fbpx

مراسيلُ العشق والغرام بين فعل الحُب وقسوة الاغتيال

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بين الولادة والموت مشوار طويل عبره جدي أبو نزار برفقة ام نزار، مشوار أختصرُهُ بكلمة واحدة هي: الحب!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]


مُنذ أربع سنين، حين كنت أزوره، وجدت والدي (أحمد) مُنهمكاً في تنقيح أوراق مداخلته، في ذكرى اغتيال والده، والمُستقاة من رسائل عشق وغرام  كتبها والده حسين مروة إلى والدته فاطمة بزي أيام فتوتهما. 

فاقترح والدي عليَّ ان أقرأها طالباً نُصحاً عاماً في ما كَتَبهُ… وما أن انتهيتُ من قراءتها حتى بادرته بالسؤال عن صحة وُجُود هذه الرسائل وكيفية حُصوله عليها. فأجابني مُندهشاً بأن الرسائل كُلها حقيقية وأصليّة ولا لُبْس فيها، أما كيف وصلت إلينا، “فهذا يعود إلى أن جدتك التي احتفظت بها كلها داخل قماشة حريرية مربوطة، وصادف أن عمتك هناء عثرت عليها بعد وفاة الجدة”… وبعد إجابته الحاسمة هذه مَدَّ يَدَهُ وناولني الألبوم الذي رتَّبَ بداخله الرسائل كلها وقال: “إقرأ… إقرأ باسم الحب الذي خلق!”.

وفي هذه الرسائل التي أتاح لي والدي الاطلاع عليها، اكتشفتُ كم كان جدي وجدتي مُتحابيْن، وكم كانت رابطة الحب بينهُما قوية. والحبُّ علة كل شيء وفيهِ تبدأ الحياة وتنتهي… ومنه تتسلسل الأحداث عبر تقاطعات المصادفة والضرورة.

من اللحظات الأولى للقاء حُسين مروة وفاطمة بزي وقعا في الحب والغرام، وما الحبُ إلا أجمل الأشياء وأروعها. حدث هذا صيف 1928 في بنت جبيل وهي قرية كبيرة من قُرى جبل عامل الشيعية. في ذاك الوقت بالتحديد كان قد رجع لتوه من النجف في العراق، بعد أربع سنوات لدراسة العلوم الدينية، تحقيقاً لرغبة والده بجعله شيخاً مُعمماً. رجع مُحبطاً ومُشتتاً بعدما عانى ما عاناهُ من قمعٍ واضطهاد بسبب علماء الدين والمشايخ وقتذاك في النجف الأشرف لثنيهِ عن حب قراءة الأدب ونظم الشِعِر وسماع الموسيقى، وكان هذا ميلاً فطرياً داخل ذاته ووجدانه، دفعه دوماً إلى التواصل والتفاعل مع كل شيء جميل، خلاّق ومُنفتح…

فكان للقائه الأول بفاطمة حدثٌ زَلْزَلَ كيانه ومَهَّدَ لسلسلة من الأحداث المؤثرة ستغيّر حياتهما بشكل جذري وإلى الأبد!

يحلو لي، وأنا الحفيد العاشر ترتيباً الذي لم يكن والدُهُ قد وُلد بعد، أن أتخيَّل لقاءهما الأول وقتذاك.

يدخل حُسين مع أمه إلى بيت أنسباء لهم في بنت جبيل، وبعد فترة من المجاملات والأحاديث تدخل عليهم صبية بعمر الورود لتقدم لهم الشاي. تُلقي عليهم فاطمة التحية وتضع صينية الشاي على الطاولة وتبدأ بسكبِهِ…

هو… حُسين يَرْقُبها مُنبهراً بجمالها. شعرها الأحمر المجعد يبثُ دفئاً، عيناها بطعم العسل والوجهُ مُستديرٌ أبيض تتوسطهُ نقاطٌ من النمش يخالها نجوماً تتوهج في كبد السماء. نهضت نحوه لتقدم له بيدها كوب الشاي: “تفضل يا حسين”… شَعٓرَ بصوتها العذب يدخل أعماق قلبه، فارتجفت يده وهو يتناول منها الكوب، واحمرّت وجنتاه خجلاً لكنه استطاع أن يتماسك ويرد عليها متلعثماً: “سلمت يداكِ يا فاطمة”… حينها اكتشف حسين الحب!

