fbpx

“سجناء بزعم الجنون”…
مآسي الصعيد المصري

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الأمل ضئيل في إنقاذ المرضى النفسيين في صعيد مصر، في ظل التكتم الشديد من عائلات المرضى، فيما يعجز الإعلام أو الدولة، عن الوصول إلى هذه الحالات المرضية، حتى وإن تم الكشف عنها…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تقمصت فيكي لاين دور دجاجة في محاولة لتصوير معاناة شابة حبستها والدتها في قفص دجاج لمدة 20 سنة في مدينة كولينا التشيلية. 

لم يكن المشهد المسرحي الذي جسدته الممثلة فيكي لاين على خشبة مسرح السلام عام 2017 في القاهرة، ببعيد من واقع القصص المأساوية التي تعانيها النساء في مصر، وخصوصاً في الصعيد وهوامشه. فبعد 4 أعوام من عرض المسرحية حكت خلود عمر وهي شابة من دمياط قصة تشبه قصة فيكي لاين، فابنة عم خلود، سُجنت في قفص حديدي لسنوات. اختارت العائلة ممارسة هذا العنف البالغ بحق الشابة، باعتباره “حلاً” لمشكلاتها، “كانت مجنونة بنظرهم وخافوا تهرب وحد يستغلها جنسياً” تقول خلود.

كانوا يرددون الاتهامات في وجهها، فتصرخ في وجوههم، تشتبك معهم بالأيدي، تسب أهلها بألفاظ نابية، تصفهم بأنهم حيوانات وقذرون. تطيح بكل شيء في البيت”.

مسجونة في منزلهم منذ ثلاث سنوات

 في قرية “الحرية” في مركز “كوم أمبو”، في محافظة أسوان، تروي منى حسين (اسم مستعار) لـ”درج”، قصة تشبه قصص الدراما الصادمة، والقصة هذه المرة عن صديقتها المقربة نورهان، التي عاشت في كنف عائلة ثرية، لكن انتهى بها الأمر مسجونة بقيود حديدية في منزل العائلة. ونورهان نشأت في أسرة ميسورة، وكان والدها يملك أراضي وأطياناً، لكنه اشتهر بالبخل إلى حد أنه كان يبحث عما تمكن إعادة تدويره في النفايات ليبيعه. هذا الأمر سبب حرجاً لابنته بين صديقاتها في المدرسة الإعدادية، إذ ابتكرت التلميذات أغنية ساخرة من والدها تضيف منى، “توسلت نورهان لأبيها، أن يكف عما يفعل، فتجاهلها، وتصاعدت الأزمة”. 

مر الزمن ولم تتزوج نورهان، وحين تزوجت صديقتها اتهمها البعض بأنها تغار من صديقتها فانزوت وبدأت حالتها تتفاقم مع تصاعد التنمر ضدها، “كانوا يرددون الاتهامات في وجهها، فتصرخ في وجوههم، تشتبك معهم بالأيدي، تسب أهلها بألفاظ نابية، تصفهم بأنهم حيوانات وقذرون. تطيح بكل شيء في البيت”.

لم يكف شقيقاها، والدها، والدتها، عن ضربها، تأديباً لها، ظناً منهم بأنها سيئة الخُلق، ما زادها غضباً وعنفاً، وهي تخوض شجارات في الشارع. تقول منى، “كلما رأوها كانوا ينعتونها بـ(المجنونة أهي، المجنونة أهي)، أنقذتها أنا ووالدتي، مراراً من أيدي عائلتها، جسدها كان يتورم من الضرب، وفشلت جميع محاولاتي في إقناع أفراد عائلتها بأنها تعاني من أزمة نفسية، بعدما استدعوا أحد المشايخ المعالجين بالقرآن، ظناً منهم بأنها ممسوسة من الجن، ومسحورة، لكنه أخبرهم بأنها سليمة، وتحتاج لعلاج نفسي، كما أنها لم تعرف الخصوصية مطلقاً، لم تخصص لها غرفة خاصة في المنزل، قلما تتمتع فتاة بخصوصية في قريتنا”. 

انزوت نورهان أكثر فأكثر، رفضت مقابلة الناس، اختفت، لم يرها أحد سوى صديقتها منى، تصفها قائلة: “كنت أقفز على الجدار الفاصل بيننا وبينهم، لأطمئن عليها، نتكلم قليلاً، في الخفاء، كانت ملابسها بالية، ممزقة، وبعدما علم أهلها، بنوا جداراً عالياً، وحبسوها في حوش المنزل، لم أستطع الوصول إليها منذ ثلاث سنوات، لا يعلم أحد شيئاً عنها إلى هذه اللحظة، وبعدما تدخلت مع عائلتها، متوسلة للذهاب بها إلى طبيب نفسي، كان ردهم: (الموت أفضل لها ولنا، قبل أن يحدث ذلك)، ولا تزال في حبسها، وقد بلغت السادسة والعشرين”.

“توسلت نورهان لأبيها، أن يكف عما يفعل، فتجاهلها، وتصاعدت الأزمة”. 

“دكتور مجانين”

بحكم العادات الصعبة والموروثات التقليدية في مناطق صعيد مصر تبرز النساء كأبرز ضحايا تلك العقلية، وإن كانت المرأة في مصر عموماً معرضة لانتهاك حقوقها أو تشكو من الظلم والتمييز، فالمرأة في الصعيد تعيش واقعاً أكثر صعوبة ومأساوية لجهة الموقع التابع للنساء في الحياة هناك مع معدلات أمية عالية. 

في مناطق الصعيد التي تعاني من الفقر ومن تدني مستوى الخدمات، يعيش الناس حياة قاسية اجتماعياً واقتصادياً. لكن التوترات التي تفرضها الحياة اليومية، يصعب التعامل معها من منظار نفسي أو طبي، إذا دعت الحاجة بسبب انتشار الوصم الاجتماعي لمن يحاول الاستعانة بمساعدة محترفة. ففي هذه الأوساط الريفية يتم التعامل مع زيارة الطبيب النفسي بمثابة عار وفضيحة. فمن الشائع أن يوصف الطبيب النفسي بـ”دكتور المجانين”. هذا الواقع ساهم في أن يكون عدد الأطباء النفسيين محدوداً. 

 تقول منى: “قلما تجد طبيباً نفسياً في أسوان، والوحيد الذي يدخل قريتنا، طبيب نفسي من السودان، يتحايل على الناس، بأنه شيخ، كي يتسنى له مساعدتهم، ولا يعرف أحد إلى هذه اللحظة بأمره، أنا الوحيدة التي اكتشفت الأمر، وأخشى أن ينكشف سره، بخاصة أنه يساعد على علاج حالات كثيرة من الشباب المدمن والاضطرابات النفسية، ويحظى بالقبول من الجميع، يحبونه للغاية، ويتجاوبون معه”. 

تستعيد منى حكاية شقيقتها لـ”درج”، التي أصيبت بالصرع، حين كانت تدرس في كلية اللغات والترجمة في جامعة الأزهر- القاهرة، ففي البداية زارهم أحد المشايخ، ظناً من العائلة أنها ممسوسة من الجن، وتكررت الزيارات، وتدهورت حالة شقيقتها، فاضطرت منى للبحث خفية، من دون علم أهلها، عن طبيب نفسي، وتوصلت إلى الطبيب السوداني، وزارهم في المنزل، وأوهمهم أنه شيخ له باعه في هذه الحالات، لكن منى أدركت حيلته، وبدأت تتردد بشقيقتها على عيادته، فتحسنت حالتها نسبياً، وكانت تنتظر جلساته النفسية، لكن أهلها كانوا يرفضون العلاج بالأدوية، فمنعوها من استكمال العلاج، خوفاً من العار والفضيحة.

إقرأوا أيضاً:

شقيقة منى قبل اكتشاف إصابتها بالصرع النفسي، كانت في انتظار خطبتها من ابن عمها، بعد قصة حب دامت سنوات، لكنه نكث بوعده بعد علمه بمرضها، وتحجج بظروفه المادية، لكن العائلة فوجئت بخطبته لفتاة أخرى بعد أسبوع من اعتذاره، فساءت حالة شقيقة منى، وتدهورت للغاية. 

تقول منى: “وصلت شقيقتي هذا العام، لسن الـ40، عائلتي لم تفهم ما تعانيه إلى هذه اللحظة، أحارب بمفردي، بخاصة أنها دخلت في مراحل خطرة، تعاني من نوبات هلوسة، وساوس قهرية، تظن أننا نكيل لها شراً، حتى محاولاتي في التودد لها، تبوء بالفشل، تظن أنني أدبر لها أمراً. حاولت الانتحار مرات عدة، ألقت بنفسها أمام القطار، ونجت بأعجوبة، أغرقت جسدها بالبنزين، وأنقذها شقيقي في صالة المنزل، قبل أن تضرم النار. تكره سيدات القرية، بخاصة أنهنّ ينادينها (المجنونة) كلما رأينها، زيارتي الأخيرة إلى متخصص في المخ والأعصاب كانت مخيبة، نتائج الأشعة والفحوص أثبتت أنها في مراحل المرض الأخيرة، خلايا المخ تتلف تدريجاً، وستتدهور حالتها إلى الخرف الذهني”. 

“فشل في اصطياد جنيّة فسحرته” 

إبراهيم مرعي (40 سنة)، يعاني منذ 20 سنة، من اضطرابات نفسية، يروي صديقه المقرب “حسن” (اسم مستعار) لـ”درج”، قصته: “كنا صيادين، مهنتنا الوحيدة. أحب فتاة بشدة، وبعدما تقدم لخطبتها، كانت الصدمة قوية للغاية، بعدما أهانه والدها، قائلاً (إنت مش لاقي تاكل، لما تعرف تأكِّل نفسك أبقى تزوج)، صُدم إبراهيم، وفي اليوم التالي خرج للصيد بمفرده، عاد شخصاً آخر، يردد كلمات غير مفهومة، لم نفهم ما حدث”. 

حاولت الفتاة مناقشة والدها بشأن قصتها مع ابراهيم، فكان أن زوّجها خلال أسبوع من رجل آخر. انعزل إبراهيم عن الناس، امتنع عن الطعام والشراب لأيام، اشتبك مع أفراد عائلته بالأيدي، اعتدى عليهم، حطم منزلهم وحاول إحراقه مراراً، ما دفع عائلته إلى زيارة مشايخ، مقابل 100 جنيه في الجلسة الواحدة، إضافة إلى ما قد يطلبه هؤلاء إرضاء للجن أو “الأسياد”. يقول حسن: “فشلت كل محاولات إقناع الأهل بأن إبراهيم يعاني من أزمة نفسية، واجهوا كل المحاولات بالغضب والخوف من العار والفضيحة، في الوقت الذي تدهور إدراكه. انفصل عن الواقع، يمضي كل يومه أمام بيت تلك الفتاة، لا يزال حتى هذه اللحظة يسأل عنها، هل تزوجت؟ كلما حاولنا إبعاده من منزلها، يعود، ويحاول أكثر من مرة إيذاء عائلته، بخاصة والدته، يمشي هائماً في شوارع القرية، يحدّث نفسه”. 

لا تزال عائلة إبراهيم بعد مرور 18 سنة، مقتنعة بأن ابنها حاول اصطياد جنيّة من البحر، فمسته وسحرته، فأصيب بالخبل، وفقد عقله، حتى حالات هياجه العصبي وصراخه، يرجعونها إلى محاولات تلك الجنيّة أخذه رغماً عنه إلى باطن الأرض. 

“فشلت كل محاولات إقناع الأهل بأن إبراهيم يعاني من أزمة نفسية، واجهوا كل المحاولات بالغضب والخوف من العار والفضيحة، في الوقت الذي تدهور إدراكه.”

الصعيد المكلوم

الطبيبة والمعالجة النفسية، نشوى صلاح، توضح لـ”درج”، أن الصعيد يعاني منذ سنوات من أزمة في التعامل مع المرض النفسي، إذ تراه عائلات كثيرة وصمة وعاراً. تضاعف من صعوبة الأمر التركيبة التقليدية للمجتمع الصعيدي الذي يجعل من العائلة وسطوتها مرجعية متحكمة، فمثلاً من الشائع إجبار الأبناء على زيارة المشايخ، إيماناً بمعتقدات تفسر كل أزمة نفسية بوصفها مساً وجنوناً. 

وتجزم صلاح، أن الأمل ضئيل في إنقاذ المرضى النفسيين في صعيد مصر، في ظل التكتم الشديد من عائلات المرضى، فيما يعجز الإعلام أو الدولة، عن الوصول إلى هذه الحالات المرضية، حتى وإن تم الكشف عنها، فستتعطل الحلول، بسبب الأعراف والتقاليد في الصعيد، حيث يعتبر ذلك عاراً وفضيحة أخلاقية. 

وترجع الأزمة كلها أساساً، إلى الآباء، والعُمد، ومشايخ القرى، وكبار العائلات، الذين يتغافلون عن هؤلاء الذين يعانون نفسياً، ولا يحاولون إنقاذهم، فيُترك هؤلاء من دون مساعدة، فريسة للاضطرابات والأمراض النفسية التي تتفاقم بمرور الزمن. 

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.