fbpx

هل يمكن للنجف أن تبتعد عن ايران؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يمكن تلمس التناقضات الكبيرة بين التشيعين العراقي والإيراني على أكثر من مستوى في العراق، ويمكن رصد ذلك يومياً في حياة مدن العتبات المقدسة التي تستقبل الحجاج الإيرانيين يومياً، ويمكن رصده أكثر في روايات العراقيين…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 أخْتَلف مع الذين بالغوا في تقدير حجم الانزعاج الإيراني من زيارة البابا فرنسيس إلى العراق، وإلى مدينة النجف تحديداً، على رغم اعتقادي بأن انزعاجاً حصل، ولكنه لا يرقى لأن يكون شعوراً بالخوف من احتمال تصدر النجف كمركز للتشيع، مدينة قم التي تعتبر عاصمة ولاية الفقيه! 

وفي مقابل هذا الانزعاج الطفيف، ثمة شعور أيضاً بأن التشيع يُزار، وبأن مساحة لقاء بينه وبين الكاثوليكية قد أحرزتها الزيارة. وأعني بالتشيع هنا، مضمونه السياسي، الذي، وعلى رغم الاختلافات، من الهراء تمييز النجفي منه عن القمي، والنفوذ الإيراني في العراق يجيد توظيف التمايزات في سياق تصدره التشيع. ولهذه الحقيقة قصص كثيرة نشيح نحن الراغبين في التعويل على التمايزات أنظارنا عنها.

المراهنون على “التشيع العربي”، وهم غالبية خصوم إيران يسقطون من رواياتهم عن هذا التشيع قصصاً من العيار الثقيل عن اصطدام التشيع بالثقافة الأكثرية في أكثر من محطة وعلى مدى أكثر من قرن. وها هم اليوم يعاودون الغرق في التعويل على النجف بوصفها بديلاً عن قم، وهي فعلاً بديل عنها، ولكن في سياق آخر غير السياق الانشقاقي الذي يصوره الحالمون بانشقاقها سياسياً. وبما أنني أحد الراغبين بهذا الانشقاق، أجدني محاولاً وضع قدمي على الأرض في تقييمي مشهد استقبال المرجع علي السيستاني لبابا روما!

السيستاني لا يؤمن بولاية الفقيه، وهو بهذا يفترق عن المضمون الولائي للتشيع بنسخته الإيرانية، إلا أن هذا الاختلاف لا يرقى لأن يكون انشقاقاً.

كمراقب للوضع العراقي، لم ألحظ تباينات كبرى بين موقع المرجعية في النجف، وبين حقيقة تصدر النفوذ الإيراني أي نفوذ آخر في العراق. ودائماً ثمة من يسارع إلى رصد التباين والبناء عليه. لطالما ذهبنا في تفسيراتنا لمواقف مقتدى الصدر إلى أنها افتراق عن طهران، ليعود السيد وبعد أسابيع قليلة ليفاجئنا بانتقاله للإقامة في طهران، أو في قم! فجأة نُسقط من تفسيراتنا لأداء مقتدى حقيقة أن المرجعية الصدرية انتهت بعد مقتل والد مقتدى، السيد محمد صادق الصدر، إلى المرجع كاظم الحائري المقيم في قم، وهو ليس بعيداً من الاعتقاد بولاية الفقيه، على رغم تمايزه فيها عن النسخة الخمينية والخامنئية.

السيستاني لا يؤمن بولاية الفقيه، وهو بهذا يفترق عن المضمون الولائي للتشيع بنسخته الإيرانية، إلا أن هذا الاختلاف لا يرقى لأن يكون انشقاقاً. فالمرجع النجفي يدرك ثمن الصدام مع طهران، وهو بالمناسبة ليس ثمناً أمنياً، بل ثمن اقتصادي، لكنه بالدرجة الأولى ثمن سياسي. المرجعية بصفتها بؤرة الوعي واللاوعي الشيعي تستشعر خيبات اقترابها من الوجدان الأكثري العربي منذ ثورة عام 1920 ضد الإنكليز، والتي نجم عن فشلها هزيمة مدوية للمرجعية أولاً وللشيعة في العراق ثانياً أفضى إلى وضعهم خارج السلطة وخارج الدولة. وبعدها جاء البعث ونكباته، وكان سبقه حكم آل عارف الكارهين للتشيع، وتوج هذا المسار بالتجربة المريرة للشيعة مع العالم العربي بعد توليهم الحكم في العراق، إذ حصل رفض عربي حاسم لهم بوصفهم حكام العراق. ثم أن العراق الشيعي، اذا أراد أن يدير وجهه إلى العرب، فإلى أين يديره؟ السعودية انكفأت على نفسها وعلى اليمن، ومصر كفت عن أن تكون وزناً اقليمياً، وفي مقابلهما تبدو ايران حاضرة ومتحفزة. العرب ما عادوا خياراً يُلجأ إليه، وهم عندما كانوا، قبل نحو عقد، أقفلوا أبوابهم في وجه بغداد.

هذه كلها عناصر يتشكل منها وعي المرجعية بموقع الطائفة في العراق. 

إقرأوا أيضاً:

وهنا يبرز عمقان مطروحان، على المرجعية النجفية أن تختار بينهما، العمق العربي مع ما يحتمله من خصومة لإيران، والعمق المذهبي مع ما يمثله من موقع سياسي حاسم لجهة انخراطه في مواجهة في المنطقة. مرجعية النجف تسعى بلا شك للموازنة بين الموقعين، لكن مع تغليب ضمني للموقع المذهبي الذي تمثله طهران. لهذا الاعتقاد مؤشرات صلبة، وتعززه أسباب منطقية، وليست أموال الخمس والزكاة التي يدفعها المؤمنون الإيرانيون للنجف وحدها هي ما يجعل الابتعاد من إيران صعباً ومكلفاً، إنما أيضاً شعور الشيعة بـ”أقلويتهم” في المحيط العربي، وشعورهم بـ”أكثرويتهم” ضمن الهلال الشيعي. ويعزز هذا الشعور خبرات تاريخية مريرة.

في مقابل ذلك، يمكن تلمس التناقضات الكبيرة بين التشيعين العراقي والإيراني على أكثر من مستوى في العراق، ويمكن رصد ذلك يومياً في حياة مدن العتبات المقدسة التي تستقبل الحجاج الإيرانيين يومياً، ويمكن رصده أكثر في روايات العراقيين العائدين من إيران عن التمييز الذي يتعرضون له من النظام ومن إخوانهم من “المؤمنين” الإيرانيين، لكن لا وعاء سياسياً لهذه التناقضات، وهي تختفي في لحظة المواجهة المذهبية.

ثم إن البناء على عدم اعتقاد النجف بولاية الفقيه العامة للقول بعدم اقترابها من الإدارة السياسية لحياة “المؤمنين”، خلافاً لما تفعله قم، تنفيه حقائق كثيرة لطالما تصدت لها المرجعية النجفية والتي كشفت عن خوضها غمار العمل السياسي، وليست آخرها فتوى “الجهاد الكفائي” التي نشأ على أساسها “مرض العراق الراهن” وهو الحشد الشعبي. هذه الفتوى التي تحولت إلى قانون أقره مجلس النواب العراقي عام 2014، وهي أيضاً الفتوى التي يعتمد عليها النفوذ الإيراني إلى اليوم عبر تشريعها سلاح الفصائل الولائية بوصفها من تشكيلات الحشد الشعبي.

كل هذا لا ينفي الانزعاج الإيراني من خطوة البابا فرنسيس لجهة تطويب الأخير النجف عاصمة أولى للتشيع في العالم، لكنه انزعاج لا يفوق انزعاج عراقيين شيعة من غلاظة مستضيفيهم الإيرانيين حين يحجون إلى مدينة مشهد لزيارة مقام الإمام الرضا، ولن يترتب عليه افتراق نهائي. وحتى الآن إيران غير قلقة من احتمال ابتعاد النجف منها.        

إقرأوا أيضاً: