fbpx

مسيحيو سوريا ورقة النظام الرابحة : “حماية” ثم خطف وتجنيد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“نحن لسنا مهددين من الجماعات الإرهابية وحسب، لكننا أيضا نعاني من ظلم النظام السوري مثل إخوتنا المسلمين. نريد أن نعيش في دولة تحترم الحرية والعدالة”…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هل يحمي بشار الأسد مسيحيي سوريا حقاً؟ 

فكرة ترسخت في ذهن كثيرين في العالم العربي وفي الغرب، بدعم من خطاب النظام السوري وإعلامه. لكن بعيداً من دمشق، في المنفى، يروي سوريون مسيحيون قصصاً عن واقع مختلف وأكثر تعقيداً.

دمشق، ساحة العباسيين، صيف عام 2014. تتوسل نجوى إلى ضابط سوري بلباس مدني. 

“اسمه ليس في القائمة”، يُجيبُها الضابط. 

ترتجف نجوى. إن لم يكن اسمُ ابنِها هاني في القائمة، إذن، فأين هو؟ 

لاحقاً، تعلم نجوى من نبيل، أحد أصدقاء هاني، أن شخصاً مجهولاً كان دعا الشابين ليأتيا معه من أجل الدفاع عن مطار الطبقة العسكري، قرب الرقة، في وجه هجمات تنظيم الدولة الإسلامية. من جملة ما قاله لهم: “أنتم المسيحيون نخبة شعبنا. لقد اختاركم بشار الأسد كي تقاتلوا”، كما روى لها نبيل.

في اليوم التالي، يهاجم تنظيم الدولة الإسلامية المطار. المجموعة التي يقاتل معها هاني ونبيل تنسحب باتجاه منطقة إثريا، الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية. لكنها لن تصل إلى إثريا. يختبئ نبيل في إحدى المركبات، وسيكون من القلة الناجية من نيران الجهاديين. أما هاني فلم يُعثَر عليه حتى لحظة كتابة هذه السطور. 

ينكر الجيش السوري أنه قام بتجنيد هاني، إذ كان قاصراً حينها. لكنه يقر بتجنيد نبيل، وهو بالغ، ويظهر اسمه في قائمة تجنيد رسمية.

“وبعدها، يجرؤ الأسد على القول إنه يحمينا؟! ألم يكن ابني مسيحياً؟” تسأل نجوى بحسرة، خلال مقابلة في العاصمة الفرنسية، حيث تعيش منذ أربعة أعوام ونصف العام. 

مسيحيو الشرق… المعادلة الرابحة للنظام السوري

حين يقدّم النظام البعثي نفسَه على أنه عَلمانيٌّ، مدافعٌ عن العروبة، ومناهضٌ للاستعمار، يضمن دعمَ جزءٍ من اليسار العربي وتمجيده. وبالتوازي مع ذلك، يستمر في تأكيد أنه درعُ حماية الأقليات، والعدوُّ اللدود للجهاديين. فينجح في الحفاظ على نوع من الشرعية في عيون العواصم الأوروبية، على رغم تنديد ديبلوماسييها رسمياً وعلنياً به وبأفعاله.

في كانون الأول/ ديسمبر 2010، قبل سنة ونيّف من انزلاق سوريا في الفوضى، كانت أسماء الأسد، زوجة الرئيس السوري، تعبر عن قلقها حول مصير المسيحيين “المهددين في دول عدة من العالم الإسلامي”، على صفحات مجلة “باري ماتش” الفرنسية. السيدة الأولى – التي سيلقبها الإعلام الغربي في ما بعد بـ”زهرة الصحراء الدموية” – كانت تروج يومها لنموذج من العلمانية السورية.

في 22 كانون الثاني/ يناير 2014، يجتمع وزراء وديبلوماسيون على الضفاف السويسرية لبحيرة ليمان، في مؤتمر “جنيف 2”. وزير الخارجية السوري آنذاك، الراحل وليد المعلم، يقدم خطاباً مندداً بالاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون، فيقول: “كل السوريين مسيحيون حين تُضرَبُ المسيحية”.

إقرأوا أيضاً:

في صيف ذلك العام، كانت همجية تنظيم “داعش” في العراق تحطم جُلَّ ما تبقى من الوجود المسيحي، الذي استمر هناك أكثر من ألفي سنة. آلاف الموصليين يلجؤون حينها إلى سوريا المجاورة، في المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد.

وفي البال أن الأسد نفسَه ينتمي إلى أقلية دينية. طائفته العلوية هي أيضاً مستهدفة من التنظيمات الجهادية المتطرفة. 

بصورة الحاكم الذي يحمي الأقليات في وجه الكارثة الإنسانية والحضارية في العراق، بات للأسد والمجتمع الدولي عدوٌّ مشترك.

“إما أن تكون معنا، أو نمحوك من الوجود”

صيف عام 2012، تبث قنوات عربية مشاهد يظهر فيها الطبيب هيثم سعد، في أحد مستشفيات دمشق الخاصة، وهو يداوي جِرَاحَ المُعارِض السياسي رياض سيف، أحدِ المصابين الآتين من التظاهرات التي يقمعها الجيش. يتعرض الطبيب سعد بعدها للتوقيف من أحد فروع المخابرات، وينتهي به الأمر خلف القضبان.

في الزنزانة غير المدفّأة، حيث يقبع عشرات المعتقلين، يموت كثيرون بسبب برد الشتاء القارس، أو بسبب النزيف. فالسجانون يضربون بلا هوادة.

“عندما نتعرض للتعذيب بالكهرباء على يد خمسة أشخاص في الوقت نفسه، نتمنى الموت ألفَ مرّة. كنت أحاول الانتحار عبر ضرب رأسي بالجدران، من دون جدوى”، يستذكر الطبيب الستيني. وبعد مرور أسابيع، يطلب من سجانيه أن يعدموه. فيعترض أحد الحراس قائلاً: “الدكتور مسيحي، لا يمكننا أن نقتله”.

“المنطق القائل: إما أن تكون معنا، أو نمحوك من الوجود، لا يستثني أحداً، لا الأقلية المسيحية ولا حتى العلوية”.

بعد خروجه من السجن، في حزيران/ يونيو 2013، يعلم أن ابنه، الذي كان منشقاً عن الجيش، قد قُتِل برصاص قناص من قوات تابعة للنظام.

أن يتعرض مدنيون مسيحيون للقتل، أو للضرب حتى الموت في سجون السلطة ذاتِها التي تقدم نفسها كحامية لهم ليس أمراً مفاجئاً، بالنسبة إلى المحامي مازن درويش، رئيس “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، الذي كان معتقلاً بين عامي 2012 و2015، وصنفته “منظمة العفو الدولية” كـ”سجين رأي”.

“المنطق القائل: إما أن تكون معنا، أو نمحوك من الوجود، لا يستثني أحداً، لا الأقلية المسيحية ولا حتى العلوية”، يقول المحامي، المنحدر هو نفسه من الطائفة العلوية.

الأقليات “المفيدة”

أسّس النظام السوري هَرَمية اجتماعية وَضَعَ في أعلاها أقليات ينظر إليها على أنها “مفيدة”، فضلاً عن جزء من البرجوازية السنية، وميّز تلك المجموعات عن الغالبية السنية من سكان الريف وضواحي المدن والأحياء الشعبية، بحسب ما يشرح زياد ماجد، المحلل السياسي اللبناني- الفرنسي، والأستاذ في الجامعة الأميركية في باريس.

ويوضح أن ما ينتج عن ذلك هو نوعان من العنف: الأول يجري خلسة وتكون له أهداف محددة، والثاني يضرب بلا هوادة ومن دون تفريق. من الأمثلة على النوع الثاني، تجويع وحصار سكان مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في جنوب دمشق عام 2013، إضافة إلى حملات القصف الشامل.

باسل خوري، سوري سُجِن عامين تحت حكم الأسد الأب بحجة تردده على أوساط الحزب الشيوعي. يعيش اليوم في ضواحي باريس، منذ أواخر عام 2017. يقول باسل: “من أبرز مخاوف النظام، تأليب الأقليات ضده، وتحديداً المسيحيين، وهم متعلمون بالمجمل. وفضلاً عن ذلك، يشكل انتشار وعي سياسي مناهض له خطراً يريد النظام تلافيه”.

“نحن لسنا مهددين من الجماعات الإرهابية وحسب، لكننا أيضا نعاني من ظلم النظام السوري مثل إخوتنا المسلمين. نريد أن نعيش في دولة تحترم الحرية والعدالة”

ولذا، فقد كان باسل يلاحظ أنه يتمتع في حياته اليومية بمعاملة تفضيلية عند التفتيش عن الهويات وملاحظة قوى الأمن انتماءه المسيحي. “لو كان اسمي محمد، لكان الأمر سيصبح قاسياً”، يوضح باسل.

مواقف كهذه كانت تُشعِر نجوى بالإحراج. “حين كان يعرض علي موظف رسمي أن أتجاوز طابور الانتظار لإجراء معاملة، أو حين كانت سيارتي هي الوحيدة التي لا يتم تفتيشها عند حاجز أمني، كنت ألاحظ الغضب في عيون الآخرين. ماذا فعلتُ حتى أستحقَّ أن يتم تفضيلي عليهم”، تسأل الأربعينية.

هذا المناخ العدائي يتم يغرسه عمداً ممثلو الدولة، كما يرى ماجد. إذ يوضح أن “نشر هذه الحالة من الكراهية يتيح للنظام أن يقدم نفسه في ما بعد كمنقذ للمسيحيين، الذين يمنحهم في الوقت عينه الشعور بالتميز عن الآخرين”.

عبر المعاملة التمييزية بحق مواطنيه وصب الزيت على نار الطائفية- على رغم الخطاب البعثي “العلماني”- استطاع النظام السوري أن يجعل من وجوده ضرورة بالنسبة إلى البعض في المجتمع الدولي.

ورقة في لعبة الديبلوماسية السورية

من ضمن لحظات ظهوره الإعلامي النادر خلال الحرب، يطل بشار الأسد في عيد القيامة (الفصح) عام 2014 في بلدة معلولا المسيحية، بصحبة رجال دين. قبل ذلك بأيام، كان الجيش النظامي قد استعاد السيطرة على معلولا من أيدي جماعات مسلحة.

عندما نسأل سوريين مسيحيين عمّن يستهدف الأسد عبر بث هذه المشاهد، نلقى الإجابة ذاتَها: الغرب.

في فرنسا، من الواضح أن ثمار هذه السياسة الإعلامية تؤتي أكلها في أوساط بعض الجمعيات، التي تعلن تأييدها الأسد، وتقول إنها تهدف إلى حماية المسيحيين. ففي تقرير في صحيفة “لوموند”، في 20 نيسان/ أبريل 2018، تنقل الصحافية عن عامل في المجال الإنساني قولَه إن منظمة “إس أو إس مسيحيو الشرق”، ذات الصلات مع اليمين المتطرف الفرنسي، ما هي إلا “وكالة دعائية ممتازة وغير مكلفة موالية للأسد”. هذا الخط الإيديولوجي يجلب للمنظمة الانتقادات، حتى من جانب الكنيسة الكاثوليكية.  

إقرأوا أيضاً:

لكن النظام الذي يتعرض للإدانة من مجمل العواصم الغربية لم يعد يتكل على تلك الحكومات وحدها في إعادة تدوير صورته. فهناك الحليف الإستراتيجي الأهم: روسيا.

تيغران يغافيان، صحافي ومؤلف كتاب “أقليات الشرق المنسية تاريخياً”، يذكّر بالعلاقات الوطيدة بين الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية ونظيرتها للروم الأرثوذكس في سوريا. هي علاقات روحية، ولكن مالية أيضاً. ففي آب/ أغسطس 2013، تلقت بطريركية أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذوكس، التي مقرها دمشق، مبلغ مليون و300 ألف دولار من الكنيسة الروسية.

وعام 2015، كانت طائرات سوخوي الروسية تنفذ أولى غاراتها في أجواء سوريا، بمباركة من بطريرك الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية. يؤكد فلاديمير بوتين حينها أن بلاده تدافع عن الأرثوذوكس المشرقيين. ويصفه بشار الأسد بعيد ذلك بأنه “الحامي الوحيد للحضارة المسيحية”، في مقابلة مع مجلة “فالورز أكتويل” الفرنسية اليمينية المتطرفة (في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015).

“نُعاقَب ثلاث مرّات”

يعتبر هيثم سعد، الذي كان يتظاهر في شوارع دمشق إلى جانب مسيحيين ومسلمين، أن “هذه القصص المتعلقة بالدين وتهم كثيراً وسائل الإعلام، لا تستحق حتى أن ننظر إليها”.

بيد أن وجود معارضين مسيحيين لنظام الأسد لا يمكنه أن يخفي حقيقة، وهي أن رياحَ الثورة في سوريا حَرَّكت بشكل أساسي العربَ السنة. إذ لم يشاركِ المسيحيون بشكل جماعي في الحركة الاحتجاجية، كما يوضح المؤرخ الفرنسي فريدريك بيشون، صاحب مؤلفات عدة عن الصراع في سوريا والأقليات الشرق أوسطية.

ويرى معارضون المسيحيون في تلك الاستنتاجات نجاحاً لسياسة الأسد.

من بين هؤلاء، سميرة مبيض، نائبة رئيس منظمة “سوريون مسيحيون من أجل السلام”، التي تدين نظام الأسد كما تدين لجوء فصائلَ مُعارِضة إلى السلاح. ترى مبيض أن المسيحيين هم ضحايا النظام، مثل سائر السوريين. لكنها تضيف أنهم كذلك ضحايا للتلاعب من النظام في الساحة الداخلية، واستخدامِه إياهم أداة ديبلوماسية على الساحة الدولية. “نحن نُعاقَبُ ثلاثَ مرات”، تمضي قائلة.

وجود معارضين مسيحيين لنظام الأسد لا يمبعدما كانوا يمثلون من 5 إلى 8 في المئة من عدد السكان في 2011، انخفض عددهم إلى النصف تقريباً اليوم، إذ دفع كثيرون ثمن دعمهم المفترض للنظام.

يمكن أيضاً تفسير حذر المسيحيين من دخول المعارضة، عبر النظر إلى وضعهم كأقلية، بحسب ما يرى تيغران يغافيان. بعدما كانوا يمثلون من 5 إلى 8 في المئة من عدد السكان في 2011، انخفض عددهم إلى النصف تقريباً اليوم، إذ دفع كثيرون ثمن دعمهم المفترض للنظام. في الواقع، فإن كثيرين فضلوا أن ينأوا بأنفسهم “خوفاً من العنف الجهادي، أو من العنف عموماً”، يقول فريدريك بيشون.

يوحنا (تم تغيير اسمه بناء على طلبه) سبعيني من حلب، يعيش في ضواحي العاصمة الفرنسية. “بعض المواطنين المسلمين يقولون لي: أنتم المسيحيين تصطفون مع الجلاد بشار”، يروي يوحنا بحسرة. ويستطرد: “نحن لسنا مهددين من الجماعات الإرهابية وحسب، لكننا أيضا نعاني من ظلم النظام السوري مثل إخوتنا المسلمين. نريد أن نعيش في دولة تحترم الحرية والعدالة”. 

عام 2012، قَتلت جماعة مسلحة ابنة يوحنا. ولم يتمكن من مواراة جثمانها الثرى إلا بفضل رجل بدوي مسلم نقل جثمانها لمسافة 170 كيلومتراً، متحدياً القصف والمعارك البرية، حتى يسلمَه إلى أبيها.

في هذه القصة، وفي قصص كثيرة غيرها، ربما يفضل البعض أن يرى إشارة على التعايش الطائفي. لكن مهما يكن من أمر، فهي تحمل على الأقل معاني التضامن الإنساني.

-المقال مترجم من العدد 1246 في المجلة الأسبوعية الفرنسية Marianne

إقرأوا أيضاً: