fbpx

“عودة عكسية” من سنجار:
إيزيديون يفضّلون المخيّمات على “الوطن”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“إنه الجحيم بعينه وإبادة جماعية أخرى، فلا حكومة تساعدنا ولا حلول متاحة أمامنا، وهو ما يجعل الغالبية تحلم بمغادرة البلاد”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يمضي دخيل سيدو (23 سنة) عامه السابع في مخيم “باجدكندالا” الخاص بالنازحين الإيزيديين في زاخو أقصى شمال إقليم كردستان، منتظراً تحقق واحدٍ من حُلمين طال انتظارهما: العثور على عمل أو العودة إلى سنجار التي نزح منها مع عائلته إثر غزو “داعش” في آب/ أغسطس 2014.

يقول وهو ينظّف مدخل خيمته من الطين بعد موجة مطر: “أمضي وقتي كله في المخيم بعدما باءت كل محاولاتي لإيجاد عمل بالفشل. المكان مكتظ بمئات الشبان العاطلين من العمل مثلي والذين تواجه عائلاتهم ظروفاً معيشية صعبة، وهذا يزيد إحباطنا”.

يستدرك بعد لحظات صمتٍ: “البطالة سببت لنا مشكلات لا تعد ولا تحصى، أمراض نفسية، انتحار، عنف أسري، محاولات للهجرة غير الشرعية تقترب من الانتحار”.

تزوج سيدو، كما معظم النازحين الايزيديين الشباب في المخيم، بعدما فقد أمل العودة إلى سنجار: “إنه أمر شائع في مجتمعنا ان تتزوج في العشرين من عمرك أو قبل ذلك” قال ذلك في ما رن هاتفه الجوال منبهاً إلى استلامه رسالة نصية.

ارتسمت على وجهه ابتسامة بعدما ألقى نظرة سريعة على شاشة جواله، ثم التفت إلى الخيم الممتدة على مدى البصر بأغطيتها البلاستيكية البيض في المخيم الذي تقطنه أكثر من 2000 عائلة: “إنها زوجتي، تنجح في إيجادي باستمرار… هي تراقبني الآن من مكان ما في المخيم”.

هي في مثل سنه، وقد تعارفا إثر لقاء جمعهما في سوق المخيم، وبعد ستة أشهر تزوجا في خيمة لا تتجاوز مساحتها الأربعة أمتار ويعيش معهما والداه وشقيقه الذي يكبره في السن: “صراحة نحن من نعيش معهم، ولقد مرت سنة تقريباً ولم أسدّد بعد مهر الزواج والذي يبلغ بحسب العادات الايزيدية 75 غراماً من الذهب عيار 21… كيف أتدبر ذلك وأنا عاطل من العمل وبلا راتب؟”.

سيدو كان يعمل في محل لوالده في منطقة دهولا شمال قضاء سنجار الواقع على الحدود العراقية- السورية، وكان مصدر رزق العائلة الوحيد، أحرقه عناصر “داعش” بعد غزوهم المنطقة. والآن تعيش العائلة برمّتها تحت وطأة البطالة والفقر، خصوصاً مع انتشار “كورونا” الذي زاد من معدلات البطالة في العراق إلى نحو 20 في المئة.

شهدت مخيمات النازحين الإيزيديين نحو 10 حالات انتحار لشبان وفتيات خلال الأسابيع الأولى من عام 2021، ويقدر نشطاء إيزيديون عدد حالات الانتحار المسجلة خلال السنوات القليلة الماضية بأكثر من 200 حالة.

المعونات غير كافية

نهارات النازحين في المخيم طويلة ومتشابهة، إذ تكتظ ممراته بالعاطلين من العمل، الذين يحاولون قتل الوقت وتخفيف ضغط ساعات الفراغ الطويلة محاولين البحث عن تسلية عابرة في الحوارات التي يجرونها مع بعضهم البعض.

“شيء جنوني يحدث هنا”، يقول جلال خلف (26 سنة) ويضيف: “تقابل الانخفاض المستمر في فرص العمل، زيادة ملحوظة في الزيجات، لا سيما بين شبان صغار وفتيات قاصرات، يضيفون لحياتهم أعباء جديدة عبر تحمّل نفقات عائلة وأطفال”. ثم يتابع بغضب، وهو يحاول التنفيس عن سوء حظٍ يلازمهُ منذ سنوات “لا شيء يجري بشكل جيد، ولا شيء يبشر بما هو أفضل”.

اضطر جلال إلى بيع آخر ما كان يمتلكه قبل أشهر، وهي سيارة نوع “أوبل اوميكا” موديل 1996 كان يعمل عليها سائق أجرة، ليغطي بثمنها تكاليف عملية جراحية أجريت لوالده لإخراج رصاصة كانت استقرت في ظهره، يوم الهروب الجماعي إثر غزوة “داعش” منطقتهم في “سيبا شيخدر” في سنجار صيف 2014.

“البطالة سببت لنا مشكلات لا تعد ولا تحصى، أمراض نفسية، انتحار، عنف أسري، محاولات للهجرة غير الشرعية تقترب من الانتحار”.

يقول جلال إنه يعيش مع عائلته على المعونات التي تقدمها المنظمات في المخيم: “أنا وثلاثة من أشقائي عاطلون من العمل. أحمل شهادة جامعية في تخصص إدارة الأعمال وكل محاولاتي للحصول على عمل فشلت، لو امتلكت ما يكفي من المال لغادرت البلاد فوراً، فلم أعد أشعر بالانتماء اليها بسبب كل ما مررنا به في سنجار وهنا في هذا المكان البغيض الذي زادت كورونا من وحشته”.

يجوب والد “جلال” المخيم كل يوم حاملاً صندوقاً بلاستيكياً يحوي مستلزمات كمالية نسائية ورجالية رخيصة، ليتدبر بالمال الضئيل الذي يحصل عليه من بيعها جزءاً من متطلبات عائلته، متحاملاً على شيخوخته والأمراض التي يشكو منها.

فيما يواظب جلال وشقيقه الذي يكبره بعام واحدة، على الذهاب يومياً إلى منطقة تجمع العمال في مدينة دهوك القريبة، لكنهما يعودان في معظم الأحيان والخيبة على وجهيهما من انقضاء يوم آخر، من دون أن يعثرا على عمل، مهما كان: “نقبل بأي عمل يعرض علينا وأحياناً بنصف الأُجرة المعروفة حتى لا نعود إلى عائلتنا بأياد خاوية”.

30% من عمال دهوك نازحون

ينبه فيصل خانصوري، مسؤول مجموعة “هيفي” التطوعية في مخيم “جم مشكو” الخاص بالنازحين الإيزيديين في زاخو، من تداعيات البطالة المتفشية في المخيمات، مشيراً إلى أن الفقر الذي ولّدته ترك أثراً عميقاً في المجتمع الايزيدي، فـ”تحت كل خيمة هنالك مشكلات كثيرة، سببها الرئيس الافتقار إلى فرص العمل”، مشيراً إلى أن النازحين يمرون بأحد أصعب الأوقات منذ نزوحهم قبل ست سنوات. ويضيف: “في مخيم مثل جم مشكو والذي يقطنه أكثر من 25 ألف نازح أي بحدود خمسة آلاف عائلة، هناك ربما عشرة آلاف عاطل من العمل، أقول ذلك لأنك بالكاد تجد أحداً يعمل هناك، إنها كارثة يدفع النازحون ضريبتها بمشكلات تنتهي بالعنف والانتحار”.

يؤكد، عامر عبو، الذي يدير مخيماً للنازحين الإيزيديين في قضاء شيخان (47 كلم شمال الموصل) كلام خانصوري، ويضيف: “تعيش في مخيمنا 600 عائلة نازحة من سنجار، 40 في المئة من رجالها وشبابها عاطلون من العمل، نحاول باستمرار مساعدتهم في الحصول على وظائف من خلال تواصلنا مع مؤسسات حكومية أو منظمات إنسانية”.

يرجع ولات أمين، نقيب “عمال كوردستان فرع دهوك”، قلة فرص العمل المتاحة أمام النازحين الإيزيديين في إقليم كردستان إلى الوضع الاقتصادي الذي يمر به الإقليم منذ 2014 إثر هجوم “داعش” والذي تزامن مع انخفاض أسعار النفط ما أدى إلى توقف المشاريع الحكومية والخاصة.

يقول أمين: “الوضع الاقتصادي في محافظة دهوك كان معقداً قبل نزوح أهالي سنجار إليها، وتفاقمت المشكلة بنزوحهم ليتأثر سوق العمل بدرجة كبيرة، وهو أمر طبيعي فالنازح سيفتش عن عمل ليعيش”، مشيراً إلى أن حوالى 30 في المئة من العاملين في دهوك هم من النازحين الإيزيديين من سنجار.

إقرأوا أيضاً:

“كورونا” يعمق الأزمة

يعيش فلاح حسن (29 سنة) مع زوجته وأطفاله الثلاثة في مخيم “دركار” قرب زاخو. كان يعمل بأجر يومي في مدينة دهوك قبل تفشي جائحة “كورونا”، لكنه عاطل من العمل منذ بداية انتشار الفايروس، قبل أكثر من عام: “خطر كورونا الأكبر يتمثل في تهديده قوت الفقراء اليومي لا صحتهم فقط. لقد حرمني الفايروس العمل بسبب الإغلاقات التي فرضتها الحكومة لمكافحته وتراجع الحركة الاقتصادية، ولم أعد أملك حتى ثمن شراء حليب لأطفالي”.

ساخطاً، يصف فلاح الوضع في مخيمات النازحين: “إنه الجحيم بعينه وإبادة جماعية أخرى، فلا حكومة تساعدنا ولا حلول متاحة أمامنا، وهو ما يجعل الغالبية تحلم بمغادرة البلاد بعدما كان السكان ولسنوات متمسكين بالبقاء، على رغم كل ما حدث لهم”.

هناء ايزدين (23 سنة) التي تعيش مع أسرتها في مخيم “مام رشان” للنازحين في قضاء الشيخان، تواجه المشكلة نفسها: “عملت بعقد لمدة ستة أشهر مع منظمة محلية في داخل المخيم، وافتتحت بعدها محلاً لبيع الألبسة النسائية لأخفف من معاناة أسرتي ووالدَيّ المريضين، لكن هذا لم يستمر، فمن يشتري ألبسة ولا طعام في منزله؟”.

خسرت هناء عملها منذ شهور، “في البداية كنت أقنع نفسي ووالديّ بأنها مجرد فترة قصيرة وستمضي، لكن يبدو أن أزمة كورونا ستستمر طويلاً فكيف سأتدبر حاجات العائلة؟”، داعية المنظمات المحلية والدولية إلى افتتاح مشاريع صغيرة للعاطلين من العمل في المخيمات “نزوح وبطالة وكورونا، هذا كثيرٌ علينا وفوق طاقة احتمالنا، لذا تجد كل يومين أحدهم ينتحر”.

ما قالته هناء عن الانتحار ليس مجرّد مبالغة لغوية. فقد شهدت مخيمات النازحين الإيزيديين نحو 10 حالات انتحار لشبان وفتيات خلال الأسابيع الأولى من عام 2021، ويقدر نشطاء إيزيديون عدد حالات الانتحار المسجلة خلال السنوات القليلة الماضية بأكثر من 200 حالة.

شروط المنظمات للعمل صعبة

يدفع الواقع الذي أرساه تفشّي “كورونا” قسماً من الشباب إلى محاولة الانضمام للأجهزة الأمنية من جيش وشرطة، و”إذا تعذّر ذلك تجدهم ينضمون إلى الميليشيات التي تنشط في سنجار”، كما يقول برزان شقو وهو نازح يعيش في المخيم.

عشرات آلاف الشبان الإيزيديين تزاحموا في نهاية العام الماضي أمام أبواب مراكز “غير رسمية” لتسجيل أنفسهم في قوائم المرشحين للانضمام إلى الشرطة الاتحادية، وسجل أكثر من عشرة آلاف ممن تنطبق عليهم الشروط أسماءهم على رغم أن العدد المطلوب كان حوالى ألفين فقط.

شقو الذي يعمل حلاقاً، كان يشغل دكاناً مبنياً من الخشب والنايلون في مخيم بيرسفي بزاخو لممارسة عمله، لكن حريقاً بسبب تماس كهربائي أتى على الدكان وجعله شبه مدمر. يقول: “تركت دراستي عام 2015 بسبب الفقر. كنت طالباً في كلية علوم الكيمياء في جامعة زاخو وبدأت أعمل حلاقاً حتى أعيل عائلتي، لكن الحريق أتى على دكاني وأدواتي”.

“الحلاقون يعرفون الكثير”، يقول شقو، “لهذا أعرف جيداً ما يعانيه الشباب من كآبة، دفعت قسماً إلى مغادرة البلاد وآخرين إلى العاصمة بغداد والمحافظات الجنوبية للعمل في مخازن المشروبات الكحولية”.

يتهم شقو المنظمات الإنسانية بعدم توفير فرص عمل للمحتاجين الحقيقيين، كونها تشدد شروطها كامتلاك شهادة عليا أو خبرة في العمل. وسأل: “من أين يأتي الفقير بالخبرة أو الشهادة العليا، إذا لم يستطع إكمال دراسته أو إيجاد عمل أصلاً؟”.

“لقد عدت إلى المخيم فلا خدمات في سنجار ولم يتم إعمار منازلنا التي دمرتها الحرب”

وكان حوالى 360 ألف إيزيدي نزحوا إلى إقليم كردستان في آب/ أغسطس 2014 بعد اجتياح مقاتلي “داعش” قضاء سنجار، حيث يتركز الوجود الايزيدي وتنتشر عدد من مزاراتهم المقدسة. وتم إسكانهم في 13 مخيماً موقتاً، أقيمت لهم لكنها بعد سنوات تحولت إلى مواقع إقامة دائمة.

وبحسب مصادر رسمية في قضاء سنجار فإن أقل من 100 ألف نازح (نحو 20 في المئة) عادوا إلى مناطقهم بعد تحريرها في تشرين الثاني 2015 ولغاية كانون الثاني/ يناير 2021، ومع تردي الخدمات الأساسية والبطالة المستفحلة في سنجار يقول نشطاء إن هناك عودة عكسية تحصل منذ شهرين.

يقول ميرزا رشو، وهو إيزيدي ترك المخيم وتوجه قبل نحو عام مع عائلته إلى شمال سنجار، إنه اضطر مثل عائلات كثيرة إلى العودة مجدداً، “لقد عدت إلى المخيم فلا خدمات في سنجار ولم يتم إعمار منازلنا التي دمرتها الحرب”.

إضافة إلى البطالة والدمار، فإن الخوف من تدهور الأمن بسبب مجموعات مسلحة متنافسة، تتبع “حزب العمال الكردستاني” وأخرى كـ”الحشد الشعبي” و”العشائري” وقوات البيشمركة، وكل منها تمسك جزءاً من الأرض.

شبح “داعش” ما زال حاضراً

ينبه حسو هورمي رئيس “المؤسسة الإيزيدية الدولية لمناهضة الإبادة الجماعية”، إلى أن معظم النازحين هرباً من “داعش”، يعانون من التوتر الشديد، على رغم مرور أكثر من 6 سنوات على الإبادة التي تركت ندوبا عميقة فيهم: “مشاهد الدماء والذبح والاغتصاب والدمار والتشريد لا تزال عالقة في أذهانهم بل ويعيشون تداعياتها يومياً وهذا ما أنتج الكثير من العلل الاجتماعية”.

ويحدد رئيس المؤسسة الايزيدية الدولية، أبرز المشكلات التي تواجه النازحين، من “ارتفاع مستويات العنف داخل الأسر وضحيتها الأولى النساء والأطفال، وضعف الحافز لدى نسبة كبيرة من النازحين للقيام بأي نشاط لتأمين معيشتهم، في حين أن البطالة بالأساس تُنتِج الإحباط، إضافة إلى تنامي ظاهرة زواج القاصرات، وتزايد حالات الانتحار بين الشباب والفتيات، وتزايد الاضطرابات الاجتماعية في ظل النقص بالتعليم وقلة المشاريع التوعوية وضعف الرعاية النفسية. إلى جانب تعرض الشباب إلى مخاطر الانخراط في الإرهاب أو الاستغلال أو الاستقطاب من بعض الجماعات المسلحة، بسبب البطالة”.

انتحار وزواج مبكر وأمراض نفسية

يذكر الاختصاصي في علم النفس الياس بركات، بأن للبطالة دوراً محورياً في خلق مشكلات داخل أي مجتمع. فكيف الحال مع مجتمع تعرض للإبادة وفقد أفراده حياتهم وكل ما امتلكوه في مناطقهم السابقة؟ يسأل بركات ثم يجيب: “تنجم عن ذلك ظواهر عدة كالانتحار والزواج المبكر وترك الدراسة وتفكك العائلة”. يكمل: “60 في المئة من الإيزيديين النازحين يعيشون في المخيمات في إقليم كردستان وكانوا يعتمدون، وعلى مدى سنوات قبل انتشار كورونا، على عملهم بأجور يومية لتأمين متطلباتم، في انتظار عودتهم إلى حياتهم الطبيعية”.

يبدو أن محنة الايزيديين لا تزال مكملة بوجوه أخرى.

أُنجز التقرير بدعم من “نيريج” للتحقيقات الاستقصائية

إقرأوا أيضاً: