fbpx

في ذكرى الثورة السوريّة: أتمنى لو خرجتُ في تظاهرةٍ واحدة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعد عشر سنوات أتمنى لو خرجت في تظاهرة واحدة، وفي حين كنت أراقب الأيدي التي تصفق والحناجر التي تنادي بحريتها لم يكفني ذلك يوماً، لكن عجلة الثورة السورية كانت غير متوقعة…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أتتخيلُ العيش في بلادٍ تُراقَبُ فيها كلّ تفاصيل حياتك؟ يُمنع عليك التفكير كما تشاء، تحيا وفق نظام حُددت فيه تحركاتك مسبقاً ولا حيلة لك سوى الرضوخ، هل تخيلت الحياة في بلد تشعر فيه طوال الوقت بأنك مراقب وستُعتَقل في أيّ لحظة؟ 

ليس هذا بجديدٍ في سوريا، أستطيع ذِكر عشرات الأسماء لرجالٍ ونساء في حيّنا الصغير، عملوا مخبرين للنظام السوريّ، يكتبون التقارير الأمنية بحقّ من ينتقده أو يشك بتوجهاته السياسية ليُعتَقل بعدها. كتابةُ التقارير في سوريا عملٌ كأيّ مهنة أخرى كالسائق والمعلم والطبيب، يعيش المخبرون بفضل وشاياتهم، يطعمون أطفالهم بأموال يتقاضونها لعملهم إلى جانب المنظومة الأمنية، ويخشاهم السوريون بقدر خوفهم من النظام.

اثنان زائد اثنان يساوي خمسة

في رواية 1984 لجورج أورويل، يمتلك النظامُ البلادَ بأكملها، تنتشر شاشاتٌ تراقب تحركات كلّ شخص، تتجسس على كلّ فرد في منظومتها الاستبدادية، يعمل نظام “الأخ الأكبر” كما يُسمى على محو التاريخ وإعادة كتابته والسيطرة على المواطنين، لا يجرؤ أحدٌ على التمرد أو الكتابة أو الثورة، فالرقيب “الأخ الأكبر” في كلّ مكان. تحكي الرواية كيف يعمل النظام الشمولي والديكتاتوري على كسر إرادة البطل المتمرد وبتر رغبة التغيير في داخله حتى يرضخ، في النهاية وبعد تعذيبه يجيب أن اثنين زائداً اثنين يساوي خمسة، هكذا تُمحى الثورات والرغبة في التغيير.

من المثير للسخرية أن تكون وزارات هذا البلد المتخيل تعمل ضد تسميتها، مثلاً “وزارة الحبّ” تحثُّ على الكره واليأس، “وزارة الحقّ” تُغيّر التاريخ بما يتوافق والتحالفات المتغيرة، و”وزارة السلم” تشنُّ الحروب.

هل كان يعلم جورج أورويل أن فتاة سورية ستشبه بطل روايته وتكتب في الخفاء، بينما يخفق قلبها بقوة؟

تصلح الرواية مثالاً عن الحياة داخل سوريا، مثالاً واضحاً وقاسياً. “اثنان زائد اثنان تساوي خمسة”، تعني في سوريا تصديق رواية أن الثوّار عملاء وأن الحرب برمتها هي مؤامرة على الشعب السوريّ! يقابلها في سوريا “المؤامرة الخارجية والأسد المُنقذ”، خلال عشر سنوات بتنا نردد دون دراية، “اثنان زائد اثنان تساوي خمسة!”.

يحاول بطل رواية 1984 كتابة مذكّراته الخاصة وما يمرّ به بعيداً من عين الرقيب وشاشاته ليعتقل بعد اكتشاف أمره، اليوم نكتب أنا وعشرات الصحافيين بأسماء مستعارة بعيداً من أعين النظام السوريّ، هل كان يعلم جورج أورويل أن فتاة سورية ستشبه بطل روايته وتكتب في الخفاء، بينما يخفق قلبها بقوة؟ لكنني حين أصل إلى السؤال المخيف أقول لنفسي: هل سيكتشفُ أمري يوماً؟ هل سأجبر كما بطل الرواية على الرضوخ وترديد: “اثنان زائد اثنان يساوي خمسة!”.

من يرغب باعتقال ابنته؟

لماذا حقاً أريد الكتابة عن الثورة السوريّة؟ أنا التي لم تخرج في تظاهرة واحدة بسبب ضغط عائلتي وخوفهم علي، وفي كلّ مرة قُمِعَتْ فيها تظاهرة أو أُطلق النار على المحتجين، نظرتْ أمي نحوي بذعر من دون أن تقول شيئاً، في الحقيقة كانت تقول كلّ شيء، ماذا لو خرجتُ لمرة واحدة؟ وكسرت كلّ هذا الخوف الذي أحيا فيه حتى اليوم؟ 

بعد عشر سنوات كُتبت خلالها آلاف المقالات والتحقيقات والمواد المرئية والمسموعة عن الثورة السورية، ماذا بقي حقاً لنكتب عنه؟ فعلى رغم انكشاف وحشية نظام الأسد وعلى رغم الكتابة عن آلام السوريين، لم يتغير شيء، لم تنجح الثورة في تغيير النظام، الثورة التي تحولت في لحظة إلى حرب، راح ضحيتها الآلاف وملايين النازحين في الداخل والخارج، ونحن الباحثين يبحثون عن التغيير، رأيناه، رأينا أبشع صور الموت والخوف والتعذيب.

 أدركُ أن التغيير لم يحصل في البلاد وحسب، فأنا تغيرتُ أيضاً. مشت الحياة والموت جنباً إلى جنب لتصنعا مني إنساناً جديداً. البقاء في سوريا مرغمةً أجبرني على التغيير، على التحول والتمرد بطريقتي ورؤية سوريا من زاوية لم أتخيلها يوماً، لكن كل ذلك داخلي وفي كتاباتي المختبئة خلف اسم آخر.

مع الوقت رحت أشعر بالقوة وبالرغبة في التمرد، وفعل أي شيء أقول من خلاله: “أنا ضد هذا النظام”، أتتخيل أن تبقى صامتاً وكلّ هذه الفظائع تمرّ أمام عينيك؟ أرغب بالحرية وحياة ديموقراطية، إنها أمنيات صغيرة ومستحيلة في آن، يعلم السوريون هذا الأمر جيداً، لكن حين ترغب بالحرية حقاً لن يكسرها النظام حتى لو تمَّ اعتقالك أو غُيّبت، لأنك حين تشعر بالحرية يحدث هذا دفعة واحدة ويصبح تجاهله أمراً مستحيلاً.

لكن لا بد من التحايل على أساليب الحريّة المعروفة في العالم، فالبعض يتظاهر وآخرون يخرجون عراة أو صامتين، كلّها طرائق للاحتجاج لكنها ممنوعة في سوريا ببساطة، لذلك كان عليّ البحث عن طريق أخرى للحريّة، كانت البداية بنسف كلّ الأفكار التي تمّ تلقيني إياها والبدء من جديد، البحث والقراءة والتفكير وحدي بقناعة ورضا.

وحين صرت جاهزة للتمرد، لم يكن بيدي حيلة بخاصة أننا كنا قد عايشنا تجربة اعتقال عمّي وكانت فكرة معارضة النظام ملغاة بشكل كامل من قبل عائلتي. أعلم أنهم محقّون في جانب ما، فمن يرغب باختفاء ابنته لأشهر، ليراقب آثار التعذيب على جسدها بعد خروجها، السياط المحفورة على ظهرها والصمت القاتل التي يسود في كلّ مرة تتحدث فيها عن لحظات التعذيب؟ لا أحد يتمنى لابنه الدخول إلى سجون الأسد.

في البداية يتجاهل الجميع التغيير، نحاول حماية أنفسنا منه، أعرّفها تلك السنين بالموت والغضب والصراخ والمظاهرات، هربت في بدايتها إلى الحب وأدركت بعد سنوات أنني هربتُ إلى حبّ عنيفٍ ومستحيلٍ كالحياة في سوريا، اكتشفت أن كلّ ما سأعيشه هو وجه للثورة والحرب، ونجوت بصعوبة، نعم أنا يائسة من الثورة والحريّة والحب، هذا ما يعيشه آلاف الشباب في الداخل، من المنصف ألّا نُحمّل أنفسنا أكثر من طاقتها ونعترف بضعفنا، في النهاية إنها عشر سنوات من القمع والخوف والاعتقال والنزوح والأزمات الاقتصادية، نعم أنا يائسة لكنني لا أستطيع التوقف عن الكتابة كيلا أختفي وسط مخاوفي وأحلامي.

 لا يستطيعون حرماننا من التفكير

كنت في بداية العشرين حين شاهدت أوّل تظاهرة في مدينة درعا، بدا المشهد مفزعاً ومثيراً في آن، لفتاة ريفية ربتها عائلتها وفقاً لقواعد اجتماعية ودينية وسياسية محددة، لا يمكن وصف ما شعرت به حينها سوى بالخوف، الخوف الذي سيرافقني كما الملايين، وسيكبر بين جدران المعتقلات وغرف التعذيب.

غيرتني الثورة والحرب السورية كما يكبر طفل صغير، من دون أن يشعر بذلك، والفتاة التي شعرت بالذعر عند مشاهدتها التظاهرة الأولى راحت مع الوقت تشعر باالنشوة وبقوة، كيف شعرتُ بالفخر والزهو لرؤية تظاهرة قد يخرج الأمن السوري في أيّ لحظة ويمحوها عن بكرة أبيها!

بعد عشر سنوات أتمنى لو خرجت في تظاهرة واحدة، وفي حين كنت أراقب الأيدي التي تصفق والحناجر التي تنادي بحريتها لم يكفني ذلك يوماً، لكن عجلة الثورة السورية كانت غير متوقعة، فجأة وجدنا أنفسنا نذوب كالملح في مياه هذا العالم القاسي. 

على الطرف الآخر لا أستطيع تجاوز حجم الكارثة في داخلنا، والضوء الذي يكاد ينطفئ في كلّ يوم، قد تكون أمي عانت من ويلات الحرب لكنها اليوم تشتم نظام الأسد بصدق وبإدراك حقيقي لحجم ديكتاتوريته، وأنا هذه المرة أقول لها “وطي صوتك”، نحن رقباء بعضنا بعضاً في النهاية، خوفاً على بعضنا من التعذيب، خوفاً على أحبائنا، نحن منعنا بعضنا من الخروج في التظاهرات لأن “الأخ الأكبر” مخيف ويصل إلى كلّ مكان.

ستدرك أن زيادة القمع تعني دوماً طريقة ما للتمرد، للتعبير حتى لو ضمن حلقات ضيقة برفقة الأصدقاء، يستطيعون حرماننا من كل شي إلّا من التفكير والخيال. باتت الكتابة تحت اسم مستعار تعني ظهور معارض جديد للنظام ولو كتبتُ باسم مستعار ثانٍ سيغدو اثنان مني معارضين له، وهكذا رحتُ أشعر ببعض الرضا بعد سنوات من الندم والشوق للتعبير والحكي.

أود الكتابة بقدر يأسي اليوم، يقول صديقٌ لو عشنا بعدُ ظروفاً أصعب مما نحن فيه لكن حصل شيء ما وانقلب الوضع، سنغفر كلّ ما حدث معنا. هل حقاً سنسامح الحياة ونبدأ من جديد لو سقط هذا النظام وتمكّن السوريون من بناء دولة ديموقراطية تخصهم؟ هل سيغدو كلّ ما مضى حكايات نفخر أننا مررنا بها ويأساً جاءت بعده الحريّة والحياة؟!

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!