هي… فاطمة كانت قد سمعت عنه قبلاً. عن شابٍ صغير في السنّ من الأقارب، أرسله أبوه الشيخ علي مُروة إلى النجف في العراق ليصبح شيخاً معمماً. كان في مُخيّلتها شاباً سميناً قاسي الملامح ومتزمت النفس غليظها… يومها وأثناء تحضيرها الشاي كانت ترقبه من شقوق ستارة المطبخ، أيقنت أن هذا الشاب ليس مثلما تصورته، بل على العكس تماماً. هو شابٌ نحيل، رقيق الملامح، خفيض الصوت، طيب المعشر مرح الحديث. عندما ناولته كوب الشاي شعرت بِخِفةٍ وسعادة غامرة وكأنها تلتقي بشخصٍ حنون تعرفهُ منذ زمن بعيد جداً… حينها اكتشفت فاطمة الحب!

وفي هذا اللقاء الأول شوهدا يتحادثان سوياً بعيداً من الجميع ومن دون رقيب أو عذول… أسمعها تسأله:

“وليش بدك تصير رٓجُل دين وشيخ بالعمامة..؟ أنا بعرف انو الدين معاملة وأخلاق مليحة! ويا تُرى هيدا بدو دراسة؟”.

ينظر إليها حسين بارتباك، لكنه يجيبها بحنان شديد، مُستذكِراً بيت الشِعْر الذي قرأه ليلة أمس للشاعر الصوفي الأندلسي ابن عربي: “أُدينُ بدينِ الحبِّ أنّى توَجَهَتْ ركائِبُهُ، فالحب ديني وإيماني”.

كلاهما، فاطمة وحسين، شعر باكتشاف أحاسيس الحب الأولى وهو الحب الذي سيغيير حياتهما ويقلبها رأساً على عقب… خصوصاً بالنسبة إلى الشاب الذي وبعد هذا الشعور المستجد كان قد صمم على العودة الى النجف لإكمال دراسته في العلوم الدينية وبعدها سيخلع عن رأسه العمامة الدينية ليبدأ مشواره الجديد في الحياة باحثاً عن الحقيقة في العلم والحياة برفقة حبيبته الفاتنة فاطمة، والتي ستصبح بعد سنتين من هذا اللقاء زوجته. وسينتج عن هذا الحب والزواج أولاد كُثُر وأحفاد أكثر. كما ستظهر نتاجات فكرية غير مسبوقة وكتبٌ ودراسات ومقالات وأبحاثٌ في مجالات الادب والشعر والفلسفة.

في إحدى رسائله السِرِّية الى فاطمة يكتب : “…آهٍ يا فاطمة، ما أذكى العِطرَ الذي ينشره في فضاءِ عاطفتي اسمُ فاطمة. أكذلك عندكِ اسمُ حُسين؟ وما حسين هذا الذي يبثكِ حُبَّهُ وشكواه إلاٰ فتى عاشقٌ مستهامٌ يحلو له مناجاتك والتحدث إليكِ -وأنتِ معشوقته- في كلِّ آن”.

وُلِدَ حسين مُروَّة عام 1908، في حدّاثا وهي قرية صغيرة من قُرى جبل عامل ، وفي 17 شباط/ فبراير 1987، دخل رجلان مسلحان الى بيت ابي نزار في منطقة الرملة البيضاء في بيروت، وعلى مرأى من زوجته (معشوقته وحبيبته) أم نزار، أطلق أحدهما على رأسه رصاصة واحدة كانت كافية لقتله على الفور!

رصاصة واحدة اختصرت كل تاريخ الكره والحقد والتوحش البشري.

بين الولادة والموت مشوار طويل عبره جدي أبو نزار برفقة ام نزار، مشوار أختصرُهُ بكلمة واحدة هي: الحب!

أَحَبَّ حُسين مُروَّة الطبيعة والناس الطيبين، أحب العمل بكرامته، أحب العلم والأدب والشِعر والموسيقى والرقص، أحب الحداثة والتغيير، أحب النضال من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر والأعراق، أحب فلسطين، أحب تراب جبل عامل، والأهم من كل هذا أنه أَحَبّ فاطمة…

وأنا أقرأ رسائل جدي في العشق والغرام إلى جدتي، اكتشفُ من جديد القدرة الكامنة في فعل الحُب… فتمنيّتُ لو أنَّ هذه الذكرى (ذكرى الاغتيال) تكون بمثابة محطة ،لا لتُذَكِّر بالقاتل وهو معروف الهوية والانتماء، ولا لتَذَكُّر حادثة القتل وملابساتها السياسية، بل محطة للتأمُّل في موضوعة الحُب… محطة لنُعيد الاعتبار إلى القيمة الحقيقية للحُب في كل شيء نفعلُهُ ونقولُهُ، لعلّنا نخفف شيئاً من هذا التَصَحُّرْ والتوَحُّش المُقيم حَوْلنا وبيننا وأحياناً داخلنا… فهل يُنْقِذنا الحُب؟!

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.