fbpx

من يعرف نوال؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كانت حياة نوال في حد ذاتها هي المانيفستو الذي عبرت عنه روائياً وأطرته نظرياً، وجسدته بشخصها، جعلت منه امرأة من لحم ودم، تدفع ثمنه بالعزل من الوظيفة…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ربما كانت الصفة الأكثر تعبيراً عنها هي “مثيرة الجدل”. في عمرها الذي امتد  تسعين سنة، أثارت نوال السعداوي، النسوية المصرية الأكثر شهرة، كثيراً من الجدل. ولم يختلف الأمر كثيراً عند وفاتها. المعركة الصاخبة على مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الصحافية والجرائد الورقية بين من يحبون نوال حتى التقديس، وبين من يمقتونها حتى الشيطنة، لم تهدأ بعد. بالنسبة إلى البعض يبدو هذا مشهداً مكرراً.

  شهدت السنوات الأخيرة، ونتيجة للاستقطاب الكبير للمجتمع المصري، الذي أحدثته ثورة يناير 2011 وما أعقبها من أحداث، وخصوصاً تظاهرات 30 حزيران/ يونيو ثم انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013، هي محور الجدل حول تقييم الأطراف المختلفة.

بارك  مثقفون مصريون بارزون انقلاب يوليو وإسقاط حكم محمد مرسي الرئيس المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، وبرر كثيرون أو صمتوا تجاه مذبحة رابعة الدموية، ثم أيدوا حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهو ما ينطوي ضمناً على قبول الممارسات القمعية وانتهاكات حقوق الإنسان غير المسبوقة، والتي ما زالت مستمرة في عهده. ووضعت هذه المواقف تاريخ من رحل من المثقفين وقيمتهم الثقافية على المحك، وفي حالات كثيرة كانت مبرراً لمحو ما كان لهم من إنجازات ومكانة سابقة، واختزال تاريخهم في السنوات الأخيرة من أعمارهم، وتحديداً في الموقف من الثورة ومن الانقلاب. وينبغي الاعتراف أنه في بعض الحالات، كانت إعادة التقييم لمكانة مثقف كبير كاشفة لمبالغة سابقة في تقدير إنجازاته، أو على الأقل أوضحت سطحية الاستنتاجات التي بناها البعض على أساس مواقف هذا المثقف المعارضة لنظام مبارك.

في حالة نوال السعداوي، المؤمنون بالثورة يمكنهم أن يروا أنها خذلت مبادئها وتخلت عنها، تماماً كما رأوا غيرها من المثقفين المؤيدين للثورة المضادة. بإمكان البعض بالتأكيد التشكيك في قيمة منجزها الفكري والعملي، وتسطيح افتراضات آمن بها المعجبون بها، قبل أن تكشف مواقفها الأخيرة عن خطأ هذه الافتراضات. ولكن، هل ينبغي أن نتوقف عند هذا الحد؟ ثمة أمر مختلف في ما يخص نوال. حجم الكراهية المنعكس في طوفان تعبيرات الفرح والشماتة، كان بالتأكيد أكبر كثيراً من جميع الحالات السابقة. في المقابل كان حجم الامتنان والتقدير لتاريخ السعداوي ومنجزها أكبر، والمدافعون عنها أعلى صوتاً من المدافعين عن غيرها. فأي استثناء تمثله؟

من الذي لا يحب نوال؟

الخطوط المعتادة للمعارك حول الراحلين الكبار في السنوات الأخيرة كانت في أغلبها سياسية بوضوح وتدور حول الموقف المعلن للراحل من ثلاث أحداث رئيسية؛ حدث الثورة نفسه؛ تظاهرات 30 يونيو والإطاحة بالرئيس محمد مرسي؛ ومذبحة ميدان رابعة العدوية. الخط الذي ترسمه هذه الأحداث الكبرى يفصل بوضوح بين مؤيدي النظام الحالي ومعارضيه. على كل جانب منه هناك أطراف شديدو التباين إلى حد أنه في الواقع لا شيء يجمع بينهم إلا وجودهم على جانب واحد من الخط ذاته. فمؤيدو النظام بينهم سلفيو “حزب النور” وشيوعيو “حزب التجمع” وأعداد من الناصريين، إضافة إلى ليبراليين كثر. أما معارضوه فمنهم ذلك الخليط غير المتجانس الذي لا يزال البعض يدعوه بالثوار، ومنهم الإخوان المسلمون بالطبع وأعداد من الإسلاميين، ثم أعداد أخرى من الليبراليين. جميع هؤلاء على جانبي الخط الفاصل هم المسيسون بقدر أو بآخر، النشطاء في التعبير عن مواقفهم في الفراغ العام الذي أصبحت ساحاته الرئيسية هي مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، ولم تعد وسائل الإعلام التقليدية المقروءة والمرئية في معظم الأحيان أكثر من امتداد لهذه الساحات تردد أصداء ما يدور فيها.

ولكن هؤلاء المسيسين بوضوح يتعايشون في ساحات شبكات التواصل الاجتماعي مع غالبية ضخمة من الأفراد الذين تناقص اهتمامهم بالسياسة منذ الذروة التي وصل إليها في الأعوام من 2011 إلى 2013، فأصبح اليوم محدوداً بالقضايا ذات الأثر الاجتماعي أكثر من غيرها وبالقضايا التي يشكل الدين بصفة خاصة جانباً هاماً منها. وهؤلاء لا يشتبكون في المعارك حول تراث ومواقف الراحلين من المثقفين البارزين. في الواقع أغلبهم بالكاد سمع بأي من هؤلاء المثقفين إلا إن كانت شهرتهم طاغية.

في حالة نوال السعداوي، المؤمنون بالثورة يمكنهم أن يروا أنها خذلت مبادئها وتخلت عنها، تماماً كما رأوا غيرها من المثقفين المؤيدين للثورة المضادة.

 في الحالة الاستثنائية لنوال السعداوي مقارنة بالراحلين البارزين سابقاً، هو انخراط هذه الغالبية غير المهتمة  في المعركة حول تراث نوال بعد رحيلها. ولنضع أكثر من خط تحت كلمة تراث. فالغالبية العظمى من هؤلاء ليسوا معنيين بمواقف نوال السياسية القديمة أو الحديثة طالما لم تتعلق بالمرأة والدين.

الذين حرصوا على التذكير بمواقف نوال التي من خلالها خذلت الثورة، وتخلت عن بعض مبادئها الحقوقية، وعن مواقفها المعارضة للأنظمة القمعية كانوا تحديداً من الثوار باختلاف أطيافهم. منتسبو جماعة الإخوان أيضاً استخدموا هذه المواقف، ولكن لم يمكنهم كما عادتهم ألا يعتبروها موجهة ضدهم وحدهم، وتعبيراً عن عداء نوال للإسلام. إلى هنا يظل هؤلاء على الجانب المعتاد من الخط الفاصل.

هذه المرة خرجت عن هذا الصف المعتاد أعداد كبيرة من الثوار بمختلف أطيافهم أيضاً. هؤلاء اعترفوا بأن مواقف نوال من الثورة المضادة كانت بالتأكيد مخزية، ولكن تلك المواقف في رأيهم ليست كافية لمحو كامل تراثها النسوي والحقوقي. والمثير للاهتمام أن كثيرين على الجانب الآخر للخط المعتاد من مؤيدي نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي قد اتفقوا بصورة عكسية مع هذا الرأي. فمواقف نوال المؤيدة لهذا النظام لم تشفع لها عندهم، ولم تكن كافية لمحو ما اعتبروه عدوانها طيلة حياتها على قدسية الدين وقيم المجتمع والأسرة. مع هؤلاء كانت الغالبية الكاسحة من أصوات غير المسيسين والذين لم يلقوا بالاً بأي حال لمواقف نوال السياسية واهتموا فحسب بصورتها كنسوية معادية للدين ومحرضة على انفلات النساء وخروجهن عن الدور الذي حدده لهن الشرع والعرف وتقاليد المجتمع.

عن الأثر والقيمة

بعض الأصوات المعتدلة، اختار أصحابها ألا ينغمسوا في المعركة بانحياز كامل أو واضح لأي من طرفيها. هؤلاء خففوا من غلو المدح والتقدير لقيمة نوال السعداوي وأثرها، وفي الوقت نفسه رفضوا اختزالها في مواقفها السياسية في آخر حياتها. وفي واقع الأمر تقدم هذه الأصوات، من دون وعي منها، مفتاح فهم الاستثناء الذي تمثله نوال السعداوي. ففي الحقيقة ليس الأثر والقيمة هما الشيء وحده وليس أحدهما هو انعكاس بسيط للآخر. 

يمكن الاتفاق مع ما ساقته هذه الأصوات المعتدلة من أن نوال لم تكن روائية عظيمة، فأعمالها الروائية يمكن البعض تقييمها بين المتوسط والضئيل من حيث القيمة الأدبية. ليست نوال أيضاً منظرة نسوية مهمة، بخاصة إن وضعنا في الاعتبار أنها تنتمي إلى الموجة النسوية الثانية التي تجاوزتها النظرية والممارسة النسوية في موجتها الثالثة (والبعض يضيف الرابعة) حالياً. نطاق اهتمام نوال في أعمالها لم يتسع لتلك المساحة التي تمددت فيها النظرية النسوية، كما أن بعض آرائها قد تراه نسويات معاصرات محافظاً أو قديماً. ولكن إن سلمنا بأن نوال بمعايير الاختصاص في الإنتاج الأدبي أو في التنظير النسوي ليست لها قيمة آخرين وأخريات، فإن أثرها الباقي أمر آخر.

معظم من قرأ لنوال (وهم أقل كثيراً ممن اهتموا بالتعبير عن موقفهم منها)، لم تكن أعمالها الأدبية بالنسبة إليهن كغيرها، ومن ثم فلم تفكر معظمهن في تقييمها مقارنة مثلاً بأعمال نجيب محفوظ أو يوسف إدريس أو غيرهما. أعمال نوال الأدبية كانت أشبه بالمانيفستو السياسي، إعلام للعالم بموقف منه؛ موقف المرأة الرافضة قمع المجتمع استقلال إرادتها وحقها في الاختيار ولجنسانيتها. أما كتاباتها النظرية فلم يكن أي منها بحثاً في إطار النظرية النسوية بقدر ما كان إطارا نظرياً للمانيفستو السياسي نفسه. اللواتي قرأن لنوال يجمع أكثرهن على أنها فتحت أعينهن على عالم مختلف من الأفكار، لم تقل أي منهن أن براعتها الأدبية أسرتها أو أن عمق أفكارها النسوية شكل عقلها، في الواقع أكثرهن تجاوزن نوال وإن لم يتجاوز أكثرهن شعور الامتنان لها. وهؤلاء قرأن لنوال عملاً آخر هو في الحقيقة أهم أعمالها على الإطلاق، حياتها الصاخبة، بما خاضته فيها من معارك، وبما أثارته خلالها من جدل يتجدد مع الوقت. 

بالنسبة إلى من وجدن في نوال نموذجهن الذي يقتدين به، كانت حياة نوال في حد ذاتها هي المانيفستو الذي عبرت عنه روائياً وأطرته نظرياً، وجسدته بشخصها، جعلت منه امرأة من لحم ودم، تدفع ثمنه بالعزل من الوظيفة، بمواجهة دعاوى الردة والتفريق عن زوجها، وبتلقي السخرية المريرة وخطاب كراهية متزايد رافقاها طيلة مسيرتها.

إن مسحاً عابراً وعشوائياً لما نشره الآلاف تعليقاً على وفاة نوال السعداوي سيخرج بنتيجة واضحة، فالغالبية العظمى من هذه التعليقات كانت تدور حول ما إذا ماتت على الإسلام أم ماتت كافرة، وهل مصيرها هو الجنة أم النار، وهل يجوز الترحم عليها أم أنه حرام، وهل يؤجر من يحتفي بموتها ويشمت فيه كونها من رؤوس الكفر؟ الغالبية الساحقة من هؤلاء لم يقرأ أحدهم كتاباً أو رواية أو حتى مقالاً لها. ربما لم يتح لأغلبهم حتى أن يشاهد أكثر من نصف دقيقة مقتطعة من حوار أو مناظرة تلفزيونية لها. ومع ذلك فهم مقبلون بحماسة ويقين واضحين على لعنها والحكم بأنها لا محالة تلقى عذاباً تستحقه في قبرها الآن، وذلك لأنهم قد تربوا على التصديق في أنها من أعداء الدين. وهذا كل ما يعنيهم أن يعرفوه عنها، أو عن أي شخص آخر. بالنسبة إليهم ذلك يختزل كونها نسوية أو مدافعة عن حقوق الإنسان، فكلا الأمرين من ساحات محاربة الإسلام كما قيل لهم.

من يجعل همه هو تقييم مواقف نوال السياسية، بقدر ما كانت حقاً مخزية في تخليها عن مبادئ الحقوق والحريات، يعميه ذلك عن حقيقة أن ثمة معركة قد تكون أكثر أهمية من محاسبة الذين أجرموا في مواقفهم السياسية، وهي معركة حول معايير التقييم والتصنيف التي من خلالها تتحدد أولويات المجتمع وتوجهاته التي تحكم مصير معظم قضاياه. لقد غادرتنا نوال بينما يُناقش تعديل بالقانون يهدف إلى تغليظ عقوبة ختان الإناث، والذي كان قضيتها الأكثر بروزاً في وقت لم يتصور فيه أحد أن يتحول ختان الإناث من “مكرمة” إلى جريمة. ولكن في المقابل سُحبت مسودة مشروع قانون الأحوال الشخصية سيئة السمعة، لا لإعادة النظر فيها من خلال حوار مجتمعي متوازن، وبالتأكيد ليس للنظر في إمكان أن يصدر قانون مدني كما يطالب كثيرون، ولكن ليترك المجال للمؤسسة الدينية، الأزهر، لطرح قانون بديل. هكذا تحكم معايير التقييم السائدة اليوم بمزيد من التديين للقوانين، وهكذا نخسر معاركنا المقبلة الأحق بالاهتمام.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.