيّاً في وضعهم الاقتصادي البدائي.

مع هذا الجمود كله، فتح وصول معلمين ومعلمات إلى مدرستنا الصغيرة، من خارج القرية، نافذة للوعي. بدأ مع هذا الإشعاع الضئيل رؤية كيف أن العالم أكبر وأوسع مما نتصور، وأن هناك مساحات مترامية خلف الجبال التي تشكل حدود القرية. وكفرد في هذا المجتمع المنغلق، كان العالم بالنسبة إلي ينحصر في المسافة التي كنت أقطعها بين الجبال والأودية لرعي الأغنام أو لجلب المياه من الآبار. في المدرسة بدأت أتوق لمعرفة المزيد عن الحياة.

وعلى بساطة التعليم وانخفاض جودته، شكّل الفرصة الوحيدة الجيدة التي أصادفها للمرة الأولى في حياتي القروية القاحلة، وكذا الحال بالنسبة إلى غالبية اليمنيين من غير الفئات القليلة التي قدّر لها الانعتاق من هذا الواقع نسبياً بفرصٍ، من ضمنها التعلم الجيد.

ومع وجاهة كل نقاش حول مسألة التعليم العام ومستوى جودته وجودة مخرجاته، إلا أنه مع كل الملاحظات والمآخذ عليه، صدّر البلاد آلاف الكفاءات في مختلف المجالات، من سكان المدينة والريف.

ومع أن كثراً من طلاب المدرسة تسربوا منها، أو أصبحوا يعيشون في الشتات، إلا أن هناك من لا يزال يقطع مسافات طويلة إلى قلب الدّمار، من أجل تلك  البقعة النائية من الأرض التي كانت تضم نافذة صغيرة نحو العالم، تضم مدرسة.   

ومذ غادرت مع أسرتي القريةَ إلى مدينة تعز في أواخر التسعينات، بحثاً عن حياة أفضل، وفرص جديدة في التعليم والخدمات والعمل، زرت الكثير من العزل والقرى والمناطق والمدن والبلدان، ومع ما أصادفه في طريقي من نعيم أو بؤس، تتنامى إلى ذهني دائماً قريتي وسكانها وأطفالها بملابسهم الرثة، فأسأل نفسي: متى ستتاح لهم الفرصة كاملة لحياة لائقة، ولو في حدها الأدنى؟ متى سيأتي الوقت الذي نراها فيه تحظى، وبقية القرى اليمنية، بتعليم جيد، وصحة، وخدمات، وشبكة طرق سالكة؟ 

دائماً، ما أذكِّر نفسي بمسؤوليتي في المساهمة في تحقيق هذا الأمر، وتغيير حياة الناس نحو الأفضل، مدركاً من واقع تجربتي البسيطة أن التعليم هو مفتاح التغيير الأهم، ومن هنا يتغذى أحد حوافز العمل العام داخلي باستمرار. 

نحاول في “مواطنة لحقوق الإنسان” اليوم أن نضع مسائل التعليم، أولوية، سواء من خلال تسليط الضوء على الضرر الذي أصاب هذا القطاع المهم خلال السنوات الأخيرة من الحرب، أو المشاركة في رؤية المعالجات اللازمة التي من شأنها تحسين الخدمات في هذا الجانب والارتقاء بها.

حين تلقيت بلاغاً من فريق مواطنة في الميدان بأن مدرسة ضمن المديرية التي تضم قريتي تعرضت للتدمير من قبل أطراف النزاع، فتحت المستند، فإذا هي مدرستي الصغيرة. نعم، صراع وأقاويل وادعاءات للوطنية، طيران حربي وجماعات مسلحة، والضحية مدرسة.

ما قد يراه العالم مجرد مبنى صغير متهالك، وقد تحوّل بعد ذلك إلى ركام وكومة أحجار، لكنه أكبر من ذلك بكثير بالنسبة إلى قرية بعيدة، نائية ومنسية. هو الخيط الأول للأمل بمستقبل أفضل، والدفاع الصغير في وجه التخلف والجهل. 

في وقت مبكر، من صباح الخميس، الرابع من كانون الثاني/ يناير 2016، شن طيران التحالف بقيادة السعودية والإمارات غارتين جويتين، على مدرسة محمد طه، ما أدى إلى تدمير فصولها الثلاثين تدميراً شبه كامل.

أوضح شهود أنهم لم يرصدوا تسلّحاً داخل المدرسة، قبل واقعة القصف، غير أن هناك نقطة عسكرية تابعة لـ”جماعة أنصارالله” (الحوثيين)، كانت تبعد منها 800 متر تقريباً، فيها نحو ستة أفراد مسلحين إلى جانب عربة عسكرية؛ هناك أيضاً أحاديث عن أن المدرسة استخدمت قبل الهجمة استخداماً عسكريّاً كمكان احتجاز.

وعلى رغم مرور أربع سنوات على الهجوم، لا تزال المدرسة من الاتجاهات الغربية والشمالية والشرقية مدمرة بالكامل، ويبدو مشهد الركام ظاهراً أكثر من أي شيء.

ومع أنه لم يعد هناك شيء يذكر من مبنى المدرسة، إلا أن الطلاب يتوافدون يومياً للدراسة، بعضهم بثياب ممزقة رثة، يمشون -بعد هذه السنوات من إجهاض حلمهم- بين الركام بلا مبالاة. 

كل صباح، تمتلئ ساحة المدرسة بالطلاب والمعلمين، قبل أن يتوجه البعض منهم إلى ما تبقى من فصول شبه مدمرة، من دون القيام بتمارين طابور الصباح، والبعض الآخر يظل في الساحة وعند النوافذ وأبواب الفصول.

لم تعد هناك كراسٍ ليجلسوا عليها، أو طاولات ليكتبوا على ألواحها، مع أن بينهم من هم دون سن 12 إلى 5 سنوات، وهم الفئة الأكثر تضرراً من هذا الخراب، فيما تسيطر الضوضاء على الجميع، حيث لا باب ولا نافذة، فقط الغبار والركام وأشعة الشمس الحارقة في نهار قرية قاحلة.

ومع أن كثراً من طلاب المدرسة تسربوا منها، أو أصبحوا يعيشون في الشتات، إلا أن هناك من لا يزال يقطع مسافات طويلة إلى قلب الدّمار، من أجل تلك  البقعة النائية من الأرض التي كانت تضم نافذة صغيرة نحو العالم، تضم مدرسة. 

عبدالرشيد الفقيه – المدير التنفيذي في منظمة لـ”مواطنة”

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.