fbpx

رفع الحصار والاتفاق النووي… وهمان عاشهما العراقيون

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في نهاية 2003 انتهى الحصار، واصطدموا بالبؤس والحرمان! بل صار كثر منهم يريدون العودة إلى أيام الحصار لضمان استلام المواد الغذائية التي كانت توزع وقتها مجاناً. وما بين ذلك الماضي الحزين والحاضر المأساوي يعود الوهم مجدداً…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في جلسة حوارية حول الوضع العراقي، وجه مهتم فرنسي سؤالاً لي عن مساعي الرئيس الأميركي جو بايدن لإعادة الاتفاق النووي مع إيران، إن كان يشكل منعطفاً لإنهاء الخلاف الأميركي- الإيراني في العراق. طبعاً كان الطرح مهماً، ولم أملك جواباً سريعاً.

حاولت البحث بشكل مستفيض عن أهمية هذا الاتفاق، وخرجت بأن لا منفعة للعراق، بل وجدت خسارةً قيمتها نحو مليون دولار من ميزانيته المالية عام 2012، صرفت نفقات للوجستيات اجتماع مجموعة 5 + 1 في بغداد.

في أي حال يمكن افتراض أن العودة إلى الاتفاق النووي هي اللحظة التاريخية للمصالحة الأميركية- الإيرانية، وهي بحد ذاتها تمهيدٌ لانفراج الأزمة العراقية. 

السؤال الذي يطرح نفسه: هل الإرهاب والاقتتال الداخلي والانهيار السياسي والاقتصادي ناتجة عن الصراع الأميركي- الإيراني، أم عن سوء إدارة المسؤول العراقي؟ أما إذا كان سوء الإدارة، فلا يحتاج إلى السؤال أو الجواب، لأن المسؤول العراقي يعترف يومياً للرأي العام كيف تحصل جريمة نهب أموال الدولة، ويشرح الآلية المعتمدة التي جعلت العراق خاوياً مالياً وصناعياً وعمرانياً وتعليمياً. إن كان المسبب هو الصراع الأميركي- الايراني، إذاً كيف يحصل ذلك؟

في البدء، نحتاج إلى البحث عن جذور الأزمة الأميركية- الإيرانية في العراق، متى بدأت وما أسبابها؟

مراحل المفاوضات 

في ثمانينات القرن الماضي، شكل نجاح ثورة روح الله الخميني وإعلان إيران جمهورية إسلامية، صدمة للولايات المتحدة، كنقطة تحول من إيران- آل بهلوي الحليفة الاستراتيجية لها، إلى إيران الخميني الجمهورية المعادية لمصالحها. 

ووقتها كانت واشنطن تنظر إلى التغير العراقي في نهاية عام 1979 بريبة بعد تولي صدام حسين رئاسة الجمهورية، بدلاً من الرئيس أحمد حسن البكر. فأوحى لها ذلك بأن العراق وإيران هما كوبا وفنزويلا الجديدتان في المنطقة، لكن الديبلوماسية الأميركية حاولت معالجة انحدارها، إذ اضطرت إلى بذل المزيد من الجهود في التقرب إلى نظام صدام حسين، وفتح حوار متواصل لجعل العراق خطاً دفاعياً مع إيران، لحماية ما تبقى من نفوذها في المنطقة، وضمان أمن حلفائها في الخليج، السعودية والكويت والإمارات والبحرين، التي أيضاً استشعرت خوفاً من التحول الإيراني. فضلاً عن معاناة أميركا من توغل الروس المهول في العمق العربي (العراق- سوريا- مصر- لبنان). 

في عصف تلك الأحداث، بادر العراق كوسيط لفك أسر الديبلوماسيين الأميركيين الذين احتجزتهم طهران في حادثة اقتحام السفارة الشهيرة، ولم ينجح، كما لم تنجح خطة واشنطن في إنقاذهم أيضاً عبر طائرات هليكوبتر كان على متنها مقاتلون محترفون، إذ أُسقطت طائرتان في الحدود الإيرانية لأسباب غامضة. واشنطن اتهمت موسكو بالحادث، لكن لم تعلن ذلك رسمياً واكتفت بالحديث عن خلل فني حصل في الطائرتين.

بعد مرور 40 عاماً على الحرب العراقية- الإيرانية، ما زالت القناعة راسخة لدى الايرانيين العقائديين المطيعين للمرشد الأعلى وولي الفقيه (المحافظين والحرس الثوري) بأن الأميركيين ورطوا نظام صدام حسين بالحرب.

اشتد الخلاف الأميركي- الإيراني بعد فترة وجيزة من قيام الثورة، ما شجع الولايات المتحدة على إظهار نظام صدام حسين كفارس لحماة الخليج والعروبة من المد الإيراني الفارسي. صعود التأثير العراقي كقوة فاعلة بتلك اللحظة، دفعت به مطالبة إيران الثورة الجلوس لتنفيذ اتفاقية الجزائر الخاصة بترسيم الحدود البحرية بين البلدين، التي وقع عليها العراق في زمن حكم أحمد حسن البكر ومحمد رضا بهلوي في إيران. بحسب الرواية العراقية، فإن الايرانيين بعد بهلوي رفضوا الالتزام، وطلبوا إجراء تعديل عليها. وعناد الطرفين، الإيراني والعراقي، جعلهما لا يلتزمان بتنفيذ الاتفاقية، لأن طهران ترى “شط العرب والخليج” ملكاً فارسياً. وكان أكثر ما يثير صدام حسين، دغدغة مشاعره القومية. ورافق تلك التطورات شعور نظام صدام بوجود موج جماهيري عميق في جنوب العراق ووسطه من مؤيدي ثورة الخميني الإسلامية الشيعية.

وبعد مرور 40 عاماً على الحرب العراقية- الإيرانية، ما زالت القناعة راسخة لدى الايرانيين العقائديين المطيعين للمرشد الأعلى وولي الفقيه (المحافظين والحرس الثوري) بأن الأميركيين ورطوا نظام صدام حسين بالحرب. بعد معلومات تلقوها من آل بهلوي الذين لجأوا لهم بعد الثورة، تضمنت أن حراكاً شعبياً بقيادة السيد محمد باقر الصدر يتحضّر لقلب العراق إلى جمهورية إسلامية شيعية، بدلاً من جمهورية العراق العربية.

في أوج حرب الثمانينات كانت الولايات المتحدة تواصل دعم العراق مع اقتناع السعودية والإمارات والكويت، بأنه يقاتل بالنيابة عن الجميع دفاعاً عن الخليج، ما جعل بغداد تحصل على قروض مالية ضخمة من دول الخليج، وكانت دولة الكويت قدمت 15 مليار دولار أيضاً. واستثمر نظام صدام تلك الأموال في مشاريع البناء والعمران وتعزيز زيادة الطاقة الإنتاجية للنفط والغاز… هنا وجدت إيران استراتيجية لمواجهة دعم الولايات المتحدة العراق، عبر مساعدة المعارضة الكردية في إقليم كردستان (شمال العراق) والشيعة في جنوب العراق، لمهاجمة النظام من الداخل، وسقط آلاف السكان  في الشمال والوسط. وكانت حادثة مدينة حلبجة في محافظة السليمانية التي تعرضت لهجوم كيماوي عام 1988، أثارت حفيظة الرأي العام الدولي كما تعرض زعماء شيعة أبرزهم محمد باقر الصدر الذي ساهم في تأسيس “حزب الدعوة”، للاعتقال والإعدام. 

 وبالتزامن مع ذلك، أدرجت واشنطن أي جهة في الداخل العراقي تمول من إيران في قوائم الإرهاب والمطلوبين ووضعت الحزبين الكرديين “الديموقراطي”/ مسعود بارزاني و”الاتحاد الوطني”/ جلال طالباني في لائحة الإرهاب.

إقرأوا أيضاً:

بعد التهجير…

بعد مآسي الاقتتال والتهجير في مناطق شمال العراق وجنوبه، واستنزاف الأموال الخليجية ودخول الروس على خطة الدعم الايراني، اتفق الجانبان الإيراني والأميركي بشكل غير مباشر عبر وساطات روسية وتركية وفرنسية على إيقاف الحرب العراقية- الإيرانية. ووفق الاتفاق يقوم كلا الطرفين بتعطيل الدعم للمتخاصمين في الداخل العراقي، والمقصود، وقف الدعم الإيراني للمعارضة الكردية والمعارضة الشيعية في اهوار العراق، مقابل توقف الأميركي عن دعم صدام حسين. وهنا الاتفاقات طبعاً كانت تجرى بين أجهزة مخابرات الدولتين، لا سيما وكالة المخابرات المركزية أو “سي آي آيه”.

متاهات التسعينات… 

في بداية التسعينات، رفض صدام حسين دفع الديون التي اقترضها من دول الخليج كنفقات للحرب مع إيران، وخصوصاً دولة الكويت التي لجأت إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بالشكوى على العراق. وكانت روسيا والصين من الدول المستفيدة من الأموال التي اقترضها العراق عبر بيع أسلحة وتطوير مصانعه. إلا أن إدارة بوش الأب كانت لها سياسة مغايرة، وتعتقد أن صدام حسين ماكر وناكر للدعم الأميركي، وبدأ يميل كثيراً إلى كفة سياسة منافسي واشنطن في المنطقة، أي روسيا والصين وهما شجعتا على مهاجمة دول الخليج، وبخاصة الكويت حتى تكون فرصة للدخول الصيني والروسي لمحاصرة النفوذ الأميركي من الجانبين العراقي والإيراني. ثم انقلبت المعادلة لمصلحة الأميركيين وحلفائهم، بعد تقديم روسيا تنازلات والتزام الصمت لإنقاذ الكويت والسعودية من التوغل العراقي.    

ترافق ذلك مع اقترب الجيش الأميركي إلى منطقة حفر الباطن الحدودية السعودية- العراقية أثناء عمليات. واستشعر الإيرانيون نيات الأميركيين الدخول إلى العراق والاستحواذ عليه بالتعاون مع دول الخليج، إذ بدأوا بتحريك المعارضة الشيعية والكردية الموالية لهم بمواجهة نظام صدام حسين كخطوة استباقية لسيطرة الشيعة على السلطة. وكان هذا التصعيد يعرف بـ”الانتفاضة الشعبانية”، وأدى إلى سيطرة المعارضين على جميع مناطق العراق، عدا العاصمة بغداد التي بقيت وحدها تحت سيطرة النظام. ثم عاد الأميركيون والإيرانيون إلى الطاولة، عبر الوساطات الإقليمية والدولية وكانت وقتها مصر والأردن لاعبتين أساسيتين في المفاوضات. وأفضى الاتفاق إلى استمرار نظام صدام بالحكم، مقابل الانسحاب الأميركي والتوقف الإيراني عن دعم المعارضة، ما أتاح للنظام السيطرة مجدداً على الدولة.

ثم إلى عام 2002، كان الشرط الإيراني لقبول دخول الأميركي إلى العراق وإسقاط نظام صدام حسين مرهوناً بمنح الشيعة الموالين لها الحكم. وقتها كان المفاوض الإيراني ممثلاً عن وزارة المخابرات “الاطلاعات”، وكانت المعارضة العراقية في إيران تخضع لتحكم “الاطلاعات”، مثلما تخضع المعارضة الإيرانية في العراق لتحكم دائرة المخابرات. تولى آية الله الراحل السيد محمد باقر الحكيم المقيم في إيران المشاركة في مؤتمر لندن للمعارضة 2002، بصفته رئيساً للمجلس الأعلى الإسلامي في العراق ومنظمة “بدر”، جناحه العسكري، وأعلن عن تأييده الرسمي لواشنطن وحلفائها في إسقاط نظام صدام.

تضارب مصالح

ولم يخلُ الأمر من تضارب أميركي- إيراني حول الإدارة الجديدة للعراق. الإدارة الأميركية لم تكن ترغب بمنح المجلس الأعلى الإسلامي السلطة، لأنها تعتقد أنه وقواته العسكرية جزء من “الاطلاعات”. اضطرت إدارة الرئيس بوش الابن بعد سقوط صدام حسين إلى اتباع سياسة المماطلة لمدة عامين ونصف العام، للبحث عن البديل المرضي للطرفين حتى اتفقا على تسليم السلطة المنتخبة جاهزةً إلى “حزب الدعوة الإسلامية”، وعلى رغم تفوق المجلس الأعلى الإسلامي العراقي بكسب الأصوات في الانتخابات الأولى 30 كانون الثاني/ يناير 2005 بقائمة 555.

يقابل تلك الفترة تحرك إيراني موازٍ قام به عناصر “فيلق القدس” الإيراني المرتبط بـ”الحرس الثوري”، بقيادة قاسم سليماني للدفاع عن مشروع “الاطلاعات”، الذي أراد أن يكون العراق منطقة ارتكاز توازن وتفاوض بين الإيرانيين والأميركيين وحلفائهم الغربيين، على اعتبار العراق أرضاً خصبة لنفوذهم، ويملكون من المعرفة عنها ما يفوق معرفتهم عن أيّ منطقة أخرى. منذ ذلك الوقت، تتعارض رؤية “الاطلاعات” مع رؤية منافسها “الحرس الثوري” بأن تكون الصين وروسيا هما الحليفان والصديقان الوحيدان للجمهورية، وتبقى وظيفة إيران رصد تحركات الولايات المتحدة في المنطقة بدقة وحراسة حدود آسيا الشرقية والغربية.

كما أن لـ”الاطلاعات” وجهات نظر في هاتين الدولتين عقائدياً وسياسياً، كونها دول معادية للإسلام والمبادئ الجوهرية للثورة، لكن عناد “الحرس الثوري” في الإصرار على حماية توطيد العلاقة معهما والاستمرار بحماية آسيا من التمدد الأميركي والأوروبي، يندرج ضمن الالتزام بتوصية قائد الثورة الإمام الخميني والولي الفقيه السيد علي خامنئي.

وكان الأخير حذر قبل عام من مخططات “شيعة الإنكليزي”، التي غررت الكثير من المخلصين للجمهورية، ووُجهت أصابع الاتهام إلى مراجع دينية في النجف وقيادات سياسية شيعية عراقية ومن يساندهم من رجال إيران، المقصود بهم قيادات “الاطلاعات” إضافة إلى “الإصلاحيين”، بعدما كانوا ينعمون سابقاً بحماية من قادة كبار في إيران مثل هاشمي رفسنجاني، وعلي حسين منتظري، ومحمد خاتمي، المعادين لسلطة ولي الفقيه.

بعد عام 2003، حصل صعود كبير للتيار الإصلاحي الذي كان يمسك بالسلطة بقيادة الرئيس محمد خاتمي، مقابل تراجع حاد في شعبية التيار المحافظ الأصولي الموالي للحرس الثوري، ويأتي هذا المؤشر بسبب انتعاش الاقتصاد الإيراني، عبر قيام كبرى الشركات الايرانية بالاستثمار في العراق نتيجة الخطة الموضوعة من قبل “الاطلاعات” والرغبة في صعود تيار سياسي شيعي موالٍ لها في السلطة. 

من هنا، بدأ يشعر “الحرس الثوري” وتياره السياسي الذي كان بالأصل معارضاً لإسقاط نظام صدام حسين على يد الأميركيين، بالقلق من فقدان السيطرة على التحكم في الجمهورية، إذ كلف “فيلق القدس” المرتبط بالحرس الثوري بقيادة الراحل قاسم سليماني، مهمة مواجهة مشروع “الاطلاعات” في العراق، وأخذ يدعم تأسيس جماعات شيعية حديثة مناهضة للسلطة في بغداد “الشيعية- الاطلاعاتية- الأميركية”. فكان تأسيس “جيش المهدي”- الجناح العسكري للتيار الصدري، بقيادة مقتدى الصدر، ما مكنهم من الاستفادة منه في قلب التوازنات. لكن تراجع الصدر، بمساعدة الإيرانيين في حربه التي خاضها مرتين في النجف ضد الأميركيين وحكومة اياد علاوي دفع بـ”فيلق القدس” و”الحرس الثوري” إلى تأسيس مجموعات خاصة داخل جيش المهدي، بقيادة قيس الخزعلي زعيم “عصائب أهل الحق” واكرم الكعبي زعيم “حركة النجباء” في الوقت الحاضر، ثم إعادة تفعيل القدرات القتالية لـ”حزب الله” العراقي الذي تأسس خلال التسعينات في إيران، وتحول بعد الحرب السورية إلى “كتائب حزب الله”. ولم يقتصر نشاط “فيلق القدس” على الشيعة، بل قدم دعماً عسكرياً موازياً للحراك السني الذي انطلق من مدينة الفلوجة ضد الأميركيين بقيادة حارث الضاري.

 ووصل بهم الحال إلى دعم جماعات سنية عرفت سابقاً بارتباطها بتنظيم القاعدة بالدعم العسكري لأن المصلحة مشتركة وهي مقاتلة الأميركان، وفقاً لمعلومات أمنية عراقية أميركية. وقتها اعتبر الأميركي أن الإيراني قد انقلب على الاتفاق ما اضطره إلى طلب العودة إلى المشاورات مع “الاطلاعات”، بواسطة نوري المالكي رئيس الحكومة، والراحل عبد العزيز الحكيم زعيم المجلس الأعلى الإسلامي العراقي آنذاك. واعتبرت “الاطلاعات” أن مهاجمة الأميركيين والمصالح المشتركة من قبل “مجموعات خاصة” لا تمثل رسمياً إيران الدولة. 

واتفق الاثنان على محاربتها عبر دعم حكومة المالكي. وحصلت مواجهات بين الجماعات المرتبطة بجيش المهدي وعناصر من “حزب الدعوة” ومنظمة “بدر” والمجلس الأعلى، ورافق ذلك حرق مقرات ومهاجمة منازل كل منهما. وراهناً نشرت محطة فضائية فرنسية مقابلة مع المالكي قال فيها: “إنني قد حاصرتُ هذه الجماعات في البصرة عام 2008 واضطرت إلى الهروب إلى إيران وأخبرتُ الإيرانيين (يقصد “الحرس الثوري”) أن يأخذوهم لهم”، واكد في المقابلة أن هذه الفصائل ومن يدعمها من الإيرانيين لا يمثلون الدولة رسمياً.

إقرأوا أيضاً:

بين “الاطلاعات” و”الحرس الثوري” 

بعد عام 2010، تحول الأمر إلى صراع بين أذرع “الاطلاعات” و”الحرس الثوري”، إذ ضغط الأخير على حكومة بغداد من خلال تدريب الهاربين من المعارك مع الأميركيين بين الحدود العراقية والإيرانية، ثم تمكنوا من استقطاب شباب في الوسط والجنوب، إلى معسكراتهم وتشكيل فصائل، وإعادتهم إلى العراق لتسهيل عمل الشركات الإقليمية والعالمية الحليفة للحرس في الاستثمار في العراق، منها شركات تركية وسورية وصينية وألمانية وروسية. 

بالتالي إن الحديث عن المواجهة الأميركية- الإيرانية بشأن العراق قد انتهى بعد الانسحاب عام 2011، وفقاً لاتفاقيات ومعاهدات أبرمت بين حكومة نوري المالكي في ولايتها الثانية وبرضا “الاطلاعات”.

 في نهاية عام 2011، انشغل “الحرس الثوري” و”الاطلاعات” في نصرة بشار الأسد بوصفه حليفاً استراتيجياً، واجتمع الاثنان على زج كل الفصائل المسلحة العراقية الموالية لها بـ”لواء ابو الفضل العباس”، الذي تولى إنقاذ دمشق من السقوط بعد خوض معارك طاحنة مع قوى المعارضة السورية وجبهة “النصرة”. وفي نهاية 2012، أعاد الانقسام بين “الاطلاعات” و”الحرس”، بشأن اكتفاء حلفاء الجمهورية  بالفرجة وعدم التدخل في القتال معها في سوريا بعد إعلان أميركي وأوروبي، عن نية التدخل، ما دفع “الاطلاعات” إلى إعادة الحسابات في العمل في سوريا، وحماية الجبهة العراقية كخط دفاع، فيما رفض “الحرس” الانسحاب من سوريا، ما أدى إلى هيمنة الحرس على لواء ابو الفضل العباس، وتقسيمه إلى فصائل عدة، أبرزها “حركة حزب الله”، “النجباء”، “كتائب حزب الله”.

ثم بعد عام 2013 تنازلت “الاطلاعات” عن ملف العراق، كشرط “الحرس الثوري” لتولي الإصلاحيين السلطة برئاسة حسن روحاني. واحتكر “الحرس الثوري” الهيمنة على ملف العراق للاستمرار سراً في حماية نظام بشار الأسد، و”حزب الله” في لبنان، وتعزيز دفاعاتهما في المنطقة بحجة وصول خطر “داعش” إلى الحدود الايرانية.

“الثوري” إذ ابتلع الفصائل الأخرى

في تلك اللحظة، نجح “الحرس الثوري” في ابتلاع الفصائل العرقية بعد دخول “داعش” إلى العراق عام 2014، هنا اختفى دور “الاطلاعات” تماماً في العراق، والفصائل الشيعية كلها أصبح ارتباطها بـ”هيئة الحشد الشعبي” التي تحكم بها قاسم سليماني كلياً. وأصبح “الحرس الثوري” هو الداعم المباشر في توفير الإسناد و”اللوجستيك” والسلاح، وتمكن بفعل هذه الفصائل من الإطاحة بمشروع “الاطلاعات” والسيطرة على مفاصل الدولة، من خلال بسط نفوذ الفصائل الموالية على أراضٍ وملفات صارت تجني أموالاً له. وهكذا انزوت “الاطلاعات” لأنها خسرت سوريا والعراق ولبنان، وفي الأصل ليس لـ”الاطلاعات” تأثير في لبنان لأن لحسن نصر الله ارتباطاً مباشراً مع “الحرس”، وبالتالي أصبح سليماني ونصر الله يهيمنان على الملف العراقي والفصائل والجماعات المسلحة و”هيئة الحشد الشعبي” وغيرها.

وطيلة هذه الفترة، استمرت المفاوضات بين “الحرس الثوري” والسياسي الشيعي الذي يميل إلى كفة “الاطلاعات” وكان وقتها نوري المالكي بدورته الأخيرة، وتعاون معهم بينما حكومة حيدر العبادي أوقفت مرور الطائرات الإيرانية عبر مطار بغداد لمساعدة النظام السوري بطلب من الإدارة الأميركية، كشرط لمواصلة دعم العراق في المعركة ضد “داعش”.

استراتيجية “الحرس الثوري” وأجنحته العراقية هي مواصلة المواجهة العسكرية مع الأميركيين في العراق، حتى وإن كانت عبارة عن نشاطات مدنية وتعليمية واستثمارية، لكسر إرادة خصومهم في الداخل (الاطلاعات) والالتزام بالاتفاق مع الحليفين الصيني والروسي…

مخطط ضد “الثوري” 

“الاطلاعات” بالاتفاق مع جهاز الأمن القومي الذي يترأسه علي شمخاني (عربي القومية) يخططان لفك قبضة الحرس الثوري على الملف العراقي وإرجاعه إلى “الاطلاعات”. حتى إنهما استفادا من مناهضة المرجع الاعلى السيد علي السيستاني لأفعال “الحرس الثوري” ومن معهم من فصائل في عدم احترامهم قيم الدولة العراقية وزج العراق في صراعات خارج الحدود لا تمت للمصالح الوطنية. 

واصطف إلى حراك المرجعية زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي يحاول النيل من المتمردين الذين انشقوا عنه وأصبحوا ضمن محور “الحرس الثوري”، بخاصة “عصائب أهل الحق”. 

هذه الحسابات، أفرزت انشقاقاً داخل الشيعة في العراق وإيران، وكان المشهد واضحاً قبل التظاهرات عام 2018 في البصرة، فميثم الزيدي أحد قادة الفصائل الشيعة الموالية للسيستاني، أعلن عن نزاعه مع الراحل أبو مهدي المهندس، بسبب تبعية “الحشد الشعبي” لتوجيهات قاسم سليماني بدلاً من المرجعية والحكومة. 

وكان رد النجف على “الحرس الثوري”، هو استقبال الرئيس الإيراني الإصلاحي حسن روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف، ولم يستقبل المرجع سليماني ولا أحمدي نجاد الذي زار العراق في أواخر عام 2009. وقتها كانت “الاطلاعات” على معرفة بكل شيء وتعلم أن غلياناً شعبياً شيعياً يفور داخل العراق، بسبب نقص الخدمات والبؤس والبطالة وسوء الأمن والفساد بسبب الطبقة السياسية المحمية من قبل الحرس الثوري، حتى جاءت احتجاجات تشرين لتمثل فرصة ثمينة لـ”الاطلاعات” لعزل “الحرس الثوري” بعدما توغل في الأخطاء.

و”الحرس” يتعثر في إيجاد حلول للتعامل مع احتجاجات تشرين التي انتقلت شرارتها إلى إيران، فوظيفته الأساسية مقتصرة على تمكين الجماعات المسلحة. ونتيجة لذلك، رأت “الاطلاعات” أن هناك نية لاستعادة الهيمنة على الملف العراقي مجدداً، واستغلت الولايات المتحدة الأميركية أيضاً هذا التصعيد لمصلحتها ونفذت اغتيال سليماني والمهندس، للاستفادة من تشتيت الفصائل المسلحة وتوسيع الخلاف بين “الاطلاعات” و”الحرس” الذي ينظر إلى “الاطلاعات” بنظرة المتورط في الاغتيال حتى لو لم يكن شريكاً بالفعل.

وكان بدأ تحرك “الاطلاعات” لاستعادة التحكم في الملف العراقي منذ تظاهرات 2018، بعد فشل “الحرس الثوري” في السيطرة على حراك مناطق جنوب العراق، بخاصة البصرة حيث أحرق متظاهرون شيعة أهم وأكبر قنصلية لإيران، وأحرقوا أعلام المهورية ورموزها، ما أحرج إيران. وكانت أولى ضغوط “الاطلاعات” على “الحرس” هي تسليم السلطة إلى عادل عبد المهدي كخط متوازٍ لـ”المنافسين الإيرانيين”، إلا أن عبد المهدي فشل في تحقيق رغبة “الاطلاعات” في التصدي لردع خلايا “الحرس الثوري”، ثم جاءوا بمصطفى الكاظمي على أمل بأن يحقق ما حققه لهم المالكي، في الدورة الاولى.

كان رد النجف على “الحرس الثوري”، هو استقبال الرئيس الإيراني الإصلاحي حسن روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف، ولم يستقبل المرجع سليماني ولا أحمدي نجاد الذي زار العراق في أواخر عام 2009.

استراتيجية “الحرس الثوري” وأجنحته العراقية هي مواصلة المواجهة العسكرية مع الأميركيين في العراق، حتى وإن كانت عبارة عن نشاطات مدنية وتعليمية واستثمارية، لكسر إرادة خصومهم في الداخل (الاطلاعات) والالتزام بالاتفاق مع الحليفين الصيني والروسي…

وأسباب تضارب مصالح “الاطلاعات” و”الحرس” في العراق تندرج ضمن ما يلي:

أولاً: “الاطلاعات” تدعم مشروع تقسيم العراق إلى 4 مناطق “جنوب ووسط وغرب وشمال”. وكان لديها وكلاء شيعة عام 2004، ولا سيما المجلس الأعلى الاسلامي العراقي الذي عملت عليه بشكل كبير. ورفض “الحرس الثوري” المشروع واعتبره استهدافاً مباشراً لمشروعه في المنطقة الطامح بالوصول إلى أفريقيا. 

ثانياً: “الاطلاعات” تعارض مواصلة دعم نظام بشار الأسد الذي كلف الجمهورية خسارة باهظة. أما عن دعم حسن نصر الله فيجب أن يتناسب برأيها مع رؤية السياسة الخارجية الإيرانية في المنطقة لأن نصر الله لا يمثل نفسه في المنطقة، بل هو وكيل ولي الفقيه وكل موقف منه ينظر إليه كموقف إيراني، فيما يريد “الحرس الثوري” مواصلة دعم الاثنين بهدف حماية النظام القومي الإيراني.

ثالثاً: تراجع شعبية المحافظين في الفترة الأخيرة في الداخل بسبب النشاط العسكري للحرس الثوري في مناطق النفوذ، أدى إلى فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية وانهيار العملة الايرانية إلى الصفر. وكانت الضحية الأولى المواطن الإيراني. في المقابل، يدعم المحافظون الوجود الأميركي لتخويف خصومهم في الداخل، أي “الحرس الثوري” الذي وصل به الحال إلى التخطيط لانقلاب، والسيطرة على الجمهورية بعد وفاة المرشد الأعلى.

رابعاً: الاستمرار في مواصلة خرق الأراضي العراقية والعبور إلى سوريا ولبنان، من أجل ضمان توسع نفوذ الحرس الثوري في دول ما يسمى بمحور المقاومة، وتأسيس المزيد من الجماعات الموالية في تلك المناطق وكسب ولاء أحزاب وسلطات لمصالحها للتضييق على الدبلوماسية الإيرانية الاصلاحية. كل ذلك وتّر العلاقات بين “الاطلاعات” و”الحرس الثوري”.

خامساً: إظهار الحرس الثوري أمام الرأي العام الإيراني بصورة المحارب الوحيد والمدافع الحقيقي عن الفارسيين وكاسر شوكة أعداء الجمهورية لاسترجاع شعبية تياره.

في النهاية تشعر “الاطلاعات” بأن شعبية جناحها السياسي، “تيار الإصلاح” تراجعت داخل إيران، قبيل الانتخابات الرئاسية في حزيران/ يونيو. ويعود سبب التراجع إلى العقوبات الأميركية المفروضة على إيران بسبب الملف النووي ودور “الحرس الثوري” في المنطقة. تقابل ذلك خسارة “الحرس الثوري” سليماني والعالم النووي الشهير محسن فخري زادة. بالتالي بدأ “الحرس” يتقهقر داخل العراق وبدأت تظهر تخبطات داخل الفصائل وغيرها.

ما يحصل أن “الاطلاعات” تعتبر مصطفى الكاظمي حليفاً لها، وبدأ إزاحة أذرع “الحرس الثوري” من الدولة، ومنع استمرار رقابة الحشد على “أمن الاتصالات” و”التحكم ببنك المعلومات” ورفع صلاحيات عن أهم رجال “الحرس”، ابو علي البصري والقيادات الأمنية. وبدأت الدولة العميقة تنهار. الأمر الذي يسمح لـ”الاطلاعات” بالتفاهم مع الأميركيين ومصطفى الكاظمي، لتكون لها الحصة المقبلة في بناء ملف عراقي خالٍ من الفصائل و”الحرس الثوري”. وإذا خسر “الحرس” الانتخابات، نال “الإصلاحيون” الهيمنة والسيطرة الجديدة على ملفات أمنية كان يسيطر عليها الحرس الثوري سابقاً.

في أي حال، ربط المشكلة العراقية بفعل التصعيد الأميركي- الإيراني، ربما أرجعني بالذاكرة إلى التسعينات، فترة الحصار الأميركي، حيث عاش العراقيون وهماً لسنوات بأن ما يعيشونه من فقر وعوز سببه الحصار وأن رفعه يعني إنقاذهم. وفي نهاية 2003 انتهى الحصار، واصطدموا بالبؤس والحرمان! بل صار كثر منهم يريدون العودة إلى أيام الحصار لضمان استلام المواد الغذائية التي كانت توزع وقتها مجاناً. وما بين ذلك الماضي الحزين والحاضر المأساوي يعود الوهم مجدداً إلى العراقيين، وهذه المرة معقوداً بأمل الاتفاق الأميركي- الإيراني.

إقرأوا أيضاً: