fbpx

الحجر في لبنان: قطع “الأوكسيجين” عن الفقراء والمياومين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“أحمد الله أن لا عائلة كبيرة لي لأعيلها، وإلّا لكانت مصيبتي أكبر”… تستمرّ الدّولة إذاً في اجترار “الحلول” الموقتة لمشكلات مزمنة قائمة، عبر وعود فارغة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يظهر الخجل على وجه زياد (29 سنة) لدى سؤاله عن مدخوله اليومي. هذا سؤال ما كان ليُسأل في ظروف مختلفة. لكن سؤال المياومين، أي الذين يعيشون من أعمال تعيلهم يوماً بيوم، عن أثر الإقفال العام عليهم أكثر من ضروري لفهم الضرر الذي وقع على الناس. زياد يتألم، لكن عزّة نفسه تمنعه من البوح. كان يعتاش من استثمار محل لبيع الخضار. بعد الأزمة الاقتصادية وانهيار سعر صرف الليرة أمام الدولار تراجع مردود المحلّ، وتدنّت القدرة الشرائية للزبائن، ومن كانوا يشترون الفاكهة والخضار بـ”الكيلو”، صاروا يشترون بـ”الحبة”. ثم جاء الإقفال العام بسبب “كورونا”. من أصل 50 شخصاً كانوا يرتادون محلّ زياد قبل الإقفال العام، خمسة فقط استخدموا خدمة التوصيل المنزلي لطلب حاجاتهم بعد الإقفال، وبشكل متقطّع وبكميّات قليلة، ما دفع زياد إلى التوقف عن تقديم تلك الخدمة، لأن مردودها لا يكفي حتى لدفع أجرة الشاب الذي يوصل الأغراض، واستعاض عن ذلك بفتح محلّه  نادراً، وبالسرّ، لبعض الزبائن حتى لا تسطّر القوى الأمنية مخالفة مالية بحقّه.

لا يتجاوز ما يجنيه زياد يومياً العشرين ألف ليرة لبنانية (نحو 3 دولارات وفق صرف الدولار الحالي) تكفيه لتناول وجبة واحدة فقط وشراء الخبز والماء: “أحمد الله أن لا عائلة كبيرة لي لأعيلها، وإلّا لكانت مصيبتي أكبر”، يقول زياد الذي يفكّر بإغلاق محلّه نهائياً قريباً.

معظم اللبنانيين مثل زياد. يعيشون في الحجر على وعد من رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب أطلقه في آذار/ مارس من العام الماضي من ضمن خطة حكومية، بتغطية الأعباء الاجتماعية الناجمة عن احتواء انتشار فايروس “كورونا” بقيمة 796 مليون دولار أميركي. وسريعاً جاءت استجابة الدولة لوعد رئيس الحكومة، لا بإعلان خطة طوارئ اجتماعية، بل بإطلاقها لعسكرها بعتاد وقنابل مسيّلة الدموع ضد كل من يتجرأ على الاعتراض في الشارع ضد سياسات الحكومة. وارتأت السلطة بذلك أن تطرح أمامهم خياراً جديداً للموت، بالرصاص الحي هذه المرّة، بعدما خيّرتهم بين الموت بـ”كورونا” أو جوعاً.

“أخاف فقط من أن أجد نفسي وعائلتي المؤلفة من زوجة وولدين صغيرين على قارعة الطريق بعدما تخلّفت عن سداد إيجار الغرفة التي نعيش فيها منذ نحو ثلاثة أشهر”.

يجرّ سالم (40 سنة) عربة الفاكهة الخاصة به بما تيّسر له من همّة: “أعود إلى المنزل وفي جيبي عشرة آلاف ليرة في أحسن الأيام، وهي لا تكفي لشراء قالب جبنة صغير بات سعره يتجاوز 12 ألف ليرة. صرت روح عالدكّان لإتفرّج بعيوني بس”. 

يكاد سالم يجزم أنّ “الزعتر والخبز لا يفارقان مائدة عائلته اليومية كطبق رئيس”. وحتى الخبز قد نحرم منه في حال فاق سعر الربطة الـ2500 ليرة. هل علينا أن نجد بديلاً للخبز أيضاً؟”. مع الإقفال العام، يخرج سالم إلى شوارع شبه فارغة إلّا من عناصر أمنية يقضي أيّامه في محاولة تحاشيها: “أخاف فقط من أن أجد نفسي وعائلتي المؤلفة من زوجة وولدين صغيرين على قارعة الطريق بعدما تخلّفت عن سداد إيجار الغرفة التي نعيش فيها منذ نحو ثلاثة أشهر”.

وعلى بعد أمتار من عربة سالم، يحاول حسن (54 سنة) إيجاد أيّ راكب يقف على جانبي الطريق عند جسر سليم سلام، “بدنا نطلّع بس حق البنزين اللي عبّيناه الصبح”. منذ أكثر من عام، يخرج حسن من منزله كلّ يوم وهو مدرك جيّداً أنّه سيعود مساء خائباً: “مع الارتفاع المستمر في سعر البنزين، كنت أحاول أن أُقلّ ما يزيد عن عشرين راكباً يومياً حتى أؤمن قوت يومي والبنزين. والآن من أين لي أن أجد ولو راكباً واحداً خلال الإقفال العام؟”.

يبوح حسن بسرّ يخفيه عن عائلته منذ فترة. فهو يتجنّب العودة إلى المنزل قبل حلول المساء حتى لا يضطر إلى تناول أكثر من وجبتين خفيفتين في اليوم. “نكتفي بمونة البيت التي أعدّتها زوجتي بمساعدة العائلة وبعض الخيّرين، وكان ولدي الذي يعمل في ورشة للبناء يساعدني خلال الفترة الماضية، لكن ومع الإقفال العام توقّف هو عن العمل أيضاً”. لا ينفي سائق الأجرة خوفه من الإصابة بفايروس “كورونا”، ويتمنّى لو يستطيع الالتزام بالحجر المنزلي. “إن قمت بذلك، هل هم على استعداد لإعفائنا من إيجار البيت وفواتير الكهرباء والماء؟”، يسأل.

ولا يخشى حسن حواجز قوى الأمن بقدر ما يخشى حواجز من نوع آخر، “صرت خاف يطلع معي شي مراسل يفضحني”، يقول في إشارة منه إلى وسائل إعلام راحت تلاحق مخالفي الإقفال العام من المياومين الذين يحاولون، بخرقه، أن يسترزقوا ليتمكنوا من اعالة عائلاتهم. 

يرفض حسن ومعه زياد وسالم الظهور أمام الكاميرا لتوثيق شهاداتهم بالفيديو. يهربون منها كالخارجين عن القانون. يتوارون قدر الإمكان عن أنظار وسائل إعلام تحوّلت في الآونة الأخيرة إلى ضابطة إعلامية تتولّى ملاحقة مخالفي قرارات الإقفال العام عبر تقارير تبّثها، أشبه بوشاية استخبارية بأصحاب الدكاكين الصغيرة والمتسوّقين في الأسواق الشعبية، بحثاً عن حاجاتهم بأسعار أقلّ، ومن دون أيّ مراعاة لخصوصيتهم ووضعهم الاقتصادي الضاغط الذي دفع بهم مكرهين إلى خرق قرار الإقفال العام. يقول حسن: “كان الأجدر بهم تصويرنا لنقل معاناتنا إلى مسامع دولة تكتفي بوعظنا بضرورة التزام المنزل وارتداء الكمامات أننا لا نمتلك ثمن كمامات وأننا نختنق منذ زمن”. 

في آذار من العام الماضي أحصى البنك الدولي أن أكثر من 45 في المئة من اللبنانيين هم في حالة فقر، كما يشير عصام ابي علي، وهو مستشار وزير الشؤون الإجتماعية وممثل الوزارة في المفاوضات مع البنك الدولي. لكنه يقول إن النسبة وصلت إلى 60 في المئة نتيجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وجائحة “كورونا” وانفجار مرفأ بيروت، كما أن 25 في المئة منهم يرزحون تحت خط الفقر”. ويؤكد أن البرامج الاجتماعية التي تضعها الوزارة تهدف إلى تقديم المساعدات للفئة الأخيرة، أي حوالى 200 ألف عائلة من العائلات الأكثر فقراً.

مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية، وهو مبادرة بحثية تهدف إلى دراسة تداعيات الأزمات المتعددة في لبنان وكيفية مقاربتها، خصص تقريراً حول أزمة “كورونا”، لاحظ من خلاله ارتفاع أعداد المتقدمين بطلبات مساعدة من برنامج دعم الأسر الأكثر فقراً في وزارة الشؤون الاجتماعية والذي وصل خلال أسبوعين من إعلان قبول هذه الطلبات (بين 25 كانون الثاني/ يناير و6 شباط/ فبراير) إلى 370000 أي ما يقدر بحوالى 37 في المئة من الأُسَر اللبنانية. وهذا مؤشر آخر، بحسب المرصد، إلى “تردّي الأحوال المعيشية عند العائلات اللبنانية، ما يعني في ما يتعلق بأزمة كورونا أن إجراءت الإغلاق غير المصحوبة بدعم مالي لهذه الأُسَر لن تنجح”.

من أصل 50 شخصاً كانوا يرتادون محلّ زياد قبل الإقفال العام، خمسة فقط استخدموا خدمة التوصيل المنزلي لطلب حاجاتهم بعد الإقفال.

تسجّل دول مجاورة تجارب ناجحة إلى حدّ ما في احتواء تداعيات تفشّي الوباء مع أنها تعاني بدورها وبشكل كبير على الصعيد الاقتصادي. في الأردن مثلاً، وعلى رغم أن خسائر الاقتصاد الأردني وصلت إلى نحو مليار دولار في منتصف العام الماضي، وفي ظل مديونية بلغت نحو 43 مليار دولار، أعلنت الحكومة الأردنية، وخلال فترات حظر التجوّل، أن الجيش سيتولّى إيصال المستلزمات الأساسية للأردنيين إلى منازلهم، وشملت الخبز والمياه والأدوية، إضافة إلى المحروقات. وأطلقت مؤسسة الضمان الاجتماعي الأردنية منصة إلكترونية لتسجيل عمال المياومة، ومن لا يتقاضون رواتب ثابتة، لتزويدهم بطرود غذائية أو ببطاقات إعانة غذائية مدفوعة الثمن.

في محاولة لحفظ ماء وجه الحكومة اللبنانية التي فشلت في تقديم الحد الأدنى من الدعم لمواطنيها، يذكّر أبي علي بالبرنامج الوطني للتكافل الإجتماعي الذي أطلقته وزارة الشؤون الإجتماعية في نيسان من العام الماضي، والذي يوصي بتوزيع مساعدات مالية بقيمة 400 ألف ليرة (أقل من خمسين دولاراً) للعائلات الأكثر فقراً، “وتم احتساب المبلغ حينها على أسس علمية واقتصادية قد تكون تغيّرت الآن نتيجة الأزمات وتغيّر سعر صرف الدولار”.

بحسب أبي علي، قام الجيش اللبناني وعلى ثلاث دفعات، بتوزيع المبلغ المذكور على حوالي ألف عائلة من العائلات الأكثر فقراً وإزداد عددهم تدريجياً، حتى وصل في المرّة الأخيرة إلى حوالي 230 ألف عائلة والعدد مرشّح للإرتفاع مع استمرار الجيش بعمليات التوزيع.

وفيما يوجّه الانتقاد لوزارة الشؤون الاجتماعية اللبنانية بأنها، كما الدولة، لم تراع الفروقات الطبقية الجسيمة بين اللبنانيين بإستحداثها منصّة الكترونية طلبت من خلالها من الأسر الأكثر فقراً تسجيل بياناتها للحصول على مساعدة، يقول أبي علي: “أن المنصّة لا تطلب من المسجّلين فيها سوى تعبئة معلومات شخصية كالإسم والعنوان ورقم الهاتف، وشهدت لذلك إقبالاً كبيراً بحيث تخطّى عدد الطلبات المقدّمة 400 ألف خلال عشرة أيام.” وستقوم الوزارة بتقييم المتقدّمين بالطلبات للتأكد من مدى أحقيّتهم في الحصول على المساعدة، يقول ابي علي ذلك وكأن الناس يمتلكون ترف الوقت. 

يؤكّد أبي علي أن المنصّة الإلكترونية هي بمثابة تدبير موقت يتماشى وفترة الإقفال العام، ومع انتهائها سيتمكّن المواطنون من التقدّم شخصياً بطلب المساعدة في مراكز وزارة الشؤون الإجتماعية في المناطق كافّة. 

تستمرّ الدّولة إذاً في اجترار “الحلول” الموقتة لمشكلات مزمنة قائمة، عبر وعود فارغة. 

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!