fbpx

سائحة روسية في الشام القديمة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نعم، إنها سائحة روسية تشبهنا، لم تر في هذا الشارع قيمة أو عظمة تذكر، إنها مثلنا تحبّ البالة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أتذكر منذ نحو 9 سنوات، عندما كانت العيون تبحث عن ضوء في المعارك، هل أقتل؟ وكيف أقتل؟ ومن أقتل؟

كانت مساءات القلق، اللحظات التي تسبق الإعدام، أخبرني صديق يملك متجراً للأنتيكات في باب شرقي، أحد أبواب دمشق القديمة، وهو يصبُّ الشاي المخمر في كأس مزخرفة، أخبرني بغصة وحرقة، بنيّته إغلاق متجره وبيع القطع التي يحتويها إلى تجار طليان “إيطاليين”، ثم أشار بيده إلى شبكة عنكبوت تقبع في الزاوية فوق منحوتة أظنها كانت لآلهة النهر، وأردف ساخراً:

“قريباً ستجدين هنا مجموعة هائلة من الألبسة المستعملة، إنه زمن البالة”.

“تفضلي، إنها سائحة من روسيا وتحب الألبسة المستعملة مثلنا، تخيلي؟! لقد اشترت كل هذه الثياب.”

وما الذي نتوقعه من سوق طويل يبهج النظر ويجلب المسرات بفضته ومنسوجاته وزخرفاته التي لم تكن يوماً مخصصة للسوريين، الشيء الواحد الأحد الذي أتقنه السوريون هنا هو الفرجة، فمن سيدخل ويشتري صندوقاً مشغولاً بالصدف، أو زبدية صينية يعود عمرها إلى 200 سنة، إنها هوايات، ونحن لا نعرف حتى الآن ماهية الهواية ومآلها، فالهواية والشغف والهوس مفاهيم صعبة معقدة وتحتاج إلى دورات وتأهيل بالنسبة إلينا، نحن جمهور الفرجة والتصفيق.

ربما نصادر حواس الأشياء إن قلنا بأن الباب حزين في متجر صديقي وقد تحولت قبضته النحاسية إلى علّاقة تحمل حمّالات صدر مستعملة، من قال إن هذا المكان الذي يقبع في الشارع المستقيم أقدم شوارع التاريخ، من قال إنه حزين مثلنا الآن؟ وقد تغطت واجهته بثياب منكمشة لها رائحة البواخر التي حملتها، لربما كان سعيداً مع زبائن جدد عكس ما مضى.

تجلس فتاة شاحبة تمضغ اللبان طيلة الوقت، يختفي وجهها وحركات جسدها وراء أكوام الثياب، إنها الموظفة الجديدة في محل البالة الأثري.

تاريخ الجاز والغرامافون وصور بيلي هوليداي، استبدِلَت بأحذية أطفال أوروبية، فستان من الصوف مكان خلخال من حماه، قفازات جلدية مكان عقد من تدمر وإسوارة آشورية لم أجد أين كانت تعيش هنا.

والآن يستطيع الجمهور أن يدع الفرجة جانباً، ويخرج ولو بكيس صغير من باب شرقي، باب الأحلام.

إقرأوا أيضاً:

يخفق هذا المتجر وسط متاجر لم تتخلَّ عن هويتها، يبرق كدليل على جريمة، نقيّاً ناصعاً صادقاً، إنه الدليل الهامشي الصغير على ما حصل وسيحصل، أتخيل تلك الصفقة الحزينة التي عقدها الطليان مع عقود المرمر والعقيق وصور الوجوه السورية القديمة التي امتلأت في ظهرها بالإهداءات والتواريخ والنكات.

 هل تتذكرون قوارب اللجوء؟

كانت القذائف لا تهدأ هنا، يفسح البشر الطريق لها من دون خوف، كانت الحياة طبيعية تمشي، ذلك لعجزها عن الوقوف والتأمل برهة قليلة، فأي صمت أو تردد يقود إلى الهلاك والجوع والفقر والاكتئاب ثم إلى الانتحار.

أكثر ما يعذبني منظر الدمى، حيوانات وشخصيات كرتونية شهيرة، تتدلى مكان المفكرات وأدلة الهاتف العتيقة.

الموسيقى أيضاً هاجرت، فبينما كنت تسمع الست أم كلثوم في أغلب الأوقات، الآن لن تسمع سوى محمد رمضان ونانسي عجرم وأغانٍ شعبية مصرية وعراقية، أنت تسمع كل شيء إلا صوت المكان، أليست هذه فكرة خرافية لكي نعرف أنفسنا، هل الذكريات قوية؟

أوليس لهذه الثياب المستوردة أو المهربة حكايا أيضاً، إنها لأناس بعيدين، تحفةٌ أو سيرةٌ أرغبُ في الإصغاء إليها، ثوبٌ شفافٌ أسود قادم في البحر في كيس قماشيّ كبير، سَكِر قربه البحارة وربما تبول عليه أحدهم، ثم رُمِي في المرفأ كعجوز يضعه أبناؤه في دار عجزة، وجاءت الجمارك والإدارة والأمن والتجار كي يتقاسموا دموعه، ثم حملته شاحنة مهترئة إلى دمشق، يقودها رجل مهووس بالسرعة والضحك. مرت على الحواجز والمدن المدمرة والبيوت المهجورة، ثم حطت في أقدم شارع في التاريخ، ترتب المكان فتاة هزيلة قادمة من الريف، تمضغ اللبان والسعال وأحاديث عابرة على الواتس آب، تغلق الباب جيداً كي لا تدخل رائحة الخمور إلى المحل كما قالت لي بغضبٍ وحنق.

في الأمس مررت قرب ذاك المحل، وكان الناس مكتظين على غير عادتهم، عرفت سلفاً بأنها أسباب العطلة الانتصافية التي تدفع بالبشر والحجر إلى الخروج فرحاً وتهليلاً بانقضاء المدرسة، المدرسة السجن.

وبينما أتأمل التغييرات التي تحدثها دوماً الفتاة على واجهته من تعليق ثياب الفرو والجلد، رأيتُ في الداخل امرأةً طويلة القامة، شقراء الشعر، تعلق حقيبةً في ظهرها وتنكش الثياب كما لو كانت مجرفةً تلمّ بقايا الأتربة.

استغربت كثيراً، لأن هيئتها تبدو أجنبية والأجانب ليس مكانهم هنا، بل في جوار المحل، في التحف والتذكارات والقلادات والعطور…

رميت التحية على الفتاة التي كانت هذه المرة مفتونة بالأجنبية وكأنها حصلت على كنز، تساعدها في فرز ما تم اختياره من ثياب وتقنعها بذاك وتعرض بضاعتها كما لو كانت أحجاراً كريمة.

قالت لي بفرح:

“تفضلي، إنها سائحة من روسيا وتحب الألبسة المستعملة مثلنا، تخيلي؟! لقد اشترت كل هذه الثياب.”

نظرتُ إلى الثياب وقد احتلت الزاوية بأكملها، الزاوية التي كانت تحوي صندوق العملات الحجرية النادرة.

نعم، إنها سائحة روسية تشبهنا، لم تر في هذا الشارع قيمة أو عظمة تذكر، إنها مثلنا تحبّ البالة.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.