fbpx

التدويل في لبنان… من المتصرفية حتى “استان إيرانى”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“حزب الله” اليوم ليس في الموقع الذي شكلته المتصرفية للباب العالي، كما أنه ليس مكوناً مندمجاً في جمهورية جمال عبد الناصر العربية المتحدة… هو عملياً تأسس كامتداد عضوي للحرس الثوري الإيراني.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يغب التدويل يوماً عن الخطاب والممارسة السياسية منذ لحظة إعلان دولة لبنان الكبير قبل مئة عام حتى إعلان مبادرة بكركي الأخيرة لعقد مؤتمر دولي لإنقاذ لبنان، وإعلان حياده عن الصراعات الخارجية وتحديداً النزاع الإيراني- الأميركي في المنطقة. وإذا ما راجعنا التجارب السابقة، يتبين لنا أن عناوين مبادرة اليوم هي جزء من “عدة الشغل” البطريركية التقليدية التي استعملت في الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي. 

المشكلة هنا، ليست في التدخل بعينه، بقدر ما هي في طبيعة هذا التدخل. فالمكونات السياسية التقليدية لا تتقن سوى شكل أحادي للتدويل يتمحور في الشكل والمضمون حول مفهوم الحمائية الدولية الرعائية، التي تُستعطى منها الامتيازات والضمانات للجماعات المحلية، ويُعاد عبرها إعادة تشكيل معادلات تشارك القوة والنفوذ الداخلية. 

التدويل إذاً، هو سمة مرافقة للكيان اللبناني منذ تأسيسه، والولاء لقوى الخارج هو جامع مشترك بين كل من تناوب على حكم لبنان وترأس منظومة القوة المهيمنة منذ تأسيسه حتى اليوم. تختلف الأطراف. تعيد تموضعها. تتبدل مواقفها ولكن الجوهر نفسه. فالصيغة اللبنانية أعجز من أن تؤمن حالة من الاستقرار السياسي من دون الحاجة للتدخل الأجنبي المباشر.

المكونات السياسية التقليدية لا تتقن سوى شكل أحادي للتدويل يتمحور في الشكل والمضمون حول مفهوم الحمائية الدولية الرعائية.

التدويل كأداة الحكم في لبنان

تسبق فكرة التوجه للمؤتمرات الدولية تاريخ إعلان لبنان الكبير، لا بل إنها من الأفكار المؤسسة له وتمكن العودة بها إلى زمن تأسيس متصرفية جبل لبنان في منتصف القرن التاسع عشر، وتحديداً بعد الاحتراب الطائفي عام 1861، حين شكلت الحمايات الخارجية المباشرة الضامن الأساسي للاستقرار في تلك الفترة. ومعها تكرست معادلة استقرار داخلي كمقابل للنفوذ الخارجي الذي يختلف باختلاف اللاعبين الدوليين وبناء عليه تتنوع طبيعة أدواته الداخلية.

تطورت الفكرة في مرحلة ما بعد انهيار السلطنة العثمانية مع تشكيل الوفود التي توجهت إلى مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 لطرح القضية اللبنانية. واتخذت الحمائية السياسية الخارجية للجماعات المحلية منحى مختلفاً في فترة الانتداب مع نمو البنية المؤسساتية الممكنة لها. واستمرت في فترة ما بعد الاستقلال حين كان للتدخلات الخارجية السياسية والعسكرية، وفي أكثر من مناسبة، ممر أساسي للحل أو اللاحل في لبنان، من طرد الانتداب الفرنسي إلى انتفاضة 1958 واتفاق القاهرة عام 1969، مروراً بالحرب الأهلية اللبنانية، وصولاً إلى اتفاق الطائف، الذي كرّس هزيمة المارونية السياسية. وتواصلت الفكرة، مع تغير الرعاة الإقليميين، حتى اتفاق الدوحة عام 2008 الذي كرس مفاعيل انتصار “حزب الله” في العملية الجراحية المفتعلة في السابع من أيار/ مايو من ذلك العام، وما بينهما من مؤتمرات ذات طابع اقتصادي مالي. وفي كل حقبة زمنية، كان لترؤس إحدى الجماعات المحلية لمنظومة تشارك النفوذ والقوة، محدد خارجي. 

هكذا تناوبت الحمايات الدولية على دعم الجماعات المحلية وصولاً إلى التطور النوعي في العلاقة ما بين “حزب الله”، كالحزب القائد لمنظومة الحكم في لبنان، وامتداده الإقليمي المتمثل بنظام الحكم في الجمهورية الإسلامية في إيران.

الحزب لا يريد للبنان أن يكون كياناً فطرياً يعيش على هامش النفوذ الإيراني من جهة كما لا يريده تابعاً مندمجاً في العمق العروبي ومذوباً في ميكانيزمات صناعة القرار العربي.

“حزب الله” كأنموذج متقدم للتدويل في لبنان

في مساره السياسي والتنظيمي، قدّم “حزب الله” أنموذجاً متقدماً من تدويل السياسة اللبنانية الداخلية. فتأسيسه في لبنان، أتى بقرار “ثوريٍّ” إيرانيٍّ كي يعطي زخماً جيوسياسياً للمنظومة الولائية الناشئة في طهران ويؤسس لمشروعيتها الإسلامية القيادية، في ظل حربها مع العراق وحاجتها الأساسية لرأس جسر يربطها بـفلسطين، المصدر المركزي للمشروعية الذي قامت عليه كل منظومات القمع والشقاء المشرقي منذ عام 1984، من جهة، ومن جهة أخرى ليلبي حاجة قيادات وفعاليات شيعية لتقديم نموذج من الأداء السياسي للشيعة مختلف عن تموضعاتهم في الحركة الوطنية وتشكيلاتهم الثقافية السياسية تحت عباءة الإمام موسى الصدر.

هكذا، ومنذ ما قبل تأسيسه، كان الحزب تدويلاً في المشهد السياسي اللبناني، لكنه في العقود الأربعة الماضية شكّل أنموذجاً متقدماً في طبيعة الارتباطات الخارجية للأطراف اللبنانية. فهو قطع مع النمط الحمائي الرعوي للتدويل (أي ضمان الحمايات المحلية من ضمان مصالح ونفوذ الخارج) الذي سعت إليه البطريركية المارونية، ومعها المنظومة القيادية للمارونية السياسية، تاريخياً عبر تأطير علاقتها مع الدول الغربية عموماً، ورسخته في أكثر من مناسبة. كما تقدّم أنموذج الحزب على فكرة الارتباط الخارجي الاندماجي العروبي للسنية السياسية في لبنان، والذي تبلورت ملامحه في الخمسينات من القرن الماضي وتعاظم بعد اتفاق الطائف، واستمر حتى اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، ثم نازع مع الرئيس فؤاد السنيورة ودُفِن مع تجربة سعد الحريري في رئاسة الحكومة.

في هذا السياق، تصبح علاقة “حزب الله” مع منظومة الحكم الإيرانية وامتدادتها التنظيمية والإجرائية أنموذجاً متقدماً من صيغ التدويل اللبنانية. فالحزب لا يريد للبنان أن يكون كياناً فطرياً يعيش على هامش النفوذ الإيراني من جهة كما لا يريده تابعاً مندمجاً في العمق العروبي ومذوباً في ميكانيزمات صناعة القرار العربي. هو يريده على صورته ومثاله، جزءاً عضوياً من “أرخبيل” النفوذ الإمبراطوري لمنظومة ولاية الفقيه وتقاطعاتها الدولية من كاراكاس حتى القرداحة. وهكذا سعى إلى تحويل لبنان كامتداد عضوي للنفوذ الإمبراطوري الإيراني، وتحويل لبنان إلى ما يشبه المحافظة 32 الإيرانية (استان إيرانى) والتي تُدار بشكل من أشكال الحكم المستقل في الشكل والمرتبط بميكانيزمات اتخاذ القرار وصناعته.

إقرأوا أيضاً:

في الخطاب، لطالما نظر “حزب الله” إلى موقعه كمركز حماية المستضعفين ومقاومة “الاستعمار الخارجي” الذي يُحدده جغرافياً بالغرب الاستعماري والذي يتمثل فيه تكثيف الاستكبار العالمي تبعاً لمنظومته المفاهيمية. لكنه في الجوهر، وفي طريقه إلى احتكار تمثيل “مستضعفي الشرق” مارس في الميدان دور الاستكبار المشرقي. هكذا ومن موقعه البنيوي في منظومة الحرس الثوري للجمهورية الإسلامية، أصبح الحزب عقدة مركزية في غرفة عمليات جبهات العراق واليمن وسوريا ولبنان، بما يزيد من القيمة التفاضلية للموقع الجيواستراتيجي لمنظومة الولاية العقائدية التي ينتمي إليها. فـ”حزب الله” اليوم ليس في الموقع الذي شكلته المتصرفية للباب العالي، كما أنه ليس مكوناً مندمجاً في جمهورية جمال عبد الناصر العربية المتحدة، ولا حتى من رعايا الملكية السعودية في مرحلة الحريرية السياسية. هو عملياً تأسس كامتداد عضوي للحرس الثوري الإيراني ليلعب دوراً بنيوياً يترواح بين مهمّاتية دور جهاز الاستخبارات الألماني الشرقي، المعروف بالشتازي، بالنسبة إلى الاتحاد السوفياتي والمحورية السياسية والإدارية والاجتماعية لحكومة الجنرال فيشي بالنسبة إلى ألمانيا النازية. وهذا ما يحتاج إلى المزيد من البحث المقارن في مراحل نمو الحزب المختلفة. 

لكن ومن أكثر المشاهدات المتناقضة في متابعة النقاشات التي يخوضها مفوهو الحزب الرسميون وغير الرسميين على وسائل التواصل الاجتماعي، هو اتهامهم المختلفين معهم بالتدويل والعلاقة مع الخارج، في الوقت الذي يتهامسون في ما بينهم باحتمال أن يكون السيد حسن نصرالله من ضمن الأسماء المرشحة لخلافة الولي الفقيه. ناهيك عن معطيات شبه رسمية تقول إن الأمين العام للحزب رفض تولّي مهمة قيادة فيلق القدس خلفاً لقاسم سليماني، وما بين هذه وتلك، إعلان نصرالله الرسمي عن الولاء المطلق مالياً وعسكرياً للولي الفقيه، الذي لطالما صدح مناصرو الحزب باسمه عالياً لترهيب خصومه خصوصاً في الجامعات.

إنقاذ لبنان… مؤتمر دولي؟

تعود بكركي إلى الواجهة عبر المطالبة بمؤتمر دولي لإنقاذ لبنان وتحييده عن صراع المحاور، مع ما تحدث عنه البطريرك بشارة الراعي من حزمة شعارات سياسية، وصولاً إلى تبنيه الدولة المدنية الكاملة والحديث عن أهمية العلاقة المواطنية من خارج الهوية الطائفية، لدورها التأسيسي في ولادة لبنان الكبير. لكن المبادرة في شكلها هي محاولة من بكركي لإنقاذ نفسها، وإنقاذ النظام اللبناني الذي ما زال يعكس جزءاً من كيانية صنعها بطاركة سابقون، وهو ما يعني عملياً منع انهيار منظومة الحكم التي يقودها “حزب الله”. فموقف البطريركية الداعم لرياض سلامة، الذي أدار، لمصلحة منظومة القوة الحاكمة، عملية نهب غالبية اللبنانيين عبر النظام المصرفي، أو الفساد في الكثير من المؤسسات، وفشل في تقديم منظومة حماية اجتماعية في ظل الانهيار الاقتصادي، إضافة إلى الغطاء التي أمنته بكركي لأكثر من عقد ونيف للقيادات السياسية المسيحية المنضوية في بطانة الحزب. كل هذه العوامل تجعل المبادرة ضرورية لبكركي ودورها ووجودها أكثر منها للبنان.

لكن بكركي تواجه معضلة أخرى، فهي لا تمتلك الأدوات التنفيذية لتحقيق هدفها المنشود وقد يكون ارتكازها على “عدة شغل” قديمة، نوعاً من أبرز نقاط ضعفها. لكنها بالمجمل، وبشرط استمرارها، قد تكون حققت هدفاً أساسياً على المستوى الداخلي عبر سحب ورقة “الحليف المسيحي القوي” من أيدي حزب الله. فتحالف مار مخايل انتهى بالضربة القاضية والعهد، في ما تبقى منه، أصبح عبئاً على الحزب ومفرّغاً من أي قيمة مضافة. 

هكذا، وأمام مشهدية بكركي، ومسارعة الحزب لتفادي الاشتباك المباشر معها، لا يمكننا إلا محاولة استشراف موقعه من المتغيرات في الحراك السياسي العام لما بعد 27 شباط/ فبراير 2021. فنحن اليوم لسنا أمام بيان مطارنة آخر ولسنا أمام تأسيس لقاء قرنه شهوان جديد وبالتأكيد لسنا في زمن 7 أيار/ مايو 2005 (تاريخ عودة ميشال عون إلى لبنان). اليوم، أدخلت بكركي بحركتها السياسية “حزب الله” في موقع الخصومة المباشرة، أو اللاتفاق بأقل تقدير، مع الموقع المسيحي الديني الأول والأكبر في الشرق الأوسط. في الوقت عينه كان رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم يززور العراق ويلتقي بالمرجعية الدينية في النجف وكربلاء والتي تختلف مع المنظومة الولائية في الجمهورية الإسلامية وتوجهاتها السياسية في العراق وخارجه. الأمر الذي يجرد الحزب، حكماً من انتحال صفة حامي الأقليات في الشرق. وهو الدور الذي بنى عليه جزءاً من مشروعية تدخله في الحرب على الشعب السوري والمشاركة في تهجير الملايين من السوريين. ونظّر عبره لدور قاسم سليماني كالمخلص الفادي للتنوع في العراق.

مشكلة “حزب الله” إذاً مع مبادرة بكركي ليست في رفعها شعار التدويل ولا في مضمون خطاب البطريرك المطالب بتحييد لبنان بل في كونها أعادته، ومن خلفه المحور الإقليمي الذي يمثل، لانتمائه الأولي كجزء من الإسلام السياسي الذي يعجز عن بناء جسور الاتفاقات والتقاطعات مع المكونات المشرقية الأخرى. في هذا السياق خطر الحدث البطريركي الحقيقي هو في مساهمته في إسقاط نظرية حلف الأقليات الذي نظّرت له طهران – بذل  قاسم سليماني كل ما أمكن لترسيخها وتطويرها كالإطار السياسي والاجتماعي لتطبيع النفوذ الإيراني في المنطقة، في منهجية عمل تشبه إلى حد كبير منهجية عمله في بناء وتطوير النفوذ الإيراني بين القبائل الأفغانية، وركبت موجته دمشق واعتاشت عليه بعبدا، ورعته روسيا. لكن ما لم يهضمه المتسارعون في الرهان على المبادرة أن من يطرحها لا يمتلك حقيقة مفاتيح التدويل التي يحتكرها، في هذه المرحلة، محور الممانعة متمثلاً بـ”حزب الله” في لبنان.

17 تشرين ومتاهة التدويل

أتت لحظة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 لتعبر عن تحول نوعي في طبيعة الخطاب الاعتراضي الإصلاحي للنظام اللبناني وخروجه من عباءة المؤسسات التقليدية لجمهورية ما بعد الطائف. فمهدت لعملية البتر السياسي مع منظومات القوة للطوائف. وكانت، ومنذ اللحظة الأولى، على تناقض مع المنظومة السلطوية بالكامل. فكانت “الحرمة الثورية” في وجه احتمالات التقاطع مع أحزاب السلطة والمؤسسات الطائفية المتدخلة في المشهد السياسي والمنتفعة أساساً منه. وهكذا كانت العلاقة مع بكركي التي وفّرت وإلى الأمس القريب أنبوب الأوكسيجين الوحيد، لربما، المتبقي للعهد و”زعامة” جبران باسيل.

لكن “اللامداراة” في الموقف من مؤسسات المنظومة الحاكمة لم ينسحب على الخطاب السياسي. فالمجموعات “الثورية” مارست شكلاً من أشكال الرقابة الذاتية على الخطاب لأسباب وعناوين مختلفة، أبرزها الموقف من “حزب الله” والعلاقة معه. بداية، كان الرهان على تحييد الحزب وشخص أمينه العام لتفادي الاستعداء “غير المبرر” للجمهور الشيعي، في محاولة أثبتت فشلها وقصرها عن فهم طبيعة دور الحزب في المنظومة الإقليمية. كان الرهان على أن يأخذ موقفاً داعماً للتغيير. فكان رد الحزب بالتخوين والحديث عن عملاء السفارات. توسع الخطاب فشمل المنظومة السياسية للحزب من دون الأمين العام، فكان أن أتى الجواب ضرباً وحشياً في النبطية وكفرمان وحرقاً للخيم في صور وتكسيراً وتشبيحاً على جسر الرينغ وساحة الشهداء.

وقعت المجموعات، بعضها على الأقل، في فخ تقديم الدفوع لإثبات “وطنيتها” بما يتلاءم مع الهوامش الضابطة التي حددها الحزب.

هكذا، تحوّل “حزب الله” ومواقفه وتموضعه الإقليمي لما يشبه الفيل الموجود في غرفة صناعة القرار السياسي لأغلبية مجموعات الثورة. فالترهيب الذي مارسه الحزب مباشرة تجاه الأفراد والمجموعات في بيروت والجنوب وصدى التصفيات الإرهابية التي نفذها محوره بحق المنتفضين في بغداد، كانا كفيلين بتحديد هوامش الخطاب المقبول وذلك المرفوض.

في المقابل، وقعت المجموعات، بعضها على الأقل، في فخ تقديم الدفوع لإثبات “وطنيتها” بما يتلاءم مع الهوامش الضابطة التي حددها الحزب. كانت هذه اللحظة التي نجح بها “حزب الله” في وأد انتفاضة 17 تشرين وتدجينها وتحويلها لما يشبه هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديموقراطي المعارضة، والتي شكلت المعارضة الداخلية لنظام الأسد في مطلع الثورة السورية. الفارق أن الحزب لم يتمكن من إيجاد حسن عبد العظيم آخر، وإن سعى مواطنون ومواطنات إلى إنتاجه بمجهودهم الذاتي.

ما العمل، إذاً؟

منذ 17 تشرين والمنظومة الحاكمة تتضامن في ما بينها وتتعاضد تحت إشراف الأمين العام لـ”حزب الله” ومنظومته المهيمنة. بعد الرابع من آب/ أغسطس، تراصت المكونات الحاكمة مع تفجير بيروت وكأنه “قضاء وقدر” (كما ذكر وزير الصحة وممثل “حزب الله” حمد حسن) وبالعقلية نفسها التي حكمت الأيام الأولى التي تلت اغتيال رفيق الحريري، حين كانت استراتيجية الحكومة آنذاك تقوم على ردم حفرة التفجير بعد أيام العزاء الثلاثة وتعبيد الطريق وشطفها (كما صرح وزير الداخلية السابق سليمان فرنجية)، تمهيداً لاستكمال الحياة بسياقها الطبيعي وكأن شيئا لم يحدث. لكن ضخامة الجريمة منعت القاتل، مرة أخرى، من المشاركة في دفن الضحية.

ظهّر تفجير بيروت، بما لا يحتمل الشك، الارتباط العضوي بين مختلف مكونات المنظومة الحاكمة في لبنان. فكانت سلسلة الحمايات المتبادلة بين الفساد والميليشيات لتعكس واقع أن المواجهة السياسية الميدانية يجب ألا تبقى أسيرة الهامش السياسي الذي تحدده خطابات الأمين العام لـ”حزب الله” الدورية، التي ازدادت وتيرتها بعد 17 تشرين، والتي غالباً ما تحدد إطار العمل السياسي المباح في مساحة الجمهورية اللبنانية. وأظهرت تحقيقات الصحافيين اللبنانيين بالانفجار التحالف المتين بين منظومة الفساد والحماية السياسية والسلاح غير الشرعي، لتوفير الحماية للقاتل والفساد ولمن وفّر فرصة لتحويل مرفأ بيروت لقنبلة شبه نووية موقوتة بعد تحويله لمرفأ في خدمة النظام السوري وماكينة القتل الخاصة به.

كما أشارت تداعيات التفجير لحقيقة أن العمل السياسي الداخلي سيبقى قاصرا إذا ما لم يقترن باستراتيجية عمل تهدف التأثير في الرأي العام الدولي بما يتعلق باستراتيجيات التعاطي مع منظومة الحكم في لبنان. فالمبادرة الفرنسية والجهود الدولية جرى استيعابها وهضمها داخليا في مسار إعادة إنتاج ميزان القوة المهيمن نفسه. لذا أصبح التدويل حاجة مكملة للنضال في الداخل اللبناني. لكن التحدي يبقى في طبيعة التدويل المنشود وأدوات عمله ومنهجيات عمله التي تحمي السيادة الوطنية، وتمكّن النضال في الداخل اللبناني من دون استنساخ لا الحمائية الرعائية للمؤتمرات الدولية ولا الانتماء العضوي لمنظومة إمبراطورية.

ما العمل؟ يبقى هذا سؤالاً مركزياً يجب التصدي له في تحديد ملامح الحركية التنظيمية والسياسية الخارجية. هنا، تأتي مهمة التحرر، بداية من الترهيب الفكري الذي يمارسه “حزب الله” والمنظومة، في الأولوية في الطريق نحو بناء استراتيجيات عمل للتأثير بالرأي العام الدولي ومراكز صناعة القرار. فالتدويل، مطلب حق يُراد به حق. فلا محاسبة لمن نهب أموال المودعين وأفلس البلاد من دون التوجه نحو المنظومة المالية الدولية والادعاء على الناهبين بهدف محاسبتهم وتجميد ثرواتهم واستعادة أموال الناس. 

كيف يمكن الوثوق بأن نظاماً قضائياً معيناً من سلطة مارقة يمكنه التحقيق بشفافية ويحاسب من عيّنه؟ هكذا يصبح من الصعب في مكان كشف الحقيقة واحلال العدالة في جريمة تفجير مرفأ بيروت من دون التوجه نحو منظومة العدالة الدولية بهدف قيام تحقيق دولي شفاف يكشف حقيقة من تسبب بتدمير عاصمة اللبنانيين وقتل أكثر من مئتي مقيم ومقيمة. ولا إمكانية لوقف مسلسل الاغتيال السياسي المستمر دون تسمية القاتل بشكل مباشر. والسعي الحثيث لكشف ملابسات الاغتيال ومحاكمة الجناة.

السؤال الثاني هو كيف يكون هذا التوجه؟ هل يمكن تشكيل لوبي ضغط لبناني، غير مذهبي وطائفي، ينسّق عمله بين الاتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية والمنظمات الدولية والصين، بهدف ربط أي مساعدات للبنان بسلّة محددة وبسيطة، تبدأ من إقرار قوانين استقلالية القضاء وتنظيمه وإعادة تدريب العاملين فيه من قضاة وموظفين ومحامين وعسكر، وتأسيس جهاز رقابة ينظم عمل هؤلاء، وبإشراف دولي، ليكون هو الخطوة الأولى في تحقيق العدالة للبنانيين. العدالة من القتلة! العدالة من اللصوص! العدالة من المعتدين! العدالة من المنظومة الذكورية! العدالة لكل إنسان وإنسانة في لبنان.

لا يمكن أن يستمر اللبنانيون بالعيش في نظام يعاقب الضحايا ويكرم القتلة. فالعدالة هي أكثر ما يحتاجه الناس ولأجل هذا الأمر، فإن مجموعات الثورة مدعوة لإطلاق ورشة عمل مشتركة في الداخل والخارج لبناء أدواتها المطالبة والدعائية المباشرة على المستويات السياسية والإعلامية والحقوقية والأكاديمية والثقافية. لبنان اليوم تحت الاحتلال، وتحريره مهمة مشتركة مطلوب التصدي لها. مواجهة الاحتلال ضرورية، ومواجهة امتداداته المحلية ضرورة حتمية.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.