fbpx

“الحرية… يا لجمالها” : هل سنبقى نغني للحرية دون أن نعيشها؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“المطلوب ليس إرداة الإيمان، بل إرداة البحث، والتي تشكل بالضبط النقيض لها. وأود من جهتي أن أبشر بـ”إرادة الشك” بدلاً من إرداة الإيمان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“الحرية، يا لجمالها، كلمة الأجدر بها أن تغنى من أن تلفظ”، هكذا يعبر بول فاليري عن جاذبية هذه الكلمة، المفهوم.

رافقت هذه الكلمة الفكر الإنساني عبر التاريخ، إذ تحضر الحرية في كل الأساطير وملاحم الشعوب وآداب الحضارات وفنون الثقافات، منذ أساطير الرافدين، ومحلمة غلغامش، والأساطير اليونانية كما في حكاية سيزيف وبروميثيوس، وإيكار، وصولاً إلى أكثر الإنتاجات الثقافية والفنية الإنسانية معاصرةً. كما أنها رافقت تاريخ الفلسفة منذ الأغريقي بروتاغوراس 5 ق.م، وصولاً إلى سارتر وهوسرل، ومن هنا يعتبرها الفيلسوف لوك فراي بأنها المفهوم الأبرز بين المعتقدات الإنسانية كافةً.

الحرية والحضارة الإنسانية

في كتابه “الثقافة والاستبداد” يقدم غسان الجباعي ما يشبه التاريخ الموجز للحرية. لقد ولدت الحرية مع الوعي، ونمت خلال تطور معقد مع مسيرة التجمعات البشرية والديانات السماوية والأحزاب السياسية والقيم الإنسانية. ليبدو وكأن التاريخ الإنساني كله، ما هو إلا صراع مرير من أجل الحرية، خاضه الإنسان مع قوى الطبيعة أولاً، ثم مع أخيه الإنسان تالياً، عند نشوء الملكية والصراع عليها، وصراع الطبقات، وعلاقات الرق والعبودية والقنانة. أما في التراث الإسلامي فقد بقيت الحرية لأزمان طويلة تعني “غياب الإكراه”، وكان المعنى الوحيد لها هو أنها “عكس الرق والعبودية”، وها هي حكاية عنترة ماثلة أمامنا لتذكرنا بالعبودية لأبناء المرأة الأمة أو الجارية. لقد شيد الفقه الإسلامي مفاهيمه عن الحرية بإعتبارها التخلص من شائبة الرق أو العبودية.

الحرية والقانون

في التعريف القانوني: “هي الأفعال والتصرفات الحرة البعيدة من الإكراه المادي أو المعني”. أما في التعريف السياسي “هي الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان”. وطورت الثورة الفرنسية 1789 من مفهوم عصر النهضة عن الحرية. واهتم عدد كبير من المفكرين والفلاسفة هوبز، روسو، ديدرو، فولتير بعناية في الكتابة والتأمل على مفهوم الحرية، وصولاً إلى القيم الليبرالية. لكن المؤكد أن ليس هناك حرية مطلقة، فالعلاقة مع الآخر، الغير، والمجتمع تفرض دوماً قيوداً وحدوداً، ولذلك يعرف الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان الحرية في المادة الرابعة منه بأنها: “القدرة على عمل كل ما لا يضر بالغير”. لنصل إلى التعريف الذي ورد في الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، بكونها: “الحقوق والحريات المستحقة لكل شخص لمجرد كونه إنساناً”.

الحرية كغريزة

في مقدمة كتاب غريزة الحرية، لنعوم تشومسكي، يلخص المترجمان عدي الزعبي ومؤيد النشار نظرة تشومسكي الفلسفية في الحرية التي تؤمن بأن جميع البشر يولدون بغرائز فطرية رئيسية تشكل جزءاً من الطبيعة البشرية المشتركة بين جميع الناس، ومن هذه الغرائز: غريزة اللغة وغريزة الحرية. لقد صنف تشومسكي الحرية واللغة من بين الغرائز البشرية. 

في كتابه “بحث في اللامساواة”، 1775، أحد أبكر وأكثر أبحاث القرن الثامن عشر في الحرية والعبودية جدارة بالاهتمام، وليبرهن على قيمة الحرية بالنسبة إلى الإنسان يقارن جان جاك روسو بين الإنسان والحيوان. الإنسان ذكي وحر، وهو الحيوان الوحيد القادر على التفكير، فالتفكير الحر هو ما تفتقده الحيوانات الأخرى، وما يميز الإنسان عنها: “في كل حيوان أرى آلة بارعة حبتها الطبيعة بحواس كي تحيا وتحافظ على ذاتها. أجد الأمر نفسه بالضبط في الآلة البشرية، مع الفارق بأن الطبيعة وحدها تقوم بكل العمل في الحيوانات، في حين أن الإنسان يساهم في هذا العمل لكونه فاعلاً حراً. لذا فالحيوانات لا تستطيع أن تكسر القواعد المفروضة عليها حتى إن كان ذلك الكسر نافعاً لها، والإنسان يكسر القواعد غالباً برغبته. وليس الفهم فقط ما يميز الإنسان عن الحيوان بل الفعل الحر. الطبيعة تحكم الحيوانات، والحيوانات تطيع. بينما يشعر الإنسان بأوامر الطبيعة نفسها، ولكنه يدرك أنه حر في أن يعصي أو يطيع”. لذلك، يعتبر روسو أن نظام العبودية، أي ابن العبد يولد عبداً، هو ضد الإنسانية. فالإنسان في صراع مستمر من أجل الحرية، ويصف روسو: “المعجزات التي يجترحها الناس الأحرار للحفاظ على حريتهم في وجه القمع”.

الحرية والفكر

لقد سعى روسو جهوده إلى تبيان أصل وتطور اللامساواة التي برزت مع تعسف المجتمعات الإنسانية، لذلك فهو يشكك بشرعية جميع التنظيمات الاجتماعية تقريباً، وكذلك بشرعية التحكم الفردي بالملكية والقوة. ويجادل روسو بأن المجتمع المدني ما هو إلا مؤامرة من قبل الأثرياء للحفاظ على ما سرقوه: “يركض الجميع إلى قيودهم مصدقين أنهم قد أمّنوا حريتهم. فالمجتمع والقوانين وضعت قيوداً جديدة على الضعفاء وسلطات جديدة للأقوياء، ودُمرت الحرية الطبيعية بشكل دائم، وأرست إلى الأبد قانون الملكية واللامساواة، وحولت اغتصاب الشرعية الخبيث إلى حق نهائي، ولمصلحة قلة من الطموحين أجبرت كامل الجنس البشري على العمل والخدمة والبؤس. أما شيلينغ فتعود له الكثير من أصداء الفكر التحرري والأفعال الثورية في نهاية القرن الثامن عشر: “حان الوقت لإعلان حرية الروح الإنسانية، ولا حاجة بعد الآن للندم الحزين على القيود القديمة”. لكن عبارته الأبرز حول الحرية هي أن: “بداية ونهاية كل فلسفة هي الحرية”. لكن ديكارت وأتباعه ربطوا بين الحرية واللغة، فاعتبروا أن الكائن الحي الذي يمتلك عقلاً هو القادر على استخدام اللغة بأسلوب خلاق المبدع، وذلك لا يتم إلا من خلال التفكير الحر والتعبير عن النفس، والتوق إلى الحرية بعيداً من القيود الخارجية للسلطات القامعة. ويعتبر فيلهلم فون همبولت أن التعريف الأدق للعقل هو القدرة على استعمال اللغة بطريقة حرة وخلاقة: “اللغة عملية إبداع حر؛ قوانينها ومبادئها ثابتة، لكن استعمال وتأويل الكلمات يحتوي على خلق حر”.

إقرأوا أيضاً:

الحرية أهي قيمة عالمية، أم تخضع للخصوصيات الثقافية والمناطقية والدينية ؟

يسود في قوانين حقوق الإنسان وأفكاره تياران، الأول يقول بعالمية المعايير والقيم الإنسانية مثل الحرية والمساواة وحقوق المرأة، بينما يدافع التيار الأكثر محافظةً عن الخصوصيات الثقافية والمناطقية فيفرض احترام خصوصيات الدول بعيداً من عالمية المعايير، كما هو الحال في أفريقيا، أو الخصوصيات الدينية في العالم الإسلامي، فيتحججون مثلاً بعدم المساواة بين المرأة والرجل إما للخصوصية الثقافية أو الدينية. في الرد على ذلك، يعتقد تشومسكي بعالمية قيمة الحرية: “يشكل الإيمان بأن كل الناس يتمتعون بغريزة الحرية، وبطاقات خلاقة حرة وغنية، وبأنهم يستحقون حياة أفضل من استعبادهم من قبل مجموعة طغاة كبار وصغار، محليين أو أجانب، منطلقاً لصراعنا من أجل التحرر. والكلام عن خصوصيات ثقافية وعن نسبوية القيم لا يساعد على الإطلاق، بل على العكس، يبرر القمع والظلم في أغلب الأحيان، فلا توجد خصوصيات في المعارك من أجل الحرية”.

الحرية كقضية

بالنسبة إلى تشومسكي فإن على جميع الناس مسؤولية تغيير المجتمع والعمل على رفع الظلم. على أن للمثقفين دوراً خاصاً، لأنهم يتمتعون بفرصة أكبر لرؤية الحقائق، ويتمتعون بمكانة معينة وحصانة نسبية تتيح لهم أن يجدوا جمهوراً يصغي إليهم. المسؤولية الثقافية تتجلى بشكل رئيس في عرض الحقائق وفضح وكشف شبكة الأكاذيب السلطوية، ويرى أن مسؤولية المثقفين الرئيسية هي فضح الإيديولوجيا الرسمية التي تتحكم بوسائل الإعلام وبالتعليم وبالخطابات الثقافية المفروضة على المجتمع: “علينا أن نتابع نضالنا من أجل التحرر، دون ضمانات تؤكد لنا أن هذا النضال سينتصر، هذا هو قدر الإنسان، تحركه غريزة غامضة نحو الحرية”.

الحرية والدين

يروى في مسرحية فاوست، غوته أن الله ملّ من عبادة الملائكة له، لأنها كائنات لا تمتلك حرية الاختيار، حتى لو كانت تسبح بتمجيده. وبهذه الفقرة يفتتح برتراند راسل محاضرته الشهيرة عبادة الإنسان الحر، 1903: “رغم فناء الإنسان، رغم حتمية الموت، ورغم الحتمية الطبيعية، فما زال الإنسان حراً خلال سني عمره المعدودة، حراً في أن يختبر، أن ينتقد، أن يعرف وأن يتخيل أنه يخلق”. أما الديانات بالنسبة إليه، فهي في جوهرها على النقيض من الحرية: “لأنها تمثل الخضوع المتذلل للعبد، والذي لا يجرؤ حتى على التفكير بأن إلهه لا يستحق التزلف. بما أن استقلال المُثل لم يتم الاعتراف به حتى الآن، تُعبد القوة وتتلقى احتراماً لا محدوداً، على رغم الألم الجائر الذي تسببه”. أي أن راسل يحتم ضرورة تحرير الإنسان من استبداد القوى الدينية، ويترك لنا الخيار إما أن نعبد القوة أم نعبد الخير؟ أما فيلهلم فون همبولت فيرى أن الإنسان في جوهره خلّاق بحّاثة، والإبداع والبحث هي الغاية التي تدور حولها كل أفعال الإنسان، يمكن التعرف إلى وجهة نظره العميقة عن الحرية بالفقرة الرائعة التالية: “الحرية بلا شك هي الشرط الذي لا يمكن الاستغناء عنه، والتي بدونها لن يفلح السعي للوصول إلى الأمور الأكثر توافقاً مع الطبيعة البشرية، ولن يؤدي إلى النتائج المرجوة. كل ما لا يأتي من الاختيار الحر للإنسان، أو كل ما هو فقط ناتج عن التوجيه والأوامر، لا يدخل في كينونته فعلاً، بل يبقى غريباً عن طبيعته الحقة؛ فهو لا يفعل تلك الأمور بطاقاته الإنسانية الحقيقية، بل فقط بدقة ميكانيكية”.

الحرية والجمال

ويربط راسل بين الحرية والقدرة على تلمس الجمال: “من الفكر المقيد تنتج سلوكيات الإذعان، أما من الفكر الحر فينبع كل عالم الفن والفلسفة، ورؤيا الجمال التي من خلالها أخيراً ينتصر الإنسان مجدداً. ولكن رؤية الجمال ليست متاحة إلا للتأمل الحر. والتفكير الحر لا يقبل الدوغمائيات الدينية التقليدية. فالإنسان ذو الفكر عليه ألا يكون مسيحياً أو محمدياً أو بوذياً أو شينوتياً، أو منتمياً إلى مجموعة بشرية تقبل بعقيدة متوارثة. والأذى الأساسي الذي تسببت به الأديان يمكن إرجاعه بشكل رئيس إلى أنها منعت التفكير الحر.

الحرية والإختلاف: إلى أي مدى؟

في محاضرته التفكير الحر والبرباغندا الرسمية، 1922، يشرح راسل أن الشرط الأول، كي يكون الفكر حراً، هو غياب العقوبات القانونية المتعلقة بالتعبير عن الرأي. يخسر التفكير المجتمعي حريته عندما تفرض عقوبات قانونية على من يحملون آراءً أو معتقدات مغايرة، بينما يتحقق التفكير الحر عندما تتنافس الآراء المختلفة بحرية، أي عندما تستطيع جميع الآراء عرض قضيتها، من دون فرض أي عقوبات مالية أو قانونية على هذه الآراء. وكذلك، يكتب جاد عبد الكريم الجباعي: “لا يمكن فهم الاستبداد إلا بصفته عملية سيطرة على الاختلاف أو نفي الحرية، فيقوم الاستبداد بالسيطرة على الاختلاف بناءً على رؤية أحادية وشمولية أو عقيدة أحادية شمولية. بينما ثقافة الحرية هي التي تتأسس على الاختلاف، على الاعتراف النهائي بواقعية الاختلاف، وبكونه شكل تعيّن الحرية، نحن أحرار لأننا مختلفون. وهذا الاعتراف هو ما يحمل إمكانية التواصل والتعارف والتثاقف”.

في مقالة لها بعنوان “هل نعيش اليوم الحرية المشروطة؟”، تسأل الكاتبة كاترين غوليو، هل العالم الغربي الديموقراطي مستعد حقاً لتقبل اختلاف الآخر مهما بلغ مداه؟ ويوصي شارلز تايلر: “علينا أن نقتنع بعمق أن الآخرين يختارون حياتهم بحرية بعيداً من معاييرنا، علينا تقبل خيارات الآخرين حتى تلك الصادمة لنا”. ويعطي مثالاً عن حرية المرأة المسلمة في ارتداء البرقع في الدول الأوروبية. لذلك يعتبر تايلر أن احترام حرية الفرد تشمل كذلك تقبل إقدامه على ممارسات دوغمائية أو عقائدية حتى لو شكلت خطراً عليه نفسه. تكتب كاترين غويللو: “تختار الشعوب طغاتها بوعي وبانتخابات، فلماذا نمنع المرأة المسلمة من اخيتارها ارتداء البرقع؟”.

الإيمان بالشك

يكتب راسل: “المطلوب ليس إرداة الإيمان، بل إرداة البحث، والتي تشكل بالضبط النقيض لها. وأود من جهتي أن أبشر بـ”إرادة الشك” بدلاً من إرداة الإيمان. كل معتقداتنا ليست دقيقة تماماً يلفها الخطأ والغموض، وطرق تطوير المعرفة الإنسانية معروفة جيداً، وتكمن في عملية الإنصات إلى كل الأطراف، ومحاولة التحقق من كل الوقائع ذات الصلة، والتواصل عن طريق النقاش مع من يحملون انحيازات مختلفة، وتطوير استعداد للتخلي عن أي فرضية ثبت خطؤها”. يوصي راسل بالشك، فالتاريخ يبين أن الأكثر الحقائق علميةً في عصر قد يثبت عدم صحتها في فترة لاحقة.

إقرأوا أيضاً:

الحرية والعامل الاقتصادي

راسل هو من يتطرق إلى العلاقة بين الحرية والاقتصاد، فالتفكير لا يمكن أن يكون حراً إذا لم يسمح لمن يعتنق آراءً معنية أن يمارس مهنة يعتاش منها. وقد نبه راسل باكراً إلى احتمال لجوء السلطات إلى استعباد المجتمعات عبر منح الوظائف لداعمي إيديولوجياتهم، وإقصائها عن الآخرين، وهو ما سيؤدي برأيه إلى تجويع الشعوب لتركيعها، وهذا ما اتهم به النظام السوري واللبناني مثلاً. أما سيمون لينغويت فنبه مبكراً بأن الاقتصاد الرأسمالي أسوأ من العبودية: “سيد واحد يستعبدهم، وهو الأسوأ، والأكثر غطرسةً من بين كل السادة، إنها الحاجة. هذا ما يجعلهم تحت رحمة أشد أشكال التبعية”. ويبين فيلهلم همبولت أن الرق والعبودية مستمران في الممارسة الإنسانية الراهنة مادامت الطبقة العاملة لم تتحرر بعد من تسليع العمل وعبودية الأجور وسلطة المؤسسات المالية والصناعية والتجارية.

مناهج التعليم أساس الحرية

يعتقد راسل أن الأنظمة التعليمية السائدة لا تطور الفكر النقدي والمساءلة والشك، فالتاريخ المدرسي مثلاً يشوه ويحرف بما يخدم مصالح السلطات الحاكمة، وهذا الغياب للحس النقدي في التعليم سيضع نهاية لكل فرصة للتقدم أو الحرية أو المبادرة الخلاقة: ” سيطرة رؤية واحدة على التعليم تجعل منه أحد العقبات الرئيسية أمام الذكاء وحرية التفكير، والسبب الرئيس لذلك يكمن في احتكار الدول للتعليم”. ولذلك، يجب أن تكون غاية المؤسسات التربوية الديموقراطية هي تشكيل القدرات على وزن الحجج المختلفة والإنفتاح العقلي، وإلا فإنها ستنتج أجيالاً ستعبر من الولادة إلى الموت من دون أن تترك أثراً في تاريخ الإنسانية. 

في الرد على مقولة: “الشعب العربي مو خرج حرية، أو الشعب السوري أو اللبناني ما بيلبقلوا الحرية”

يرفض كانط مقولة أن أناساً بعينهم ليسوا مستعدين للحرية، وفي هذا رد على القائلين بأن الشعب العربي غير قابل للحرية، فقد راجت هذه المقولات في بدايات الربيع العربي وخصوصاً في سوريا وحتى اليوم، فيعتبر كانط أن هذا الخطاب يجعل الحرية مستحلية: “إذا قبل المرء بهذا الافتراض، فالحرية لن تنال أبداً، لأن المرء لن يستطيع الوصول إلى النضج اللائق بالحرية إن لم ينلها بدايةً، على المرء أن يكون حراً كي يتعلم كيف يستخدم قواه بشكل حر ونافع. فالإنسان يكتسب الفكر فقط من خلال تجاربه الخاصة، وعلى المرء أن يكون حراً كي يختبر هذه التجارب”. وبالتالي، يضع كانط الحرية في إطار الممارسة التي لا يمكن اكتسابها إلا بالتجريب، وليس بالقابلية أو الاستعداد والتهيئة المسبقة للحظة المناسبة، بل هي تراكم الخبرة في الخيارات والتجارب. 

ويؤيده فيلهلم همبولت: “لا شيء يحضّ على نضوج الحرية كالحرية ذاتها. هذه الحقيقة، ربما، لن يعترف بها أولئك الذين يستخدمون عدم النضوج هذا كعذر لاستمرار الاضطهاد. ولكنها تبدو لي نابعة بشكل لا ريب فيه من طبيعة الإنسان نفسها. لا يمكن أن نجهل كيف نتصرف بحرية إلا بسبب نقص القوى الأخلاقية والعقلية؛ السمو بهذه القوى هو السبيل الوحيد لمعالجة هذا النقص؛ ولكن هذا يفترض تدريب هذه القوى، وهذا التدريب يفترض الحرية التي توقظ الفعالية العفوية”.

الحرية والثقافة والفن

هنا يأتي دور الثقافة بحسب غسان الجباعي الذي يحدد للثقافة ثلاث مواجهات مع الحرية:

مواجهة مع السلطة، وهي الحرية السياسية التي تمنحها السلطة.
مواجهة مع النفس، وهي الحرية الذاتية التي تنبع من الفرد.
مواجهة مع المتلقي أو المستهلك، وهي حرية جمهور الثقافة والناس.

ويعتبر المسرحي غسان الجباعي أن الحرية شرط إبداعي في الفنون، بينما يجعل حازم النهار في نصه “صناعة الفن الحر من الحرية”، العنصر الرئيسي الدافع للفن الطامح إلى ممارسة دور إيجابي ومؤثر في حياة البشر. والمعنى البدهي لذلك هو استقلالية الفن عن السلطة الحاكمة والأحزاب السياسية والإيديولوجيات السائدة والمؤسسات الدينية والمصالح الطبقية: “يتوجب على الفن أن يكون حراً حتى ولو لم يتوافق مع المزاج العام للناس، خصوصاً في المجتمعات المتأخرة، فدوره في هذه الحالة هو الارتقاء بأمزجتهم، لا مسايرتهم. الفن الحر نشاط إنساني لا يتقبل السمات الأيديولوجية والدينية والمذهبية والعرقية، فهو يعيش كلما كان أكثر اندماجاً بالحرية وقيم الخير والعدالة والجمال والحقوق الإنسانية”. لكن وبالقابل، فإن الفن أيضاً قد يخدم مصالح الاستبداد مما يمكنه من المحافظة على مرتكزاته في المجتمع واستمرار تحكمه في السياسة والاقتصاد. وبالتالي، فالفن إما أن يذكي روح الشك والتساؤل والتمرد والتغيير، وإما روح الاستكانة والقبول والخنوع والمحافظة على الوضع القائم. من هنا تصبح السيطرة على الفن والعملية الفنية واحدة من أولويات الاستبداد وأهدافه الضرورية، فيتحكم بالمسارح والسينما والتلفزيون واتحادات الكتاب ونقابات الفنانين، ويلجأ إلى استصدار القوانين وتجنيد العناصر البشرية الضرورية لتحقيق هذه السيطرة.

يتميز الفن الذي يشيع في الدول الاستبدادية بأنه فن عقائدي يعمل وفقاً لمقولات الأب القائد وأيديولوجيا الحزب الحاكم، وله اتجاه واحد: من الفنان إلى الجمهور، معتمداً على أسلوب التلقين المباشر، ويفتقر إلى العودة الضرورية في الاتجاه المعاكس، أي من الجمهور إلى الفن، وهو الاتجاه الذي يعيد تكوين الفن ويحثه على إعادة النظر في أفكاره وآلياته ووسائلته، وعلى إبداع الجديد وإعادة بناء العملية الفنية كاملة. أما الاستمرارية فهي من نصيب الفنون التي تحمل رؤية عميقة وحرة للحياة والعالم والذات البشرية، وتحمل المبادئ والقيم الإنسانية التي تعارفت عليها البشرية، في حين أن الفنون التي سُخرت في خدمة الاستبداد بأصنافه السياسية والدينية والإيديولوجية، فإنها تكون موقتة وترتبط بدوام الاستبداد وتزوال بزواله من دون ترك أي تأثير. 

أما الفن الحر فهو فسحة تأمل وميدان لتحريض العقل وإنتاج الأسئلة وحث الروح البشرية، وينطوي دوره الرئيس على إنتاج الحرية وإطلاق العقول والأرواح من أسرها العقائدي أو السياسي أو الديني. لا يتوافر الفن الحر بالتالي مع الركود والجمود والسكون، ولا مع المحافظة على التقليد والثوابت وما هو سائد، بل يجد دوره الطبيعي حين تفتح الأبواب غير المطروحة، وينبش في المحرمات والمحظورات والممنوعات، ولا سيما السياسية والدينية، وحين يتبنى الروح التحريضية، ويطرح الأسئلة الجديدة بإستمرار، أي مع التخطي والتجاوز الدائمين، ومع الثورة الدائمة على الواقع.

الفن، لا يحيا ولا يزدهر إلا في تربة الحرية، فالعنوان الرئيس للفن هو البوح، أي إخراج الكلمة والرأي والحلم والهواجس والآلام والأفراح إلى العلن، والتشارك فيها مع الآخرين من خلال الحوار المباشر بين الفن والجمهور، وخلق علاقة تبادلية بينهما، ليكون الفن حالة متغيرة باستمرار. ولقد قام الفن بدور كبير في الثورات العربية، ذلك أن الشارع يتحول معها مسرحاً مفتوحاً للجميع، فيمتزج الفعل الفني بالفعل الثوري، فيعبر عن أهداف البشر وتطلعاتهم. فالثورة لم تكسر حاجز الخوف فحسب، بل ساهمت أيضاً في إطلاق سيرورة الإبداع لدى المجموعات والأفراد. لأن الإنتاج الفني لم يعد مقيداً بالخوف من الأجهزة الأمنية والرقابة والقوى الاقتصادية، بل راح يغني “الحرية” كما أوصى بول فاليري في بداية النص: “الحرية، يا لجمالها، كلمة يجدر بها أن تُغنى أكثر من مجرد أن تُلفظ”.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.