fbpx

من أيقظ الحسبة من جديد؟
القضاء المصري يلاحق “شيخ أزهري” رفض عقوبة “قطع يد السارق”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بينما ننتظر التوصل إلى حلول جديدة أو تغيرات في تركيبة السلطة الحالية تسمح بوجود حلفاء داخليين جدد، على نصر وآلاف غيره أن يدفعوا أثماناً باهظة لممارسة أحد حقوقهم، أو لكونهم مصريين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يواجه الشيخ المصري محمد عبد الله نصر المعروف بـــ”ميزو” عقوبة السجن لعامين، وذلك على خلفية تصريح أدلى به لإحدى القنوات التلفزيونية، يستنكر فيه عقوبة قطع يد السارق، بعدما فسر أن القطع لا يُقصد به البتر فعلياً، مستنكراً أن هذه العقوبة تُطبَّق في دول عدة.

 لم يمر تصريح الشيخ الأزهري مرور الكرام، إذ يواجه قضية حُسبة اتُهم فيها بازدراء الأديان، والغريب أن القضاء المصري “المدني ظاهرياً” أقر باستحقاق الشيخ محمد عبد الله نصر عقوبة السجن بتهمة “ازدراء الدين الإسلامي”.

الصادم أن المحامي علي الحلواني (محامي الشيخ نصر)، نشر على “فايسبوك”، فقرة من حيثيات الحكم الذي أصدرته محكمة استئناف شبرا الخيمة، وجاء فيه أن “المحكمة رأت إثبات التمسك والتشرف بأحكام الإسلام وحدوده، وإن كانت عقوبة قطع يد السارق لا تطبق في بلادنا، إلا أن جميع القضاة يقرونها ويقدرونها، إذ ثبت للمحكمة من الأوراق والتسجيلات المقدمة في الدعوى، أن المتهم المفترض به العلم، حاصل على شهادة الليسانس في أصول الدين قسم الدعوة والثقافة الإسلامية بتقدير جيد، وهو يرتدي الزي الأزهري الكامل، في بداية حديثه، يصف أن هناك كارثة اكتشفها بأنه لا يوجد بتر ليد السارق في القرآن، وأن القطع ليس المقصود به البتر، وبهذا الكلام والفعل من المتهم يفتح الباب للتطاول على أركان الإسلام وحدوده والتشكيك في تلك الحدود، ويفسر كل على حسب هواه، ويأتي يوم علينا وعلى من يأتي بعدنا يصعب أن يستنبط الحق من كثرة الباطل والخبيث الذي انتشر، تحت اسم حرية العقيدة والفكر، مستشهداً بقوله تعالى “ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون”.

 المحامي علي الحلواني سرد لـ”درج” بداية وقائع الملاحقة القانونية لنصر، “بعد تصريحات أدلى بها في أحد البرامج التلفزيونية، وبين أقوال أخرى له عن حد السرقة مقدماً رأياً فقهياً يستند إلى تفسير للمعنى اللغوي للقطع، يرى أنه لا يقصد به بتر يد السارق. بعد هذا التصريح تقدم عدد من المواطنين والمحامين، من بينهم المحامي المعروف بشنه سلسلة قضايا حسبة سمير صبري ببلاغات للنيابة العامة تتهم نصر بازدراء الدين الإسلامي. وأمر النائب العام بالتحقيق في هذه البلاغات، وأحيل نصر بموجبها إلى المحاكمة، في عشر قضايا، حكم في 8 منها بالبراءة فيما حكم بإدانة نصر في قضيتين”.

يوضح النص الصادم للحيثيات كيف استخدم القضاة السلطة التقديرية الواسعة التي يمنحهم إياها نص الفقرة (2) من المادة (98 و) من قانون العقوبات، المعروفة بمادة ازدراء الأديان. هذا النص، ذو الصياغة والمفردات المطاطة، والتي لا تحدد ما يمكن أن يشكل جريمة ازدراء الأديان على وجه التحديد، تسمح للقضاة بأن يحددوا، وفق تقديرهم، ما إذا كانت الأقوال المنسوبة إلى المتهم تنطوي على ازدراء للدين، وفي حالتنا هذه فقد قدر القضاة أن تعبير المتهم عن رأي فقهي يخالف ما يقرونه ويقدرونه، بخصوص أحد أحكام الشريعة الإسلامية، يشكل جريمة ازدراء للدين الإسلامي.

وأوضح القضاة تفسيرهم لنص مادة قانون العقوبات، بأنه يعاقب على “التطاول على أركان الإسلام وحدوده والتشكيك في تلك الحدود”. ولم يوضح القضاة في حيثيات حكمهم كيف يتحول اجتهاد فقهي قام به شيخ أزهري “تطاولاً” و”تشكيكاً”، ففي نهاية المطاف لم ينكر الرجل الحد نفسه أو يشكك فيه، ولكنه قدم تفسيراً قد يكون مصيباً أو مخطئاً.

يمضي القضاة في إيضاح مسوغات إدانتهم نصر ، ويرون أن ذلك الباب الذي يفتحه يؤدي في النهاية إلى أن “يأتي يوم علينا وعلى من يأتي بعدنا يصعب أن يستنبط الحق من كثرة الباطل والخبيث الذي انتشر”. ويظهر من هذه العبارة أن القضاة قد نصبوا أنفسهم حماة لسلامة استنباط الحق، أي حماة لسلامة العقيدة الدينية من إساءة تفسير نصوص أحكام الشريعة، أو بعبارة أخرى من تفسيرها بغير ما يرونه هم صحيحاً.

“ليس في القانون ما هدفه حماية الدين نفسه”. فليس دور القانون حماية الدين من التفسيرات الفقهية المختلفة أو التي يراها غالبية المتخصصين خاطئة.

ما حصل مع الشيخ “ميزو” سبب صدمة لجهة انسحاب القضاء من مساحته المدنية المفترضة ودخوله على خط تفسيرات دينية يحكم بها قضاء يفترض أنه مدني. وإن كان القانون من ضمن أهدافه حماية المجتمع من مخاطر عدة، فليس من بين هذه المخاطر التباين في تفسير نصوص دينية. وإذا كان تقييم الأفكار ليس دور القوانين، فالمؤكد أيضاً أن دور القضاة هو إعمال نصوص القانون من خلال ما يصدرونه من أحكام. يحق للقضاة بالطبع أن يوضحوا الحكمة من القانون وكيف يفسرونه، ولكن لا يحق لهم ابتداع غايات لنص القانون تتجاوز دوره. 

مهما كان نص المادة المستند إليها مطاطياً وحمال أوجه ويسمح للقضاة بممارسة سلطة تقديرية واسعة، ففي النهاية يظل النص وتطبيقه محدودين بحدود دور القانون ككل في المجتمع، وما لا يجوز للقانون التدخل فيه، لا يحق للقضاة توسيع مواده بأي تفسير كان لتشمله.

يؤكد الحلواني لـ”درج” أن المادة 98 من قانون العقوبات بفقراتها المختلفة قد وضعها المشرع المصري لغاية واحدة وهي الحفاظ على السلم الأهلي، وما يمكننا فهمه من ذلك أن المقصود بمعاقبة من يرتكب جريمة ازدراء الأديان، هو تجنب خطاب الكراهية الذي يمكن أن يؤدي إلى إحداث شقاق بين الطوائف الدينية المختلفة، قد يتطور إلى عنف يهدد السلم الأهلي. 

ويوضح الحلواني أيضا “ليس في القانون ما هدفه حماية الدين نفسه”. فليس دور القانون حماية الدين من التفسيرات الفقهية المختلفة أو التي يراها غالبية المتخصصين خاطئة. ولكن في المقابل يقول الحلواني إن واحدة من المشكلات أنه ليس ثمة مذكرة إيضاحية للمادة، ومن ثم فإن كثراً من القضاة -إن لم يكن أغلبهم- يستخدمونها في ما يرونه دفاعاً عن الدين الإسلامي على وجه التحديد، على رغم أن المادة تذكر فقط “الأديان السماوية” من دون تحديد أي منها. 

إقرأوا أيضاً:

مسألة حظ

ويختلف القضاة في تفسيراتهم لما يمثل عدواناً على الدين، وبالتالي فإن ما تصدره دائرة من أحكام يتناقض في أحيان كثيرة مع ما تصدره دائرة أخرى، فيصبح مصير المتهم معلقاً بسوء حظه أو حسنه، وهو ما يدلل عليه بوضوح حظ نصر، فربما كانت محاصرته بعشر قضايا، هي التي جعلت حظوظه في الإفلات منها جميعا ضئيلة للغاية.

من المؤكد أن تحويل مصير متهم إلى مسألة حظ هو أمر يشير بوضوح إلى إخفاق القانون أولاً في ضمان تساوي الجميع أمامه، وثانياً في تحقيق هدف الردع العام. فكيف بإمكان شخص حريص على الانصياع للقانون أن يعرف ما إذا كان هذا الفعل أو ذاك سيوقعه تحت طائلة القانون، إن كان الفعل الواحد قد يعرّض صاحبه للإدانة أو البراءة،بحسب ميول وتوجهات من سينظر في قضيته من القضاة. هذا لناحية الإخفاقات الشكلية وحسب، قبل أن نتطرق لحقيقة أن هذا الحكم بين أحكام أخرى كثيرة صادرة بموجب مادة ازدراء الأديان، هو بلا أدنى شك يمثل تعدياً واضحاً لا لبس فيه على كل من الحق في حرية الاعتقاد، والحق في حرية التعبير، فما عوقب عليه نصر هو تحديداً اعتقاده في صحة تفسير ما لأحد أحكام شريعة دين، يدين به ولم يخرج عنه، ثم تعبيره عن هذا الاعتقاد علانية.

السياق المصري العام  تزايد فيه عبر سنوات التديّن المتطرّف، أو بالأحرى أسلمة غالبية الممارسات الاجتماعية. وليس من اختلاف كبير بين تنصيب مستخدم لشبكة تواصل اجتماعي نفسه حامياً للدين وتوزيعه الاتهامات على غيره من خلال منشوراته أو تعليقاته، وبين استخدام قاض السلطة التقديرية التي منحه إياها نص قانوني ليمارس حماية العقيدة والدين من خلال إصدار أحكام بالحبس ضد من يخالفه الرأي ومن يراه يهدد الدين الصحيح. 

كما أن أي نظرة عامة إلى مجمل التشريعات المصرية بدءاً بالدستور نفسه ومروراً بالقوانين المختلفة، يمكنها أن تخرج باستنتاج أن إطلاق العبارات وعدم تقييدها ، يشكلان استراتيجية متعمدة تسمح للدولة المصرية بأن تظهر قدراً من الالتزام بتعهداتها الدولية تجاه حقوق الإنسان، بينما تفرغ هذه الحقوق من أي محتوى لها عند التطبيق العملي. 

وبجانب ذلك تبدو النصوص الدستورية الخاصة بالحريات مثالية إلى حد كبير، ولكنها تحيل تنظيم ممارسة هذه الحريات إلى القوانين التي تقيدها بنصوص مطاطة، قد لا تظهر فيها نية قمعية، لكن السلطة التقديرية التي تمنحها هذه النصوص للقضاة أنفسهم تسمح لهم بتضييق الخناق بشكل كامل على أي ممارسة للحقوق والحريات تخرج عن نطاق السائد مجتمعياً، الذي يتجه بشكل متزايد إلى االمحافظة والرجعية أكثر فأكثر. وهكذا تتحول محاكمات جنائية اعتيادية في الظاهر إلى محاكم للتفتيش في الضمائر وفي صحة الاعتقاد الديني، تتخطى حتى ما ينقله إلينا التاريخ عن العصور الوسطى الإسلامية.

المطلوب عفو رئاسي!

يقول الحلواني إنه بعد استنفاد درجات التقاضي المتاحة كافة، لم يعد من أمل لنصر في تجنب السجن إلا باستصدار عفو رئاسي. 

مع ضآلة هذا الأمل في حالة نصر، فقد تكرر في حالات مختلفة تدخل الرئاسة أو مستويات أدنى من السلطة التنفيذية لتحويل مسار قرارات أو أحكام للنيابة أو للقضاء وفق اعتبارات سياسية. عادة تأتي هذه التدخلات عندما يكون من الضروري تحسين صورة النظام الخارجية. 

لم يوضح القضاة في حيثيات حكمهم كيف يتحول اجتهاد فقهي قام به شيخ أزهري “تطاولاً” و”تشكيكاً”، ففي نهاية المطاف لم ينكر الرجل الحد نفسه أو يشكك فيه، ولكنه قدم تفسيراً قد يكون مصيباً أو مخطئاً.

وفي حين أن حال الحريات في مصر عبر تاريخها المعاصر كانت دائماً تتراوح بين السيئ والأسوأ فلم يحدث أن كان المدافعون عن حقوق الإنسان في وضع أسوأ مما هم فيه الآن مع افتقادهم شبه التام لأي حليف داخلي.

 في وقت مضى كان بالإمكان التعويل على قدر من الحماية يوفره قضاء ذو استقلالية نسبية. اليوم تآكل ما كان للقضاء المصري من استقلالية محدودة، وفي الوقت نفسه أصبح معظم القضاة أكثر عداءً للحريات من أي وقت مضى. التعويل على استجابة السلطة لاعتبارات سياسية تتعلق بأطراف خارجية هو على أفضل تقدير، تكتيك هش، ولا يمكن أن يكون استراتيجية دائمة، ومن ثم فبينما ننتظر التوصل إلى حلول جديدة أو تغيرات في تركيبة السلطة الحالية تسمح بوجود حلفاء داخليين جدد، على نصر وآلاف غيره أن يدفعوا أثماناً باهظة لممارسة أحد حقوقهم، أو لكونهم مصريين.

إقرأوا أيضاً: