fbpx

الصراع من أجل الليبراليّة في أوروبا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تيموثي غارتون آش بين أكثر ما نتذكّره من عناوين الكتب التي صدرت باللغة الإنكليزيّة “الموت الغريب لإنكلترا الليبراليّة”. فهل نحن نشهد اليوم الموت الغريب لأوروبا الليبراليّة؟ ففيما تستولي الشعبويّة المناهضة لليبراليّة على قلب أوروبا، مهدّدةً حتّى العرش الذي تتربّع عليه المستشارة الألمانيّة أنغيلا ميركل، فإنّ الخطر يقيم في مكان واضح: هناك خطّ سياسيّ جديد يقسم أوروبا هو، على الأقلّ، في أهميّة ذاك القديم بين اليسار واليمين. إنّه يشطر الأحزاب القائمة ويطرح أحزاباً جديدة. وهو يفتح جبهات جديدة بين الأمم، فضلاً عن الأحزاب. من جهة، هناك معسكر ميركرون (ميركل – ماكرون)، ومن أخرى، معسكر أوربفيني (أوربان – سالفيني). المعركة بين الميركرونيّين والأوربفينيّين ستشكّل السياسات الأوروبيّة في السنة المقبلة. ذاك أنّه على رغم كلّ الخلافات المهمّة بين ميركل وإيمانويل ماكرون حول قضايا كمنطقة اليورو، فالإثنان يحبّذان الحلول الليبراليّة الأوروبيّة التي ترتكز على التعاون الأمميّ، داخل الاتّحاد الأوروبيّ وكونيّاً. لهذا فهما يشكّلان ميركرون. وبغضّ النظر عن سائر الخلافات بين القائد الهنغاريّ فيكتور أوربان ونائب رئيس الحكومة الإيطاليّ والشعبويّ ماتّيو سالفيني، فالاثنان يزكّيان حلولاً قوميّة وغير ليبراليّة تبحث عن أكباش محارق وتستبعد أو تطرد من يُعرّفون إثنيّاً أو ثقافيّاً بـ “الآخر”. لهذا هما يشكّلان أوربفيني. رئيس حكومة إسبانيا الاشتراكيّ بيدرو سانشيز ورئيس المجلس الأوروبيّ دونالد تَسك ينتميان على نحو واضح إلى معسكر ميركرون، بينما…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تيموثي غارتون آش

بين أكثر ما نتذكّره من عناوين الكتب التي صدرت باللغة الإنكليزيّة “الموت الغريب لإنكلترا الليبراليّة”. فهل نحن نشهد اليوم الموت الغريب لأوروبا الليبراليّة؟ ففيما تستولي الشعبويّة المناهضة لليبراليّة على قلب أوروبا، مهدّدةً حتّى العرش الذي تتربّع عليه المستشارة الألمانيّة أنغيلا ميركل، فإنّ الخطر يقيم في مكان واضح: هناك خطّ سياسيّ جديد يقسم أوروبا هو، على الأقلّ، في أهميّة ذاك القديم بين اليسار واليمين. إنّه يشطر الأحزاب القائمة ويطرح أحزاباً جديدة. وهو يفتح جبهات جديدة بين الأمم، فضلاً عن الأحزاب. من جهة، هناك معسكر ميركرون (ميركل – ماكرون)، ومن أخرى، معسكر أوربفيني (أوربان – سالفيني).

المعركة بين الميركرونيّين والأوربفينيّين ستشكّل السياسات الأوروبيّة في السنة المقبلة.

ذاك أنّه على رغم كلّ الخلافات المهمّة بين ميركل وإيمانويل ماكرون حول قضايا كمنطقة اليورو، فالإثنان يحبّذان الحلول الليبراليّة الأوروبيّة التي ترتكز على التعاون الأمميّ، داخل الاتّحاد الأوروبيّ وكونيّاً. لهذا فهما يشكّلان ميركرون. وبغضّ النظر عن سائر الخلافات بين القائد الهنغاريّ فيكتور أوربان ونائب رئيس الحكومة الإيطاليّ والشعبويّ ماتّيو سالفيني، فالاثنان يزكّيان حلولاً قوميّة وغير ليبراليّة تبحث عن أكباش محارق وتستبعد أو تطرد من يُعرّفون إثنيّاً أو ثقافيّاً بـ “الآخر”. لهذا هما يشكّلان أوربفيني. رئيس حكومة إسبانيا الاشتراكيّ بيدرو سانشيز ورئيس المجلس الأوروبيّ دونالد تَسك ينتميان على نحو واضح إلى معسكر ميركرون، بينما الاتّحاد المسيحيّ الاجتماعيّ البافاريّ وحزب الحرّيّة النمسويّ وحزب القانون والعدالة بقيادة جاروسلو كاشينسكي في بولندا، وبعض دعاة بريكزيت (وليس كلّهم) ينضوون في خانة أوربفيني.

والمعركة بين الميركرونيّين والأوربفينيّين ستشكّل السياسات الأوروبيّة في السنة المقبلة. وإذ يتأهّل السياسيّون للانتخابات الأوروبيّة صيف 2019، فإنّ التكتّل الحزبيّ الأكبر في البرلمان الأوروبيّ، وهو حزب الشعب الأوروبيّ، يتقرّب بكلّ إصرار من حزب فيديش بقيادة أوربان، وهو أبدى بعض حركات التودّد إلى حزب العدالة والتنمية البولنديّ خوفاً من أن يشكّل معسكر أوربفيني إئتلافاً جديداً ينافسه. وبتلاعبه على اسمه الحزبيّ، العصبة، يهدّد سالفيني بـ “عصبة عُصُب أوروبا”. لقد مضى وقت طويل لم نعهد فيه انتخابات أوروبيّة صعبة التوقّع كهذه.

هذا لا يعني أنّ كافّة التشقّقات داخل الاتّحاد الأوروبيّ تتموضع على نحو قاطع في النزاع الميركرونيّ – الأوربفيني. فالخلافات حول منطقة اليورو والميزانيّة الأوروبيّة القادمة مثلاً إنّما تنهض على خطوط وطنيّة أكثر منها سياسيّة. أمّا بريكزيت فتضع 27 بلداً في مواجهة بلد واحد. بيد أنّه في ما خصّ الطريقة التي تنعكس فيها السياسات الوطنيّة الديمقراطيّة على السياسات الأوروبيّة، يبقى النزاع الميركرونيّ – الأوربفيني هو الموضوع الجديد.

راهناً، من الواضح أنّ فريق أوربفيني يتقدّم. فريق ميركرون يبدو متعباً كفريقي ألمانيا وإسبانيا لكرة القدم في مباريات كأس العالم اللذين يجهدان للتقيّد باللعبة من غير أن يحقّقا أيّ فوز. مستقبل ميركل نفسه غير مضمون، فيما يصبح مستشار النمسا سيباستيان كورز لاعباً أساسيّاً وهو ينحاز اليوم إلى أوربفيني.

موضوع الهجرة، الذي حوله يجمع معسكر أوربفيني مؤيّديه، هو في الآن نفسه حقيقيّ ورمزيّ. فبسبب التسمية الدقيقة التي أطلقها المطرب الشعبيّ المنشقّ ولف بيرمانّ، “خطأ ميركل الرائع” في 2015، فإنّ عدداً كبيراً جدّاً من اللاجئين وصل إلى ألمانيا في فترة زمنيّة قصيرة جدّاً، وأكثر من مليوني أوروبيّ شرقيّ جاؤوا إلى بريطانيا بعد توسيع الاتّحاد الأوروبيّ في 2004، وكان لهموم فعليّة تطال الإسكان والعمالة والرعاية الصحّيّة والمدارس أن ساهمت في التصويت لبريكزيت. أمّا إيطاليا وإسبانيا واليونان فتمضي في صراع جدّيّ للتكيّف مع وصول أعداد كبرى من اللاجئين والمهاجرين سواء بسواء، ممّن يجازفون بالموت في مياه المتوسّط، بينما لا تحظى تلك البلدان إلاّ بقليل العون من شركائها الأوروبيّين الشماليّين. لكنّ الهجرة [أيضاً] موضوع رمزيّ يستقطب الهموم المتعلّقة بالهجرة والهويّة استقطاباً مغنطيسيّاً. لقد هبطت مستويات الهجرة غير المسيطَر عليها إلى الاتّحاد الأوروبيّ هبوطاً دراميّاً منذ 2015، لكنّ هذا لا يهدّىء مشاعر الناس في ما يتعلّق بالتغيّرات التي تعرّضت لها بلدانهم. ففي استقصاء للرأي أجرته مؤسّسة بيرتلسمانّ في 2017، وافق معدّل وسطيّ عريض يبلغ 50 بالمئة ممّن سئلوا على عبارة تقول: “هناك عدد كبير جدّاً من الأجانب في بلدنا، بحيث أنّني أحياناً أشعر بأنّني أجنبيّ”. هذا الرقم ارتفع إلى 71 بالمئة في إيطاليا.

لقد جادل جورج دانجرفيلد، مؤلّف “الموت الغريب لإنكلترا الليبراليّة”، بأنّ الليبراليّين تراجعوا في إنكلترا مطالع القرن العشرين لأنّهم فشلوا في تقديم استجابة لقوى كبيرة وجديدة، بما فيها حركة الاقتراع الشامل للنساء والحركة العمّاليّة والقوميّة الإيرلنديّة. وبعد مئة عام تبدو أزمة أوروبا الليبراليّة ناجمة أساساً عن قوى خلقتها الليبراليّة نفسها. فاللبرلة [الاقتصاديّة] والأورَبة والعولمة أنتجت مجتمعةً تغيّراً سريعاً ومنظوراً في المجتمعات الأوروبيّة. ولكثيرين، تبدّى هذا كأنّه تغيّر نحو الأسوأ.

سيكون على أوروبا الليبراليّة أن تجد طرقها لمخاطبة تلك الحاجات العاطفيّة العميقة للجماعة [الوطنيّة] والهويّة ممّا يستغلّه الشعبويّون.

وباستغلالهم هذه التذمّرات، يُخبرنا الشعبويّون قصّة مبسّطة عن أنّ إنقاذ الجسر الوطنيّ الذي يغرق و”السيطرة مجدّداً على الوضع” سيؤدّيان إلى استعادة ماضٍ ذهبيّ متخيّل يقوم على فرص عمل جيّدة وعائلات سعيدة وجماعة وطنيّة أكثر تقليديّة. في غضون ذلك، فإنّ الثورة الرقميّة، التي تتطوّر الآن عبر تلقين الآلات للوصول إلى الذكاء الاصطناعيّ، تعني أنّه سيكون هناك مزيد من التغيّر الذي يُحدث بدوره المزيد من القطع [مع الماضي] وعدم الأمان، لا سيّما في مكان العمل.

إنّ القتال الأوروبيّ لاستعادة المواقع في أوروبا مواجَهٌ الآن بلائحة مدهشة من المهامّ. فلسوف يكون صعباً بما فيه الكفاية العثور على إجابات عقلانيّة وعمليّة عن المشكلات الفعليّة لعدم المساواة وعدم الأمان. ونحن الآن في بدايات الاشتغال على هذه الإجابات، كما أنّنا نواجه أهدافاً سريعة التحوّل بسببٍ من وتائر الثورة الرقميّة. فالسياسات الراديكاليّة، كتوفير مداخيل أوّليّة مضمونة للجميع أو توفير ضمانات للعمالة، سوف تكون مطلوبة. وحتّى لو ظهر لدينا جون ماينارد كينز جديد، فإنّ الانتقال من العمل الفكريّ لكينز إلى وضع برنامج يكسب الانتخابات لحزب عمّالٍ يقوده كليمنت أتلي أمر يستغرق وقتاً.

أبعد من هذا، سيكون على أوروبا الليبراليّة أن تجد طرقها لمخاطبة تلك الحاجات العاطفيّة العميقة للجماعة [الوطنيّة] والهويّة ممّا يستغلّه الشعبويّون. وكما نستطيع أن نرى في أيّ حشد من حشود مباريات كأس العالم في كرة القدم، لا تزال الهويّة القوميّة مصدراً لا يُجارى للعواطف والولاءات. ولسوف يكون من الوهم، في المستقبل المنظور، أن نعتقد بأنّ أيّة هويّة عابرة للقوميّة أو فوق – قوميّة تستطيع أن تنافس الهويّة القوميّة. وإذ نفعل كلّ ما نستطيعه لتعزيز هويّة أوروبيّة مشتركة، وبالتالي هويّة كونيّة (وهي، بمعنى ما، ما يمثّله أيضاً كأس العالم)، فإنّنا لا نستطيع أن نترك الأمّة للقوميّين. ومن أجل أن نكمّل الأوروبيّة والأمميّة، فإنّنا سنكون محتاجين لوطنيّة إيجابيّة ومدنيّة من النوع الذي يطرحه ماكرون في فرنسا. بعد ذاك ينبغي جمع هذه البنود جميعاً في برنامج يستطيع تحقيق كسب انتخابيّ، ثمّ هناك الحزب الذي يكسب الانتخابات بهذا البرنامج. بيد أنّنا لا نملك الكثير من هذه الأحزاب أيضاً، وماكرون، بحركته الجمهوريّة إلى الأمام، هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة.

لقد خسر الليبراليّون في كلّ مكان أمام تيّارات أقلّ ليبراليّة في أحزاب المتن العريض، أكانت من يسار الوسط أو من يمين الوسط، بما في ذلك العمّال والمحافظون البريطانيّون. وبدورها فأحزاب يمين الوسط لم تحتفظ بالسلطة إلاّ عبر ممالأة المقاربات اللاليبراليّة لشركاء ائتلافاتها من الشعبويّين، كما كانت الحال في النمسا وهولندا.

وهذا جميعاً يقودني إلى الاستنتاج بأنّ قتال أوروبا الليبراليّة لاستعادة المواقع سوف يستلزم سنوات قليلة. فالأوضاع يُرجّح أن تزداد سوءاً قبل أن تتحسّن مع إحراز أوربفيني مزيداً من الأهداف وحصول مزيد من الانتكاسات لميركورن. لكنْ لا، أنا لا أظنّ أنّنا نشهد الموت الغريب لأوروبا الليبراليّة، إلاّ أنّ علينا أن نجهّز أنفسنا لمعركة تعافٍ مديدة وقاسية.

 

هذا المقال ترجمته ياسمين ابراهيم عن موقع the observer ولقراءة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي