fbpx

هل يسقط القضاء التونسي في اختبار الاستقلالية؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“يكفي أن نلقي نظرة على التعاطي القضائي مع كبريات القضايا المتعلقة بكبار الفاسدين في مختلف المجالات، حيث لا محاكمات ولا تتبعات تطالهم، لنفهم هنا أن مساعي ترويض القضاء قد نجحت”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تتواصل الأزمة السياسية  في تونس دون مؤشرات انفراجة وشيكة، إذ يطغى التوتر على العلاقة بين الرئيس قيس سعيد والأحزاب الرئيسية في البرلمان وفي مقدمها التحالف الداعم للحكومة برئاسة هشام المشيشي ويضم “حركة النهضة” الاخوانية و”حزب قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة”. 

ومؤخراً، ظهرت مشكلة جديدة لا تقل خطورة ومحورها القضاء. فبعد الكشف عن تورط شخصين هما وكيل للجمهورية بمحكمة تونس الابتدائية ورئيس محكمة التعقيب (أعلى وظيفة في سلك القضاء) في التلاعب بملفات قضائية وسوء استخدام السلطة القضائية وتوظيفها لتحقيق إثراء غير مشروع، قرر مجلس القضاء العدلي إحالة الرجلين إلى مجلس التأديب ووقف تتبعهما قضائيا مقابل إحالة شركائهما من أمنيين ومحامين وكتبة إلى النيابة العمومية. قرار أثار جدلاً كبيراً حتى داخل الجسم القضائي، كما انعكس لدى الرأي العام التونسي مزيداً من التشكيك باستقلالية القضاء ومدى تغلغل أحزاب نافذه في البلاد في المنظومة القضائية.

“عدم إحالة المتورطين من القضاة على النيابة العمومية وعدم إيقافهم عن العمل رغم فداحة التهم وسكوت أعضائه وتطبيعهم مع ثقافة الإفلات من العقاب يؤكد ما سبق أن عبرت عنه من كون القضاء الحلقة الأضعف في محاربة الفساد”

كيف بدأت القضية؟

بدأت القضية منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2020 عندما تبادل البشير العكرمي وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس، والطيب راشد رئيس محكمة التعقيب، تهماً خطيرة أورداها في مراسلات وجهاها إلى التفقدية العامة بوزارة العدل، وإلى وزير العدل، وإلى المجلس الأعلى للقضاء ثم خرجت للعلن عبر وسائل الإعلام.

الطيب راشد اتهم في المراسلات بشير العكرمي بالتلاعب بملف اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي عام 2013، قائلا “العكرمي لم يقم باعتماد شهادة الإرهابي عامر البلعزي الذي اعترف بإتلاف السلاحين الناريين اللذين تم استعمالهما في عمليتي الاغتيال كما تم إخفاء محاضر البحث المتعلقة به”. كذلك حملت المراسلات كشفاً لما قالت إنه تغافل عن اجراء الاختبارات الفنية اللازمة بخصوص جهازي كمبيوتر مرتبطين بعملية الاغتيال. كما اتهم راشد العكرمي بتلفيق التهم لخصومه، والتستر على الجرائم الإرهابية من خلال إغلاق الملفات رغم ثبوت الصبغة الإرهابية لبعض الأفعال كما ورد في المراسلات.

في المقابل اتهم بشير العكرمي الرئيس الأول لمحكمة التعقيب بالفساد المالي، والثراء غير المشروع، وامتلاك ثروة تناهز المليارات من خلال التلاعب بقضايا المواطنين واستغلال سلطته بطريقة غير مشروعة. 

أثار الملف جدلا كبيراً وسلط الأنظار مجدداً على السلك القضائي الذي يخوض اختباراً كبيراً، فإما يلاحق القاضيان رسمياً ويطبق عليهما القانون كما يسري على غيرهما ويثبت للتونسيين أن القضاء يتماثل للشفاء، وإما يتم التلاعب بالملف وتمييعه ما يثبت عدم استقلالية القضاء.   

إقرأوا أيضاً:

بداية جيدة ولكن!

بداية التعامل مع هذه القضية كانت مشجعة وتشي بأن الإجراءات تسير في الطريق الصحيح، إذ قرر مجلس القضاء العدلي بتاريخ 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أن تتعهد النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس بالملف، وتتابع شبهات الجرائم المتعلقة بقضايا شكري بلعيد ومحمد البراهمي، والشبهات المتعلقة بقضايا إرهابية وقضايا الفساد المالي وإعلان النتائج. كما قرر مجلس القضاء العدلي رفع الحصانة عن الرئيس الأول لمحكمة التعقيب الطيب راشد، في ملف واحد من مجموع ثلاثة ملفات.

كانت التكهنات بأن الرجلين سيواجهان عقوبات صارمة قياساً بالجرائم الخطيرة التي تلاحقهما، ولكن ما حدث بعد ذلك كان مفاجئا ومريباً. فقد أعلن مجلس القضاء العدلي في الـ11 من مارس/آذار الجاري عدم إحالة ملف القاضيين إلى النيابة العمومية، والاقتصار على إحالتهما على مجلس التأديب، في حين تمت إحالة شركاء القاضيين من محامين وأمنيين وكتبة إلى النيابة العمومية.  

القرار المفاجئ أعلن عنه بعد تدخل وزيرة العدل بالنيابة ومطالبتها باسترجاع تقرير التفقدية العامة بالوزارة، والرجوع عن قرارات إحالة مجموعة القضاة المتورطين إلى مجلس التأديب، وهو قرار يعني عملياً التمهيد للإفلات من المحاسبة. 

وأمام حالة الدهشة والتنديد الواسع بما جرى، سارعت وزارة العدل لتبرير ما أقدمت عليه بإعلان أن تلك القرارات هدفت الى “التصحيح الشكلي من خلال احترام مبدأ شخصية التتبع وضمان الاطلاع على الملفات التأديبية تجنبا للإلغاء القضائي للقرارات التأديبية لأسباب شكلية”.

قد يبدو هذا المبرر للوهلة الأولى منطقياً، لكن يكفي أن نعود إلى بعض الأحداث المستجدة في نفس التوقيت ليتبين جلياً أن هذا التدخل ليس اعتباطياً، وأن هناك أطرافاً في الحكومة ومحيطها السياسي هي من يتلاعب بهذه القضية. فقبل مراسلة وزيرة العدل بيوم واحد وتحديدا في الـ23 من فبراير/شباط أجابت الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، عن استشارة رئيس الحكومة حول أزمة التحوير الوزاري، وأقرت بوجوب أداء اليمين والتسمية من قبل رئيس الجمهورية رغم إشارتها أن استشارتها غير ملزمة. لتكون بذلك الجهة الوحيدة التي انتصرت لرئيس الحكومة في مسألة التحوير الوزاري على حساب رئاسة الجمهورية، بعد طرق الكثير من الأبواب التي ردت جميعها بعدم اختصاصها في النظر في الإستشارة، والحال أن الطيب راشد هو رئيس هذه الهيئة.

حركة النهضة متهمة من قبل أطراف سياسية عدة ومن قبل هيئات في المجتمع المدني، بالهيمنة على القضاء، وتوظيف بعض القضاة، على غرار بشير العكرمي لتنفيذ اجنداتها.

هذا التزامن بين مراسلة وزيرة العدل وقرار الهيئة لا يبدو تزامناً اعتباطيا، بل يراه كثيرون بأنه اتفاق مسبق بين الجانبين وله أثمانه. فالمشيشي وحلفاؤه السياسيون، وخاصة “حركة النهضة” الاخوانية، يبحثون في ظل الأزمة المستمرة مع الرئاسة عن ورقة ضغط في وجه الرئيس قيس سعيد، لذلك بدت ورقة الطيب راشد أساسية، وطبعا لن يقدم الأخير هذه الخدمة مجانا. لهذا قامت وزيرة العدل بالنيابة ببعث، المراسلة ساعات فقط بعد تقديم الإستشارة. أما العكرمي فهو محسوب منذ البداية على “حركة النهضة” ولن يكون الأمر مثيرا للدهشة إذا ما حاولت حمايته ووقف تتبعه قضائيا في ملفات تعرف أن أصابع الاتهام فيها موجهة إليها.     

وحركة النهضة متهمة من قبل أطراف سياسية عدة ومن قبل هيئات في المجتمع المدني، بالهيمنة على القضاء، وتوظيف بعض القضاة، على غرار بشير العكرمي لتنفيذ اجنداتها. ففي يوليو/تموز 2020 اتهمت هيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي القاضي العكرمي بتعطيل قضية الاغتيالين للتغطية على الغنوشي ومقربين منه. كما تُتهم الحركة بالتلاعب بالترقيات والمناصب والانتدابات في القضاء، خاصة إبان الفترة التي تولى فيها أحد أهم قيادييها نور الدين البحيري وزارة العدل (2013 – 2014). ففي تلك الفترة قام البحيري بفصل 82 قاضياً من حقبة الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، واستبدلهم بقضاة موالين للنهضة، ومنذ تلك الفترة ساد اعتقاد أن القضاء غير مستقل وأنه موجه من جهة سياسية تستفيد منه على أكثر من صعيد.

إقرأوا أيضاً:

خيبة أمل

في تعليقه عن هذه القضية أكد عضو الهيئة المستقلة للاتصال السمعي والبصري (الهايكا)، القاضي عمر الوسلاتي أن مجلس القضاء العدلي خيب آمال الجميع عندما لم يبعد الطيب راشد عن منصبه، كرئيس لمحكمة التعقيب منذ بدء عملية التتبع، ضماناً للمسار الصحيح للقضية، كما اعتبر أن تدخل وزيرة العدل في سير الإجراءات أثار الريبة بشأن أشكال التعاطي مع هذه القضية.

وقال الوسلاتي لـ”درج” “من غير الطبيعي أن يحاكم الرجل وهو على رأس أكبر سلطة قضائية لأن هذه الصفة ستضع الأطراف التي تتولى التحقيق معه تحت الضغط، وبالتالي استحالة التطبيق السليم للإجراءات. وليس من الطبيعي أيضا تدخل وزيرة العدل لسحب تقرير التفقدية لأن هذه المسارات لن تفضي إلا للإقرار بأن القضاء غير مستقل. لقد أكدت القضية الراهنة مجددا أن قانون المجلس الأعلى للقضاء غير دستوري وأنه هيكل مسيس وخاضع للابتزاز الداخلي والخارجي ويحتاج لإعادة النظر على مستوى تركيبته وصلاحياته وخاصة على مستوى المساءلة التي بات جليا مدى هشاشتها وضعفها في ظل غياب نظام مساءلة واضح للقضاة من خارج المنظومة المتحالفة فيما بينها. كما شدد القاضي عمر الوسلاتي على أن القضاء في تونس يخطو خطوات متعثرة منذ الثورة من أجل بناء قضاء مستقل، ولكنه فشل في ظل نجاح محاولات السياسيين في كل الحكومات المتعاقبة في وضع اليد عليه حد تعبيره.   

” المسار الذي يسير على وقعه القضاء التونسي منذ أكثر من عقد لم يكن صحيحا ولم يؤدي لتأسيس قضاء نزيه ومستقل. الجميع اليوم يتخفى وراءه فيرتكبون جرائم وتجاوزات ثم يجدون أنفسهم رغم ذلك بعيدون عن المساءلة والمحاسبة، ويكفي أن نلقي نظرة على التعاطي القضائي مع كبريات القضايا المتعلقة بكبار الفاسدين في مختلف المجالات، حيث لا محاكمات ولا تتبعات تطالهم، لنفهم هنا أن مساعي ترويض القضاء قد نجحت. لن يكون بوسعنا الحديث عن قضاء مستقل فيما تتولى الحكومة دفع أجره، وفيما يفتقد لنظام تقييم كفيل بمنح المسؤوليات بناء على مجموع النقاط والكفاءة فقط، وفيما يفتقر لنظام مساءلة واضح”.  

من جهتها استنكرت منظمة “أنا يقظ”، الجمعة 12 مارس/آذار قرار مجلس القضاء العدلي بعدم إحالة ملف القضاة ومن بينهم الطيب راشد الرئيس والبشير العكرمي على النيابة العمومية والاقتصار على إحالتهم على مجلس التأديب. وشددت المنظمة، في بيان لها على أن “قرار مجلس القضاء العدلي بعدم إحالة المتورطين من القضاة على النيابة العمومية وعدم إيقافهم عن العمل رغم فداحة التهم وسكوت أعضائه وتطبيعهم مع ثقافة الإفلات من العقاب يؤكد ما سبق أن عبرت عنه من كون القضاء الحلقة الأضعف في محاربة الفساد”، مؤكدة أنه “حلقة ينخرها الفساد”.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.