fbpx

مرضى الخرف… ضحايا الألم الصامت والانغلاق على الذات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“إذا كان شخص ما يعتقد أن الخرف قد أفسد الدماغ إلى حد كبير لدرجة أن المريض لا يشعر بالألم، أستطيع أن أقول بكل ثقة إن هذا ليس صحيحاً”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الليلة الأولى في منزلها بعد رجوعها من المستشفى، توقفت جدتي عن سؤالي مراراً وتكراراً بالفرنسية، بين نوبات الألم الذي يعتصرها، “ماذا فعلتُ؟”.

تبلغ جدتي دنيس 82 سنة، وهي في المراحل المتأخرة من مرض الزهايمر، ما يعني أنه لم يعد في إمكانها تكوين ذكريات جديدة. في الصيف الماضي -من المستحيل تحديد الوقت على وجه الدقة- تعثرت جدتي وانكسرت إحدى فقرات ظهرها. لكنها نسيت حدوث ذلك على الفور، وبقي الألم دليلاً على ذاك السقوط. احتاجت عائلتي أسابيع، وزيارتين إلى المستشفى، قبل أن تفهم السبب وراء امتناعها عن الأكل وملازمتها الفراش. 

استعداداً لخروجها الثاني من المستشفى، سافرت إلى فرنسا من أجل رعايتها. عندما وصلت إلى الشقة التي تعيش فيها بمفردها، لم أكن مهيأة تماماً للمدى الذي قد يزيد به مرض الزهايمر معاناتها.

تكاد حنجرة جدتي تنخلع من مكانها مع كل نفس، إضافة إلى تأوهها خلال نومها. وعندما أحاول حثها على القيام من الفراش لتناول الطعام، تدخل في نوبات غضب طفولية وتضربني بيديها وقدميها. وقد أُصيبت بسعال شديد للغاية لدرجة أنه قد يهيأ لمن في غرفة بعيدة أنها تتقيأ! وهو ما يتحول أحياناً إلى قيء بالفعل بينما يحاول جسدها طرد الألم بعيداً. لم تعد تميز الليل من النهار وأصبحت تتوه داخل منزلها، بل وحتى في غرفة نومها.

تستفيق جدتي، كل بضع دقائق، لتعاود اكتشاف معاناتها من جديد، وهو ما يصيبها بحالة من الذعر تزيد من عذابها. كان ألم جدتي جلياً بطريقة لا يمكن إنكارها، لكنه مع ذلك ظل، بطريقة ما، غامضاً لكلينا.

يُعد التحكم في الألم مسعى شائكاً في كل الأحوال. تقول إلين سكاري، في كتابها “جسد متألم” الصادر عام 1985، “تجربة الألم الجسدي للمرء تمثل نموذج اليقين، بينما يمثل السماع عن الألم الجسدي لشخص آخر نموذج الشك، حيث لا يمكن أبداً التأكد منه كلياً”. تتطلب مساعدة شخص ما على مواجهة الألم، استشراف الأعماق الخفية لجسد شخصٍ آخر- اعتماداً على الخيال وحده- ومن ثم تقبُّل تلك المعاناة المتخيلة باعتبارها شيئاً حقيقياً وواقعياً.

عندما تحول الحالة الإدراكية للمريض دون تقديم تقييم ذاتي موثوق، كما هو الحال مع جدتي، يزيد عجزنا عن الإحساس بألم المريض ومحاولة علاجه. بالنسبة إلى مقدمي الرعاية الصحية لمرضى الخرف، يكون لغز معاناة أولئك المرضى شبه مستحيل.

بإمكان مرض الزهايمر، المُسبب الأكثر شيوعاً للخرف، أن يقوض مسارات الألم برمتها، بداية من الإحساس به وحتى الإبلاغ عنه. ربما يعبر مريض الزهايمر عن عدم ارتياحه من خلال الشرود أو التأوه أو الامتناع عن الأكل أو عدم النوم، لكن تلك السلوكيات قد تعبر أيضاً عن الإحساس بالوحدة أو الجوع  أو الحزن أو قد تكون ببساطة أحد أعراض المرض نفسه.

إذا طلبت من مريض الزهايمر أن يختار الرمز التعبيري الذي يتوافق مع حالته الحالية، فربما، بدافع الحيرة والارتباك، يشير إلى الرمز الذي يعبر عن الحالة التي يظن أنه يجب أن يشعر بها. حدثتني الدكتورة شارون برانغمان، المختصة بأمراض الشيخوخة في جامعة ولاية نيويورك-جامعة أبستيت الطبية، عن مريضةٍ تشكو من نوبات صداع متكررة، لتدرك لاحقاً أن “الصداع” كان التعبير المجازي الذي تصف من خلاله عجزها عن تذكر بعض الأمور.

وقالت برانغمان، “يزيد هذا من تعقيد تقديم الرعاية لمرضى الزهايمر. إذاً ربما لا يستطيع أولئك المرضى الإبلاغ عن العلة التي أصابتهم”. لهذا، وبدلاً من معرفة كيفية تخفيف الألم، يعلق مقدمو الرعاية ببساطة في محاولة اكتشاف سببه. والاحتمالات كثيرة… 

“تعاني تلك الفئة من المرضى بصمت. هذا الألم لن ينتهي. بل سيتضاعف”.

في الولايات المتحدة، يعاني ما يقدر بـ5.8 مليون شخص تبلغ أعمارهم 65 سنة وأكثر من مرض الزهايمر، وهو رقم من المتوقع أن يصل إلى 13.8 مليون شخص بحلول عام 2050 مع تقدم السكان في العمر. ويموت واحد من كل ثلاثة من كبار السن بسبب الخرف. لا يمنع الخرف أو يخفف أيّاً من مسببات الألم الرئيسية لدى كبار السن، ومنها بالطبع آلام مرض السرطان أو العمليات الجراحية أو التهابات المفاصل أو هشاشة العظام أو اضطراب الألم العضلي الليفي (الفيبروميالجيا) أو القرح أو الإصابات نتيجة السقوط وغيرها الكثير والكثير. لكن ما يفعله هو أنه يزيد من صعوبة اكتشاف هذا الألم ويقلل من فرصة علاجه. إذ يعاني حوالى ثلث مرضى الخرف الذين يتلقون الرعاية في منازلهم ونحو ثلثي مرضى الخرف المقيمين في دور رعاية المسنين من ألم غير مشخص أو غير معالج.

يقول تود مونرو، ممرض معتمد واختصاصي أعصاب في جامعة ولاية أوهايو، “تعاني تلك الفئة من المرضى بصمت. هذا الألم لن ينتهي. بل سيتضاعف”.

إضافة إلى الحواس الخمس، يؤمن الأكاديميون الألمان في القرن التاسع عشر بالغمينغفول (الفطرة أو الحس السليم): عبارة عن مجموعة من الحالات الجسدية المحسوسة “بالمعنى العام الأكثر انتشاراً للمصطلح”، من قبيل الإحساس بتقلب درجات الحرارة وتدفق الدم وحركة الأعضاء والجوع والعطش وضيق التنفس وبعض الضغوط البدنية مثل الألم والدغدغة والحكة.

يُفسر أولئك الأكاديميون غموض “الألم المزمن دون آفة” (الألم مجهول السبب)، بوصفه اضطراباً في الغمينغفول، أو عدم القدرة على استشعار الأحاسيس الداخلية بدقة. في منتصف السبعينات، عندما بدأ رونالد ميلزاك، عالم النفس في جامعة ماكغيل، تطوير تقييم حديث لِمستويات الألم لا يزال يستخدم إلى يومنا الحاضر على نطاق واسع، كان يعتقد أن اللغة يمكن أن تنقل الألم من هذا “البرزخ المجهول بين الجسد والنفس” إلى عالم الطب حيث يصبح من الممكن علاجه.

بعد جمعه 102 كلمة يستخدمها المرضى في إحدى عيادات الألم لوصف أوجاعهم المختلفة، بدأ ميلزاك في التوصل إلى إطار لغوي، ضمن هذه القائمة لا يمكنه قياس شدة الألم الجسدي الذي يشعر به المرء فحسب، بل ويمكنه أيضاً تقييم تجربته خلال مروره بذلك الألم. وقد وصف ذلك في ما بعد قائلاً، “اتضح لي تدريجياً أن الكلمات يمكن أن تكون بمثابة استبيان يقدم أدلة موثوقة على الخصائص المحسوسة والذاتية لألم المرء. وربما تسلط الضوء كذلك على أجزاء الدماغ المسؤولة عن توليد تلك الأحاسيس”.

إقرأوا أيضاً:

وصف الألم

يطلب ابتكار ميلزاك، المعروف باسم استبيان أو مؤشر ماكغيل لتقييم الألم MPQ، من المرضى أن يصفوا آلامهم باستخدام كلمات تندرج ضمن ثلاث فئات: الحسية والوجدانية والتقييمية. تُحدد الفئة الحسية الخصائص المادية والمحسوسة للألم مثل درجة الحرارة والحدة والحجم. (مثلما يعرف الجميع تقريباً، يمكن استخدام كلمات كثيرة لوصف الألم كأن نقول: “أشعر بوخز أو نخز أو وجع أو نبض أو لسع أو خدر أو…”، ويمكن أن تختلف هذه الأحاسيس عن بعضها البعض كلياً).

أما الكلمات التي تندرج ضمن الفئة الثانية، الوجدانية، فهي تصف التأثير العاطفي للألم، سواء كان مرهقاً أم مثيراً للاشمئزاز أم مخيفاً أم مُعذِباً. في حين تقيم كلمات الفئة الثالثة والأخيرة، الأكثر تحديداً، نوبة الألم عموماً: هل كانت مزعجة أم بائسة أم حادة أم تفوق الاحتمال؟

من خلال هذه المفردات، بإمكان الكلمات أن تقدم “صورة خارجية عن أحداثٍ داخلية”، على حد تعبير إلين سكاري. تقوم تلك الاستبيانات أيضاً، مثل مؤشر ماكغيل، بالارتقاء بالألم من كونه مجرد حفنة من الأعراض الجسدية إلى كونه تجربة تتداخل فيها العاطفة مع المحيط والرجاء. تقول نانسي برلينغر، الباحثة في مركز “هاستينغز”، مؤسسة غير ربحية تعنى بأخلاقيات علم الأحياء، “الألم ليس شيئاً منفرداً. لدينا الألم ولدينا المعاناة من الألم… ما الذي تحس به وما هو شعورك تجاه ذلك”.

للأسف، يسرق الزهايمر قدرة المرء الإدراكية التي تجعل هذا المفهوم حول الألم مفيداً من الناحية الطبية، بصورة لا رجعة فيها. فمع تقدم المرض، يفقد المرء القدرة على تكوين ذكريات جديدة واستخدام اللغة والتحكم في العواطف، وكذلك عجزه إلى حدٍ كبير عن إدراك العالم من حوله، أو داخله، وتحليله والإعراب عنه.

“الألم ليس شيئاً منفرداً. لدينا الألم ولدينا المعاناة من الألم… ما الذي تحس به وما هو شعورك تجاه ذلك”.

على مدار الربع الأخير من القرن الماضي، طُورت نحو 30 أداة أو طريقة مختلفة لتقييم مستويات الألم لدى الأشخاص المصابين بالخرف تحديداً. لكن للأسف، غالباً لا يكون الممارسون العامون الذين يعتنون بأولئك المرضى على علمٍ بوجود تلك الأدوات أصلاً. (فقد وجدت دراسة أُجريت عام 2018 وشارك فيها 157 ممارس عام من أيرلندا أنه في حين يوافق 80 في المئة من المشاركين على أن الخرف يجعل عملية تقييم الألم صعبة، كان 10 في المئة منهم فقط علم دراية بأحد أدوات تقييم الألم الخاصة تحديداً بالمرضى المصابين بالخرف). ويقول منتقدو تلك الأدوات إن الدليل على فاعليتها غالباً ما يكون مصدره دراسات صغيرة الحجم أو غير ذلك من المسائل التي تجعلها متحيزة. 

من بين عشرات الأدوات المتاحة، لا يوجد اتفاق عام بشأن الأداة أو الطريقة التي يجب التوصية بها للمرضى المصابين بالخرف. يقول مونرو، “لا توجد أداة واحدة مصممة بحيث تكون الأفضل. العلم لم يتقدم بعد في هذا المجال”.

يرى الخبراء أن جزءاً من المشكلة يكمن في الغموض الذي يكتنف الطريقة التي يؤثر بها مرض الزهايمر في مختلف شبكات إدراك الألم لدى المرضى. فمن الواضح أن المرض يؤثر في قدرتهم على إعطاء معنى للألم، ولكن من غير الواضح كيف يحدث ذلك بالضبط.

افتراضات قاسية

وقد أدى ذلك إلى بعض الافتراضات القاسية حول المصابين بمرض الزهايمر. فعلى مدى عقود، خلُص بعض مقدمي الرعاية -سواء كانوا متخصصين أو غير ذلك- إلى أن الأمر لا يستحق مشقة تقديم العلاج إذا لم يكن المريض قادراً على إدراك الأحاسيس الجسدية أو أنه سرعان ما ينسى أي أحداث مزعجة. يقول مونرو، “من واقع خبرتي، لطالما سمعت أن مرضى الزهايمر لا يشعرون بالألم، أو أنهم لا يشعرون به بنفس القدر. ثم سألت، “كيف تعرف ذلك؟ نحن لا نعلم ما إذا كانوا يتألمون بدرجة أقل. ماذا لو كانوا يتألمون بدرجة أكبر؟”.

يتعامل الجسم مع الألم من خلال شبكات عصبية مترابطة تساعد الشخص على الشعور بالألم ووصفه وإدراكه والاستجابة له. وتشير الأبحاث الأولية في علم الأعصاب إلى أن المناطق الرئيسية في الدماغ التي تساهم في إدراك الألم والتعامل معه لا تزال تعمل، ولو بشكل مختلف، لدى الأشخاص المصابين بمرض ألزهايمر. وفي هذا الصدد، ذكر مونرو أنه في التجارب المعملية الخاضعة للضوابط، لا يوجد قصور في نشاط الدماغ في المناطق المتعلقة بالألم، مضيفاً أنه “إذا كان شخص ما يعتقد أن الخرف قد أفسد الدماغ إلى حد كبير لدرجة أن المريض لا يشعر بالألم، أستطيع أن أقول بكل ثقة إن هذا ليس صحيحاً”.

بيد أن ذلك لا يعني أننا نفهم ما تعنيه تلك الاختلافات في ما يتعلق بكيفية شعور المصابين بألزهايمر بالألم، وإدراكهم إياه. فضلاً عن أننا لا نعرف حتى كيف يؤثر المرض في الحاجز الدموي الدماغي، والذي يمكن أن يؤثر في فعالية أدوية الألم. فقد أشارت مجموعة من الباحثين الإيطاليين في بحث نُشر عام 2019، إلى أنه “حتى الآن، أسفرت الدراسات المحدودة والصغيرة نسبياً حول إدراك الألم لدى المرضى المصابين بالخرف عن نتائج متضاربة بل وحتى متناقضة”.

تعكس هذه النتائج غير الحاسمة التحديات العملية التي تواجه دراسات الخرف، وعلى رأسها: تنسيق مواعيد عمل مقدمي الرعاية، وتذليل العقبات المتعلقة بالتنقل، وإدخال المرضى في أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي، التي قد تسبب الشعور برهاب الأماكن المغلقة، وإبقاء المرضي ساكنين لفترة كافية إلى أن تنتهي عملية التصوير. وقد لا يتمكن المرضى الذين يعانون من الخرف في المراحل المتقدمة من فهم إجراءات الدراسة بشكل معقول والموافقة على أن يشاركوا في التجارب. ففي أحد المشاريع البحثية التي أجريت عام 2019، أفضت خمس سنوات من الاستقطاب الفعال للحالات بقيادة مختص في التوظيف وباحث مساعد متفرغ، إلى إجراء فحوصات ناجحة لأقل من اثنين من المشاركين في المتوسط كل شهر.

والنتيجة هي أن معظم البحوث السريرية الحالية أجريت على المشاركين الأصغر سناً الذين يتمتعون بصحة أفضل، وأولئك الذين يملكون بشرة بيضاء وأكثر قدرةً على الحركة، مقارنةً بإجمالي المرضى المصابين بالخرف (من الجدير بالذكر أن النساء وذوي البشرة السوداء واللاتينيين هم الأكثر عرضةً للإصابة بمرض الخرف). لذا قد لا تعطي أي علاجات تستند إلى هذه الدراسات نتائج جيدة ضمن مجموعات المرضى، الذين لم تشملهم التجارب- أي معظم الأشخاص الذين يعانون من الخرف. فقد قالت برانغمان، “لا أعتقد أن لدينا إجابات كافية. وهذه ليست مشكلة المرضى بل مشكلتنا نحن”.

في غياب الأبحاث الموثوقة التي بإمكان مقدمي الرعاية الاسترشاد بها، فإنهم يضطرون إلى الاعتماد على الأعراض الظاهرية التي يبديها مرضاهم بسبب الآلام غير المعالجة، من قبيل الصياح بإيماءات تعبر عن الألم مثل “أه” و”أخ “، والحركات مثل التدليك أو الاهتزاز أو فرك راحتي اليدين.

لكن حتى بالنسبة إلى المقرّبين للغاية إلى المريض، قد تكون إساءة تفسير هذه الإشارات سهلة. فقد لاحظت برانغمان أن هناك مرضى يشعرون بالانزعاج ليس بسبب الألم أو الغضب، بل بسبب انخفاض نسبة السكر في الدم أو ارتفاع ضغط الدم. وقد يمتنعون عن النوم لأنهم لا يشعرون بالراحة أو يشعرون بالبرد، أو يمتنعون عن تناول الطعام لأنهم يشعرون بالوحدة.

ذاك الألم الغامض…

قالت رينا ماكدانيال، وهي مقدمة رعاية أسرية من ولاية كارولينا الجنوبية، إن والدتها كثيراً ما كانت تشكو من ألم في الصدر وصعوبة في التنفس في السنوات الخمس الأخيرة من حياتها. قال الأطباء لها أن والدتها تعاني فقط من الحساسية، على رغم أن أدوية الحساسية لم تساعد في تخفيف الألم. في حين اقترح البعض أن والدتها لم تكن تشعر بالألم الذي كانت تصفه. فقد شَخَّص أحد الأطباء الحالة بأنها محاولة لجذب الاهتمام. وكما اتضح في ما بعد، كانت والدتها تعاني من سرطان الثدي، الذي انتشر بالفعل في جميع أنحاء جسدها في الوقت الذي تم اكتشافه فيه. وتوفيت بعد أقل من ستة أشهر من تشخيص إصابتها بالسرطان. تقول رينا، “لم نربط الأحداث معاً إلا بعد فوات الأوان. وما زلت أشعر بالذنب حتى يومنا هذا لأنني لم أستمع إليها، وصدقت ما قاله الأطباء في البداية”.

من واقع تجربتي الشخصية، كانت جدتي تتأوه طوال الليل حتى عندما أعطيناها مسكنات الألم وفق الوصفة الطبية، بعد إصابتها بكسر في إحدى فقراتها. ولم تكن تتوقف إلا عندما يكون أحد معهافي الغرفة. فقد استغرق الأمر بعض الوقت لكي ندرك أنها على ما يبدو لم تكن تتأوه من الألم؛ وإنما تئن من الخوف. وقد أدى سوء فهم مقدمي الرعاية لمثل هذه الإشارات إلى الوصف الخاطئ على نحو خطير لمضادات الذهان لمرضى الخرف الذين لا تعود تغيراتهم السلوكية إلى المرض العقلي بل بسبب المعاناة النفسية الناجمة عن الألم غير المعالج.

أوضحت برانغمان أنه “يتعين عليك البحث عن إشارات أخرى تدل على أنهم لا يشعرون بالراحة. وهي ليست أمراً واحداً محدداً. بل تتطلب الكثير من العمل الذي يعتمد على الحدس والفحص الدقيق”. وبسبب الضغوط الشديدة المفروضة على رعاية المسنين في الولايات المتحدة، لا يستطيع مقدمو الرعاية دائماً إقامة مثل هذا النوع من العلاقات الوثيقة والمستمرة مع مرضاهم.

صرحت جوان بايك، رئيسة قسم البرامج في جمعية الزهايمر، أننا “نتجه نحو حالة طبية طارئة”. فعام 2016، كان لدى الولايات المتحدة حوالى طبيب واحد متخصص في أمراض الشيخوخة لكل ألفي مواطن أميركي من كبار السن الذين يحتاجون إلى خدمتهم. وبحسب جمعية الزهايمر، يتخصص أقل من 1 في المئة من أطقم التمريض المعتمدين رسمياً، ومساعدي الأطباء، والصيادلة في طب الشيخوخة، وعدد قليل منهم فقط تلقى تدريباً على التعامل مع تعقيدات مرض الخرف. وبما أن عدد المصابين بالزهايمر قد يزيد عن الضعف بحلول عام 2050، فقد حذرت بايك من أن جميع مقدمي الرعاية هؤلاء “على وشك أن يتعرضوا لقدر كبير من الضغوط”.

يقدم أفراد الأسرة أو الأصدقاء أو غيرهم من مقدمي الرعاية المتطوعين، الغالبية العظمى من الخدمات الرعاية المقدمة للمسنين، بنسبة تصل إلى 83 في المئة.

في غياب القوى العاملة المحترفة الفعالة، يقدم أفراد الأسرة أو الأصدقاء أو غيرهم من مقدمي الرعاية المتطوعين، الغالبية العظمى من الخدمات الرعاية المقدمة للمسنين، بنسبة تصل إلى 83 في المئة. ومن بين هؤلاء، يقدم أكثر من 16 مليون شخص خدمات رعاية تقدر قيمتها بـ244 مليار دولار للمصابين بمرض الزهايمر أو غيره من أنواع الخرف. وعلى رغم أن نصفهم لا يتمتعون بخبرة طبية، يتعين عليهم أن يحاولوا تفسير تعابير الوجه غير الملحوظة أو العادات غير العادية إلى الأطباء والممرضين عندما يشكون أن الشخص المصاب بالخرف يعاني من ألم غير معالج. تقول برلينغر، “إن العائلات تتعامل مع هذا الأمر بأنفسهم، وهذا خطأ”.

كان لدى خبراء كثر تحدثت معهم، أقارب أو أصدقاء عانوا من هذه الأمراض. فقد كان والد برلينغر مصاباً بالخرف، وكذلك بعض أقارب برانغمان. بينما توفيت جدة مونرو بعد صراع مع سرطان الثدي والزهايمر في نهاية حياتها. وبوصفهم مقدمين للرعاية، فقد شعروا بالعجز، وحاولوا التخلص منه من خلال إجراء الأبحاث أو تقديم الرعاية الطبية.

شاهدت أليسون أندرسون، وهي ممرضة ممارسة وباحثة في مرض الخرف في جامعة فاندربيلت، والدتها وهي تصارع مع الخرف المبكّر عندما بدأت دراسة المرض. وعام 2017، درست أندرسون البحوث الحالية، ووجدت أن الدراسات الواحدة تلو الأخرى تشير إلى أن أساسيات الرعاية -اللمس والتفاعل ووجود شخص آخر مع المريض- يمكن أن تساعد في تخفيف الألم لدى المصابين بمرض الخرف.

ومن حسن حظ عائلتي أن جدتي تقيم الآن في جناح خاص لمرضى الزهايمر في دار للرعاية، حيث لا تكون أبداً بمفردها. ولكن عندما كنت أعتني بجدتي، وجدت أن لحظات التواصل التي جمعت بيننا ساعدت في السيطرة على معاناتها الجسدية. فقد بحثنا معاً في صناديق الصور القديمة، وصرفت انتباهها بقصص حول كيف أنني ملأت حقيبتي بالكعك المغطى بالسمسم من أجلها. وعزفت على الغيتار بينما كانت تغفو. وفي أصعب الأيام، كان كل ما يمكنني فعله من أجلها، هو الاستلقاء على السرير بجانبها وهي تتألم. وأكثر من مرة، غفونا وأيدينا متشابكة. وهي تقول مراراً في طمأنينة، “أحبك. أنا لم أعد خائفة”

.هذا المقال مترجم عن theatlantic.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.

إقرأوا أيضاً: