fbpx

عن مقتل فتاة دار السلام المصرية :
وراء الشباك ألف عين و”بواب”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“أنا حاسة إن حياتي في مصر عذاب سرمدي مش هينتهي إلا لما أموت…” استيقظتُ صباح أمس الجمعة على هذه الرسالة لصديقتي تعليقًا على خبر مقتل طبيبة شابة بمنطقة السلام الشعبية على يد جيرانها بعدما اقتحموا منزلها، واستباحوا بيتها، وجسدها بالضرب، ثم ألقوها من الطابق السادس بحجة استقبالها لصديق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم تكن صديقتي وحدها التي تملكها الفزع مما آلت إليه أوضاع النساء في مصر، فمنصات التواصل الاجتماعي ومجموعات الناشطات المستقلات على فيسبوك فاضت بعد ساعات من الجريمة بشهادات مفزعة عن ملاحقة النساء ليس فقط في الشوارع بل داخل منازلهن. 

وثق هاشتاج “# أنا_عايشة_لوحدي” شهادات تكشف سلطة بدأت تتكشف من خلال مجموعات من بوابين أو نواطير المباني على النساء في مصر كـ”حراس للأخلاق”. بات هؤلاء يشكلون واجهة لسلطة الأهل والجيران والمجتمع على أي فتاة تعيش بمفردها سواء عزباء أو مطلقة.

 منطقة “دار السلام” شهدت جريمة القتل المروعة وهي جريمة استغرقت أقل من ساعة، بعدما فزع بواب العمارة التي تقطنها الفتاة المغدورة إلى صاحب البيت ليخبره بأن الشابة المستأجرة تستقبل رجلًا داخل شقتها. انتفض البواب وزوجته واثنان آخران، حطموا الباب، وانهالوا على الفتاة بالضرب. استغاثت الفتاة بالجيران لكن لم تأت المساعدة، لأن من المفترض أن جلاديها هم منقذوها في حالة الخطر.

لم تمهلنا فتاة السلام فرصة  التعافي من حادثة التحرش بطفلة المعادي التي وقعت قبل أيام ووثقتها كاميرات أظهرت تحرش رجل بطفلة صغيرة وأثارت سجالاً صاخباً في مصر. فقد نحا سجال مجتمعي واسع باتجاه تهميش الطفلة الضحية ووضع المعتدي في قلب النقاش، عن طريق اجترار مبادئ مبهمة عن فضيلتي “الستر” و”المغفرة” في كل من الإسلام والمسيحية، والتطوع باستجداء مشاعر تعاطف في غير موضعها لصالح المرتكب. 

بينما تعيش زينة في حالة قلق بعد متابعتها جريمة قتل سيدة السلام، فهي تسكن مع صديقها الأجنبي بمنطقة الزمالك منذ 3 سنوات، لكن مع الكورونا تأثر الوضع المادي لهما مما دفعهما للبحث عن شقة خارج الجزيرة الهادئة. رحلة البحث كانت ثقيلة عليها، كانت تتعرض لنظرات البوابين وأصحاب الشقق التي توصمها “بالعهر”.

بلد كل حاجة وعكسها 

لم نكد ننهض من نقاش مرير حول الطفلة الضحية حتى بدأنا خوض نقاش عقيم آخر يتعلق بملابس الشابة التي القيت من شرفتها نحو الشارع. 

جرى تعميم عبارة أن الضحية كانت ميتة “بملابسها” في محاولة للقول إنها لم تكن تمارس فعلاً شائناً حين جرى ضربها وقتلها. مرة أخرى تخرج الضحية من القلب إلى الهامش، وتقرر الملابس التي ترتديها أو التي لا ترديها خلف جدران منزلها، مؤشر  تعاطفنا نحوها أم نحو قتلتها.

شقيق ضحية دار السلام  أفاد في مداخلة تليفزيونية أن شقيقته كانت على خلاف مع صاحب العمارة، وأن المتهمين الثلاثة استغلوا وجود عامل “الأنابيب” و قرروا عمل فضيحة أخلاقية لها انتهت بمقتلها. هنا يصبح النقاش هو حول محاولة سحب الذرائع المتعلقة الحياة الخاصة للشابة، وكأن تواجد عامل أنابيب أو صديق في الشقة يمكن أن يحدد ما إذا كان يحق للجيران والبواب قتلها أم لا. 

لن يجرؤ أحد على المجاهرة علناً بأن حياتها الخاصة ملك لها وأن الشرطة المجتمعية والأخلاقية ارتكبت جريمة موصوفة بحق الشابة بصرف النظر عن أي تفصيل آخر. والجريمة أثارت ذعر آلاف الفتيات والنساء اللواتي يواجهن على مدار اللحظة انتهاكات تبدأ من المجتمع والقوانين ولا تنتهي بالاعتداء الى حد القتل. لقد اهتمت الصحف بذكر أن الشرطة وجدت الجثة المتهشمة للفتاة، أمام منزلها “بكامل ملابسها”، لدرء حجة القتلة في شكهم “بسلوك” الضحية. كما لم يغفل بيان المجلس القومي للمرأة الذين يدين الجريمة تلك المعلومة -الهامة جدًا- لتأذن للأسرة المصرية بالتعاطف مع الضحية بدون ذرة شك بأنها “شريفة” و بريئة من دوافع القتلة التي قد تُضعِف من وزن جريمتهم. 

إقرأوا أيضاً:

عذاب سرمدي 

“أنا حاسة إن كل ده عذاب سرمدي مش هينتهي إلا لما أموت”، تتابع رسائل صديقتي الغاضبة، التي اختبرت بنفسها نار البواب والجيران في تجربة استقلالها متسأله بجدية: ” مش قادرة أتصور فعلا، على كده احنا نفذنا من الموت؟!” 

تخبرني أنها كانت تدفع معظم دخلها للحصول على شقة لا تتعرض فيها لمضايقات حارس العقار أو الجيران “كنت بموت من الجوع علشان الأمان.”

 يظهر مقتل ضحية دار السلام للمراقب كحالة فردية بدوافع عبثية، لكن في الواقع المصري الجريمة لها منطق متكامل، كائن حي جاثم يتنفس ويعبث في مصائر وحيوات النساء. الأبوية هي الجسد، والولاية الأخلاقية هو عقله إما بإسم الدين أو القانون أو الشرف ويداه الباطشة هما البواب والجيران الذين يتلصصون ويهاجمون وفي بعض الأحيان يقتلون.

وثق هاشتاج “# أنا_عايشة_لوحدي” شهادات تكشف سلطة بدأت تتكشف من خلال مجموعات من بوابين أو نواطير المباني على النساء في مصر كـ”حراس للأخلاق”. بات هؤلاء يشكلون واجهة لسلطة الأهل والجيران والمجتمع على أي فتاة تعيش بمفردها سواء عزباء أو مطلقة.

نواطير الأخلاق

تسرد “دعاء” تفاصيل ليلة من جحيم عاشتها حين حاول بواب المبنى مع مجموعة من “فاعلى الخير” اقتحام منزل صديقها بالإسكندرية، خلال زيارتها له، “كانوا يطرقون الباب بشدة،  خرج لهم صديقي، وحاول التفاهم لكنهم كانوا مصممين على الوصول لي”، دفعهم صاحب المنزل للخارج، لكنهم استمروا في الطرق على نوافذ المنزل، حتى اضطر لمهاتفة والدته لتخبر البواب أنها على علم بوجودها وعليه أن يتركهما، لكنه رفض. تقول دعاء:”كنت خائفة ، ظللت مختبئة بالمنزل حتى الخامسة فجرا، وتسللت حتى استطيع الخروج”.

تجربة دعاء لم تختلف كثيرا عن تجربة آلاف الفتيات في مصر، وتسرد “هدى” طبية أسنان تسكن مع مجموعة فتيات جمعتهم ظروف الاغتراب بمدينة المنصورة حين بدأت الموجهة الأولى لوباء كورونا وما صاحبه من إغلاق عام. تسرد “هدى” لـ”درج” ” استقبلت خطيبي بالمنزل بعدما مر أسبوعان على خطبتنا، ولم يكن هناك شيء نفعله في ظروف الوباء، انتبه لصعوده أحد العمال بمصنع حلويات أسفل العقار، وتبعه إلى الشقة. طرق العامل الباب، وقال إنه لمح رجل يصعد إلى الشقة، وإذا انتبه أصحاب المصنع من كاميرات المراقبة ستحدث مشاكل.” وعلى الرغم من وجود هدى وأختها وبعض صديقاتها، حاولت هدى أن توضح أن هناك سوء فهم، لكن العامل طالب بالاختلاء بخطيبها في غرفة. 

تتابع هدى “دخلت عليهم وجدت العامل يطالب خطيبي بإخراج كل مايملكه بحوزته من مال وهاتفه المحمول. صرخت  وطلبت من خطيبي الهروب، وهنا صاح  العامل أن الهارب حرامي، امسك المارة بخطيبي وأوسعوه ضربا حتى تدخلت وحاولت أن تشرح أنه خطيبها وأن العامل هو من أراد سرقتهم. لكن حارس من حراس الفضيلة تدخل موضحا لهدى أنه عقاب مستحق:” أنا شوفتك ماشية معاه وهو حاطط ايده على كتفك، أنت هنا غريبة، لازم تعيشي مستخبية”.

 أوضحت هدى أن شكواها لدى الشرطة لم تؤخذ بجدية، وهي خرجت من منزلها دون  أن تجمع أغراضها. تصف المرارة التي شعرت بها هي وخطيبها :”بعد هذا الموقف أحاول أن أقلل عدد السنين لي في هذا البلد.”

إقرأوا أيضاً:

ولم تسلم إيمان، من مضايقات جيرانها بعد انفصالها عن زوجها واستئجارها منزل مع طفلها:”كانوا منزعجين من استقبالي عدد من الضيوف  في منزلي من النساء والرجال، لكن عندما جاء صديق لشراء قطعة أثاث عندي، اعترضه جيراني، ولم يقبلوا سبب الزيارة، ورفضوا أن أغلق الباب.” 

إيمان التي تسكن بميدان الجيزة، اضطرت أن تدافع عن نفسها ، بأنها على حق مما دفع جارها بالإتصال بطليقها ليبلغه أنها “تستقبل رجال بالمنزل.” 

لم أتمالك إلا أن أتسائل ماذا لو فقدت إيمان بيتها، ابنها، حياتها لوشاية تافه، لا لشئ إلا لأنها أرادت أن تبيع قطعة أثاث. فيما قام جارها بتركيب كاميرا مراقبة أمام شقتها لضمان شرف العمارة، وتابعت:” بعض ممن احتدوا خلال تلك الحادثة من الجيران يحاولون ملاحقتي، أنا لساني طويل، وأعرف أرد، لكني شعرت أنه لا يحق لي استقبال ضيوف، وإن استقبلت فسيعقبها فضيحة “.

لم تختلف تجربة سمر، مهندسة، التي جاءت للقاهرة من الإسكندرية للعمل ولم تستطع أن تؤجر شقة وهي بعمر 27 عام إلا باصطحاب والدها. وفي أول يوم لها بالشقة أخبرها صاحب العقار، أنهم طردوا الفتاة السابقة لها لأنها استقبلت شابًا رآه الجيران من النافذة وأبلغهم .

تقول سمر:”لم أشعر بالأمان، على الرغم من عدم استقبالي للرجال، ولكن شعرت أنني مراقبة طوال الوقت”. وسمر، مثلية، وتعيش خارج البلاد الآن لكنها تقول إنها في جميع تجاربها للاستقلال في القاهرة شعرت فيها بعدم الأمان.  وتضحك سمر:”كنت أستقبل صديقاتي طوال الوقت في المنزل، إنهم بنات لا يثيروا الريبة”، وتضيف:” مع ذلك كنت أخاف أن أفتح نوافذ منزلي.” حتى في منزل العائلة بالإسكندرية تضطر سمر لتغيير ملابس السهرة بالخارج، نزولا عند طلب والدتها خوفاً من نظرات وتعليقات البواب والجيران.

جرى تعميم عبارة أن الضحية كانت ميتة “بملابسها” في محاولة للقول إنها لم تكن تمارس فعلاً شائناً حين جرى ضربها وقتلها. مرة أخرى تخرج الضحية من القلب إلى الهامش، وتقرر الملابس التي ترتديها أو التي لا ترديها خلف جدران منزلها، مؤشر  تعاطفنا نحوها أم نحو قتلتها.

ألف عين تسبب نوبات هلع 

يعرف الشاعر صلاح جاهين الوطأة النفسية للتلصص وجزع المجتمع من حرية الإختيار فيقول: ” ورا كل شبّاك ألف عين مفتوحين/وانا وانتي ماشيين يا غرامي الحزين/ لو التصقنا نموت بضربة حجر/ولو افترقنا نموت متحسرين”  

استقبلت عاليا التي تعيش مع والدتها، حبيبها في زيارة لمساعدتها على نقل بعض الأغراض ، تقول عاليا:”جارتنا تتابعنا لأننا سيدات نعيش بدون رجل طول الوقت، كنت أعتبرها فضولية وتبحث عن تسلية، لكن عندما اتصلت بأمي لتبلغها بوجود شاب في المنزل عرفت أنها سيدة مؤذية”. والدة عاليا كانت على علم بالزيارة، مما أحرج جارتها، وتوضح عاليا:”شعرت بالإنتهاك، ماذا لو لم تعرف أمي كانت ستتسبب بسوء فهم كبير. كرهت البيت والعمارة، في بعض الأحيان أستيقظ من الخوف أنهم سيقتحمون المنزل إذا توفت والدتي، على الرغم من ملكيتنا له”

بينما تعيش زينة في حالة قلق بعد متابعتها جريمة قتل فتاة السلام، فهي تسكن مع صديقها الأجنبي بمنطقة الزمالك منذ 3 سنوات، لكن مع الكورونا تأثر الوضع المادي لهما مما دفعهما للبحث عن شقة خارج الجزيرة الهادئة. رحلة البحث كانت ثقيلة عليها، كانت تتعرض لنظرات البوابين وأصحاب الشقق التي توصمها “بالعهر”.

بالأمس وبعد الجريمة، خيرت زينة صديقها بين الزواج العاجل أو الحصول على وظيفة أخرى تسمح لهم بالاحتفاظ بالشقة الآمنة. تقول زينة:”نحن في وضع صعب، لا نريد الزواج، وبالتأكيد لا نريد الزواج بهذه الطريقة، لكني مرعوبة، وهو مصدوم لم نكن نعرف أن حياتي يمكن أن تكون في خطر حقيقي.” 

تقول ندا نشأت، المحامية ومسئولة المناصرة في مؤسسة قضايا المرأة المصرية لـ”درج” ، “في جريمة قتل فتاة دار السلام سيتم استخدام مادة 17 من قانون العقوبات، تعطي المادة للقاضي الحق في الرأفة والنزول بالعقوبة درجتين”، وغالبا ما تُستخدم المادة في جرائم (الشرف) في حال شك الجاني في سلوك المجني عليها، كمجرد شك وليس يقين “. وأضافت:”إن أحكام هذه المادة تستخدم من غير أسباب وتأتي وفقًا لتقدير القاضي، مادة 17 كارثية الاستخدام وتحتاج إعادة تفكير”.

التهديد المستمر للسيدات في الأماكن العامة، و منازلهن يجعل الحياة في مصر شبه مستحيلة لأي إمراة لا تمتلك رجلا يمارس الولاية عليها بالنيابة عن المجتمع فإن إختفى ذلك الرجل في صورته المقبولة مثل الأب أو الأخ أو الزوج عينت “قيم الأسرة المصرية” البواب والجيران أوصياء يكدرون حياة النساء. وعبارة “قيم الاسرة المصرية” استخدمت تكراراً في الأشهر الأخيرة في سلسلة ملاحقات باسم القانون لفتيات وشابات استخدمن تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي مثل تيك توك وغيرها فجرى توقيفهن وملاحقتهن تحت ذرائع فضفاضة من بينها عبارات من نوع أن سلوك الفتيات انتهك قيم الأسرة المصرية حتى باتت العبارة تستخدم للسخرية والتندر.

في مصر تعاني النساء من أعلى نسب تحرش جنسي على مستوى العالم ومن كثير من الاجحافات القانونية والمجتمعية. 

من هنا، تضع جريمة قتل الشابة وما يجري العمل عليه من تعزيز سلطة الولاية على النساء في مسودة قانون الأحوال الشخصية الجديد، حياة النساء في مصر على مشارف الجنون، وكأنهن سبايا يجري سحبهن إلى أقفاص حديدية ومن تتمرد على قفصها من غير المستبعد أن يجري قتلها.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.