fbpx

المحكمة العسكرية في لبنان:
تلاحق المدنيين والأطفال وفي سجلها أسرع حكم إعدام!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يسجّل القضاء العسكري مخالفات جسيمة بحق الموقوفين الذين اقتادتهم القوى الأمنية إلى مكان احتجازهم من دون السماح لهم بإعلام أهلهم أو محاميهم بتوقيفهم، إلّا بعد أيام كان فيها الموقوفون أشبه بالمخفيين قسراً…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يحفل تاريخ المحكمة العسكرية اللبنانية بملاحقة المدنيين تحت عناوين فضفاضة، غالباً ما تخفي وراءها تدخلات سياسية، تبدأ من اتهام متظاهرين يحتجون على الوضع المعيشي وصحافيين يعبّرون عن آرائهم، بتهديد الأمن القومي، ولا تنتهي بمحاكمة ناشط بتهمة نشر نكتة تطاول “هيبة” الجيش اللبناني على مواقع التواصل الإجتماعي.

آخر فصول تطويع المحكمة العسكرية لتأديب اللبنانيين كانت بإحالة 35 شخصاً إلى التحقيق العسكري على خلفية أحداث طرابلس الأخيرة التي أحرق مبنى البلدية بعد مواجهات بين المتظاهرين وقوى الأمن، التي وثّقت وسائل الإعلام قيامها بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين.

من أحداث طرابلس الاخيرة

المحكمة وجدت أخيراً التهمة التي تريد عبرها ملاحقة نشطاء طرابلس ممن شاركوا في التظاهرات ضد السلطة: “الإرهاب والسرقة”. فقد ادّعت المحكمة على 35 معتقلاً من متظاهري طرابلس بـ”تشكيل عصابات إرهابية واستخدام متفجرات والسرقة”، بحسب وكيل المعتقلين المحامي أيمن رعد. وتصل عقوبة هذه التهم إلى الإعدام، في قضية يفترض أنها تصبّ أساساً في حرية التعبير والاحتجاج والتظاهر، وهو ما تمنعه السلطة عبر إرسال قوى الأمن والجيش لقمع أي تحرّك مطلبي. وتحاكم المحكمة العسكرية جميع من ألقت القبض عليهم في ذلك اليوم على خلفية إحراق مبنى البلدية. ويبدو أن استخدام تهمة “الإرهاب” ينقل المواجهة مع المحكمة العسكرية إلى مستوى جديد، بحسب المحامي رعد. وتكمن خطورة هذا الاتهام في أنه يحاول وصم جميع المتظاهرين بهذه التهمة، بعد تهم كثيرة كانت تطاول المتظاهرين منها العمالة للسفارات وتهديد الأمن القومي والنيل من هيبة الدولة. 

هذه التهمة “الجديدة” تفتح الباب مجدداً لنقاش دور المحكمة العسكرية واستخداماتها من قبل السلطة كذراع قوية لقمع الحريات وملاحقة المدنيين أمام القضاء العسكري الاستثنائي، في بلاد تنحدر شيئاً فشيئاً إلى الحكم البوليسي. 

لا يحترم القضاء العسكري حقوق الدفاع كالقضاء العادي، فيمنع الموقوفين من توكيل محامٍ خاص لحضور جلسات التحقيق والمحاكمة.

توسيع صلاحيات

بحسب “المفكّرة القانونية”، شهد القضاء العسكري في لبنان توسّعاً مطرداً في صلاحياته لتشمل محاكمة المدنيين ليس في قضايا التجسس والخيانة والاتصال غير الشرعي بالعدو وحيازة الأسلحة، وحسب، بل أيضاً في الجرائم التي تمس مصالح الجيش أو قوى الأمن الداخلي أو الأمن العام وفي النزاعات بين مدنيين من جهة وعسكريين أو عناصر أمن أو موظفين مدنيين في وزارة الدفاع، الجيش، أجهزة الأمن، أو المحاكم العسكرية من جهة أخرى. وينظر القضاء العسكري في قضايا الإرهاب والضالعين فيه، وتشكّل وظيفة المحكمة العسكرية هذه، الذريعة التي تلجأ إليها الدولة اللبنانية في رفضها إجراء أي تعديل على اختصاص المحكمة.

على رغم صفتها الاستثنائية، لم تتوان المحكمة العسكرية عن ملاحقة نشطاء مدنيين على خلفية مشاركتهم في التظاهرات المطالبة بإيجاد حلول لأزمة النفايات عام 2015، ففي تشرين الأول/ أكتوبر من ذلك العام، تم توقيف 50 شخصاً وتحويل 14 منهم إلى المحكمة العسكرية بتهم الشغب والتخريب، شتم المؤسسة العسكرية والدولة وتدمير أسلحة حربية، ليتبين أن التهمة الأخيرة تتمحور حول محاولة المتظاهرين نزع سياج شائك! 

بقيت حينها ملفات 5 أشخاص من أصل 14 في المحكمة العسكرية التي قرّرت وبعد عرض صور لهم تؤكد عدم تعرّضهم للقوى الأمنية، تبرئتهم من كل التهم، وذلك في 24 نيسان/ أبريل 2017، أي بعد مرور سنتين على واقعة الاعتقال. سنتان كانتا كفيلتين لاستنزاف النشطاء المدّعى عليهم بين أخذ ورد لا ينتهي في أروقة المحكمة، وفي بث اليأس والخوف في نفوسهم من محاولات التشهير بهم وتصويرهم على أنهم إرهابيون، بحسب ما ينقل نشطاء أحيلوا إلى المحكمة العسكرية.

“شعرت خلال التحقيق معي وكأنني خارج عن القانون، ومنعت من الاتصال بمحامٍ لحضور جلسات التحقيق التي لم تخلُ من العنف الجسدي والمعنوي. دفعني ما حصل لي إلى التفكير ملياً في مغادرة البلاد”، يقول أحد النشطاء ممن جرى توقيفهم في 2017 وطلب عدم الكشف عن اسمه. وتضيف ناشطة أخرى، رفضت هي أيضاً ذكر اسمها: “تجنّبت منذ صدور القرارات بحقنا أن أشارك في تظاهرات مناهضة للحكومة، على رغم اقتناعي بأهميتها. خفت أن أكرر تجربة الملاحقة والتحقيق والانتظار التي أثّرت سلباً في وضعي النفسي والاجتماعي على مدى عامين، وأفقدتني حماستي للسعي إلى تغيير واقع بلد تشوب نظامه القضائي كل تلك الشوائب”.

تخبّط المحكمة العسكرية المشبوه في تحديد اختصاصها تجلّى من جديد عام 2018، بعد إصدارها حكماً غيابياً بالسجن ستة أشهر بحق الصحافية حنين غدّار بتهمة التشهير بالجيش اللبناني في كلمة ألقتها خلال ندوة إعلامية، لتعود وتلغي قرارها بسبب عدم اختصاص القضاء العسكري بالقضية التي تطاول غدّار كصحافية تجوز محاكمتها أمام محكمة المطبوعات وحسب.

“شعرت خلال التحقيق معي وكأنني خارج عن القانون، ومنعت من الاتصال بمحامٍ لحضور جلسات التحقيق التي لم تخلُ من العنف الجسدي والمعنوي. دفعني ما حصل لي إلى التفكير ملياً في مغادرة البلاد”

عام 2016، سجّلت جميعة “الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان” رقماً قياسياً وصل إلى 355 طفلاً تمت محاكمتهم في محاكم عسكرية لا تجيز لها القوانين محاكمة الأطفال تحت أي ظرف.

لا شفافية ولاحياد

تشير منظمة “جوستيسيا” في ورقة عمل أعدّتها عام 2015، إلى أنه، وإلى جانب صلاحياته الواسعة، لا يتوافق عمل القضاء العسكري مع شروط المحاكمة العادلة لجهة الشفافية، الاختصاص، الاستقلالية، الحيادية والمساواة بين المواطنين. الأمر الذي يؤكّده المحامي أيمن رعد وهو عضو لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين. فقضاة المحاكم العسكرية يتشكّلون من قضاة عدليين وضبّاط تعيّنهم وزارة الدفاع ومنهم من لا يحمل شهادة في القانون أو لم يتدرّج في معهد الدروس القضائية وبالتالي لا يفقه حتى في القانون بشكل وافٍ لمحاكمة المدنيين وفق الأصول.

إلى جانب ذلك، لا يحترم القضاء العسكري حقوق الدفاع كالقضاء العادي، فيمنع الموقوفين من توكيل محامٍ خاص لحضور جلسات التحقيق والمحاكمة. وكانت “منظمة هيومن رايتس ووتش” وثّقت في تقرير عام 2017، تعرّض موقوفين لدى القضاء العسكري للتعذيب خلال فترات احتجازهم واستجوابهم بهدف انتزاع اعترافات أضيفت إلى ملفاتهم على رغم عدم قانونية ظروف انتزاعها.

خلافاً للأصول أيضاً، تجري المحكمة العسكرية محاكماتها بشكل غير علني وفي يوم واحد ولا تتجاوز مدّة أطول جلساتها الخمس دقائق، يفرض فيها على المتهمين محام عسكري غير متمرّس قانونياً يحضر إلى جانبهم في يوم المحاكمة، من دون أن يطلّع مسبقاً على ملفاتهم أو حتى هوياتهم في معظم الأحيان.

ورقة واحدة

لا تصدر الأحكام عن القضاء العسكري معلّلة، بل تكتفي المحكمة بورقة واحدة عليها مجموعة من الأسئلة تتم الإجابة عنها بنعم أو لا، وتتحدّد العقوبة على أساسها من دون أن يضطر القاضي إلى تعليل الأسس القانونية التي بنى عليها رأيه، أو تفسيرها.

وبإسقاط ما تقدّم به رعد على ملف موقوفي طرابلس، يسجّل القضاء العسكري مخالفات جسيمة بحق الموقوفين الذين اقتادتهم القوى الأمنية إلى مكان احتجازهم من دون السماح لهم بإعلام أهلهم أو محاميهم بتوقيفهم، إلّا بعد أيام كان فيها الموقوفون أشبه بالمخفيين قسراً فيما يتم التحقيق معهم، وذهبت القوى الأمنية بعيداً في تجاوزاتها إلى حد نشر معلومات مغلوطة حول مكان احتجاز أحد الموقوفين في الشمال. فبعدما أصدرت فصيلة القبّة تعميماً بفقدانه، ظهر الموقوف في المحكمة العسكرية بعد أيّام ليتبيّن أنه كان لدى استخبارات الجيش في المنطقة نفسها، بحسب ما يفيد رعد.

يعدّ ذلك مخالفة صريحة للمادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية والتي تقضي بحق المشتبه فيه فور احتجازه بالاتصال بأحد أفراد عائلته أو بصاحب العمل أو بمحام يختاره، وبمقابلة الأخير لإطلاعه على ملفه وعلى المحقق أيضاً أن ينتظر وصول المحامي قبل المباشرة في تحقيقاته وتصويرها بالصوت والصورة.

ووجّهت النيابة العامّة تهماً جماعية إلى الموقوفين من دون التفريق بينهم، ومنها القيام بعمليات شغب وتخريب، تشكيل عصابة مسلّحة، معاملة قوى الأمن بالشدّة، إحراق أبنية مأهولة، وتحقير رئيس الجمهورية ويقع معظم هذه التهم كالشغب والتخريب وإحراق أبنية مأهولة وتحقير رئيس الجمهورية خارج اختصاص المحكمة العسكرية.

“تجنّبت منذ صدور القرارات بحقنا أن أشارك في تظاهرات مناهضة للحكومة، على رغم اقتناعي بأهميتها”

وللمفارقة، كانت المحكمة نفسها أقرّت عام 2017، عدم اختصاصها في النظر في جرائم الشغب والتخريب كونها لا تمسّ بمصلحة الجيش وقوى الأمن والأمن العام وحصرت دورها بالقضايا التي تتعلّق بمعاملة قوى الأمن بالشدّة، وذلك على خلفية محاكمة المتظاهرين المشاركين في حراك عام 2015. لتعود وتخالف المحكمة اليوم ما أقرّت به سابقاً، وذلك لزوم التماهي ربّما مع حاجة السلطة السياسية الملّحة إلى كبح الاحتجاجات الشعبية.

تقول آية مجذوب وهي باحثة في شؤون لبنان والبحرين في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، إن المحاكم العسكرية ليست من شأنها محاكمة المدنيين، وتؤكّد أن تحقيقاً أجرته المنظّمة يظهر أن الانتهاكات للمحاكمات العادلة والقانون الدولي هي جزء متأصّل من محاكمة المدنيين أمام المحكمة العسكرية في لبنان لجهة عدم استقلاليتها عن وزارة الدفاع وسوء معاملتها الموقوفين وإصدار قرارات من دون تفسير.

وبالعودة إلى تاريخ المحكمة، يظهر جلّياً أن النهج التعسّفي الذي تدينه المنظّمة ليس بجديد على المحكمة. إذ يوثّق “ديوان الذاكرة اللبنانية” التابع لمركز “أمم” للتوثيق والأبحاث” الذي أسّسه الكاتب والناشر الراحل لقمان سليم، كيف أحيل صاحبا جريدة النهار غسان ووليد تويني عام 1949 إلى المحكمة العسكرية بتهمة “تحقير العلم والجيش”، في مقال نقل فيه غسان تويني ذهول اللبنانيين من السرعة التي أحيل فيها مؤسس “الحزب القومي السوري الاجتماعي” أنطون سعادة إلى المحكمة العسكرية التي أصدرت قراراً بإعدامه ونفّذته بين ليلة وضحاها. كتب تويني حينها أن سرعة إعدام سعادة حيّرت اللبنانيين ودفعتهم إلى أن يتساءلوا أي الميتات قد مات، واعتبر تويني أن الحكومة أرادت التخلص من سعادة فسعت إلى حصر التهم الموجّهة إليه بأعمال الشغب وقتل رجال الأمن، ما سرّع محاكمته أمام المحكمة العسكرية، التي أدّت إلى أسرع قرار بالإعدام في تاريخ لبنان الحديث صادر عن محكمة لبنانية رسمية تنطق أحكامها باسم الشعب اللبناني. 

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!