fbpx

“اختفاء السيدة”: عن احتجاب النساء المتقدمات في السنّ عن الظهور

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“عندما بدأت أرسم على جسدي، صرت أنا واللون شيئاً واحداً، ولم يعد هناك ما يفصلنا… إن تجربة الانسجام هذه بيننا وبين العالم من حولنا، هي تجربة تنعم بالرفاه؛ وتولد شعوراً بالترابط مع كل ما نتواصل معه”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في فيلم “اختفاء السيدة” الذي أخرجه “ألفريد هيتشكوك” عام 1938، تشعر سيدة في مقتبل العمر بالريبة من اختفاء سيدة أكبر سناً بشكل مفاجئ، كانت مربيّة ومدرسة موسيقى. يرى المشاهدون السيدة “العانس” للمرة الأولى، بينما تكتب حروف اسمها على تكاثف بخار الماء على زجاج إحدى نوافذ القطار، ثم تتبخر الحروف على الفور. تختفي السيدة في غضون دقائق، ويدّعي الركاب الآخرون ومضيف القطار والكمساريّ أنهم لم يروها أبداً. وعندما يُطلب من السيدة الشابة وصف السيدة المختفية، لا يسعها إلا أن تقول، “هي سيدة في منتصف العمر وتبدو عادية” قبل أن تعترف بأنها لا تتذكر مظهرها. وفي وقت لاحق من الفيلم، توصف السيدة على أنها مجرد “هلوسة وصورة ذاتية وشخصية خيالية من رواية يتم تذكرها لا شعورياً” وأيضاً “لا شيء سوى جسد بلا ملامح”، ثم يتضح في المشهد الأخير من الفيلم أنها جاسوسة بريطانية، وأنها بطلة الفيلم الرئيسية.

أما اليوم، فتظهر المرأة أو تختفي بأكثر من شكل. ففي سلسلة المصورة، باتي كارول، “نساء مجهولات”، تخفي القطع الأثرية والعادات المنزلية، مثل أقمشة المفروشات والستائر والهواتف وشرائح اللحم المقدد وأوراق الخس ورغيف الخبز المضفر ولفائف من ورق الحائط والوسائد والأطباق، بين طياتها عارضات الأزياء  في حالة من التماهي التام مع الحياة المنزلية. وفي رواية “الآن تراها” من إبداعات المؤلفة ويتني أوتو، تعمل المرأة المختفية في أحد المكاتب، وهي حاضرة إنما غير مرئية، إذ لا تأبه بها قطتها عندما تتعثر بها، وعندما تضغط بكفها على جبهتها فإنها تفعل ذلك “فقط لتلاحظ تلاشي يدها مع الحركة، من أطراف الأصابع إلى الساعد”. وفي الفيلم الأحدث “أهلاً، اسمي دوريس”، تلعب سالي فيلد دور سيدة متقدمة في العمر مفتونة برجل أصغر منها سناً تعمل معه في المكتب ذاته. يقوم الرجل بتعديل نظارتها الملتوية في بداية قصة الفيلم. وقد كتبت الناقدة السينمائية، مانوهلا دارغيس، في صحيفة “نيويورك تايمز” تعليقاً على هذا المشهد، أن لفتة الشاب التلقائية اللطيفة كان لها تأثير تحولي: إذ يبدو أن التجاعيد “لها طريقتها في التسبب في اختفاء المرأة عن الأنظار بالتدريج” وعندما يبدي لها رجل أصغر سناً لمحة إعجاب ولو للحظة، يبدو أن هذا التقدير “يجعلها مرئية مجدداً للآخرين ولنفسها وهو الأمر الأهم”.

قد تكون المرأة غير المرئية هي الممثلة التي لم تعد تتلقى عروضاً لتقديم أدوار بعد بلوغها الأربعين، أو السيدة البالغة خمسين سنة، التي لا تستطيع الحصول على مقابلة عمل، أو الأرملة التي يتم رفض دعوات العشاء التي تقدمها بعد غياب زوجها. إنها المرأة التي تجد أنها لم تعد محط اهتمام نظرات الرجال، بعدما مرت سنوات الشباب ولم تعد قادرة على الإنجاب وتضاءلت قيمتها الاجتماعية. وفي إشارة إلى اختفائها المتوقع عند بلوغها الخمسين، قالت الكاتبة أييليت والدمان، خلال إحدى المقابلات، “لدي شخصية قوية ومستوى عالٍ من الكفاءة المهنية، وقد اعتدت على أن يأخذني الآخرين على محمل الجد على المستوى المهني. وفجأة، يبدو الأمر كما لو أنني اختفيت من الغرفة، وعلي أن أصرخ بأعلى صوتي ليراني الآخرون … لا أريد سوى أن أسير في الطريق مرة أخرى ويلاحظ أحدهم وجودي”.

تستحضر كلماتها إلى الأذهان سيدة أخرى تسير في الطرقات من دون أن يلاحظها أحد منذ ما نحو قرن.  بينما كانت شخصية كلاريسا دالاوي تتسوق في شوارع لندن لشراء الزهور في صباح أحد أيام شهر يونيو/حزيران، توقعت فيرجينيا وولف الهوية العابرة لبطلة روايتها “السيدة دالاوي”. تجد السيدة دالاوي، مع الأخذ في الاعتبار مكانتها بين الأشخاص الذين تعرفهم، أن “هذا الجسد الذي تمتلكه الآن (توقفت للنظر إلى لوحة هولندية)، بكل مميزاته وقدراته، لا شيء، لا شيء على الإطلاق. واعتراها أغرب شعور بأنها ذاتها خفية وغير مرئية ومجهولة”. ثمّ تتذكر كلاريسا أنها تُنادى الآن باسم زوجها، وبعد بضع سطور في الرواية، تفكر في سهولة التعرف على النساء من خلال قفازاتهن وأحذيتهن. يخطر على بال السيدة دالاوي أنها لا تعرف أي شيء، لا تعرف شيئاً عن اللغات أو التاريخ ولا تقرأ من الكتب إلا المذكرات وحينها تدرك أن “موهبتها الوحيدة كانت القدرة على استشفاف مكنونات الأشخاص بالسليقة”.

ربما قصدت وولف أن تقول إن هوية الأشخاص زائلة وغير دائمة، وتزول بشكل أسرع مع تقدم العمر. بينما تتقدم النساء في العمر، يستمتعن بمجموعة أوسع من الخيارات حول متى وكيف تتم ملاحظتهن. يمكن أن يحدث هذا التلاشي بشكل أسرع أو يتم الشعور به بشكل أكثر حدة. وقد وصفت الكاتبة فرانسين دو بليسيكس غراي، شعور شخصية كلاريسا دالاوي، بزوال هويتها بشكل أوضح بعد عقود في مقالها “العصر الثالث”. تعتقد غراي أنه عندما تنحسر نظرات الآخرين، فقد يختار المرء “أن يعمق نظرته إلى مكنوناته، أو أن يتعمق في ملاحظة الآخرين، أو أن يختلق وسائل جديدة لجذب الانتباه تتجاوز الهوية الجنسية وتعتمد على الحضور والسلطة والصوت، كما علمني المرشدون في شبابي”.

من المحتمل أن غراي تتحدث عن الاختلاف بين أن تكون شخصاً أو شيئاً. بيد أن الإشارة إلى ثقافتنا باعتبارها ثقافة ينظر فيها الرجال إلى النساء عادةً على أنهن أشياء مع تجاهل شخصيتهن وأحاسيسهن، أصبحت فكرة مبتذلة، ولكن وفقاً لما ذكرته أليسون كاربر، وهي طبيبة نفسية تمارس مهنتها في مدينة نيويورك، إذا كانت المرأة ضالعة في ترسيخ هذا الانطباع -أي في النظر إلى نفسها على أنها شيء- فلا يسعها إلا أن تكون مدركة تماماً عندما يفقد هذا الشيء جاذبيته. مضيفةً أنه “بوصفنا بشر، نحتاج جميعاً للشعور أننا مقبولين وأن ننال الإشادة والتقدير، ولكن كلما تقدمنا في العمر، فإن طريقة التقدير التي نبحث عنها يمكن أن تتغير. أما الشخص، فهي تلك المرأة التي تحيا وفق إرادتها الخاصة، وتدرك كيف يمكنها أن تؤثر في الآخرين، وهي بالفعل تتمتع بهذه القدرة، وأنها المسؤولة الوحيدة عن كل ما يحدث في حياتها، في نهاية المطاف. وهي تدرك المسؤولية التي ينطوي عليها هذا الأمر”. وقد تستمر المرأة التي تفتقر إلى الخوالج الناضجة بالنظر إلى نفسها على أنها شيء.

إقرأوا أيضاً:

من الواضح أن شخصية كلاريسا دالاوي تدرك تماماً أنها شخص وليست مجرد شيء. فهي تدرك أن جسدها ليس سوى رداء ترتديه، ثم تقول في الجملة التالية، إن هذا الجسد بكل قدراته هو حقاً لا شيء، لا شيء على الإطلاق. تُشير وولف إلى وجود علاقة بين التخفي والقدرة على معرفة الناس بالسليقة عندما أوضحت في فقرة واحدة أن كلاريسا تتمتع بكلتا الصفتين. مذ نُشرت رواية “السيدة دالاوي” في منتصف العشرينات، توصلت دراسات اتبعت نهجاً أكثر واقعية حول الطبيعة البشرية إلى استنتاجات مماثلة. تتلخص في أن تراجع الشعور بالظهور لا يعوق بالضرورة التجربة. بل إن الاحتجاب عن الظهور قد يقودنا نحو نظرة أكثر إنسانية للعالم الأوسع نظراً إلى أنه يقترن بقدر كبير من التعاطف. والواقع أن هذه المكانة المتضائلة يمكن أن تحافظ على حياتنا وتثريها، بدلاً من أن تحد منها. فمن عجيب المفارقات أن عدم الحصول على التقدير الذي نستحقه يمكن أن يساعدنا على تقدير أهميتنا في المنظور الأكبر للأشياء.

تظل هذه هي الفكرة الرئيسية التي تعود وولف إلى تأكيدها مراراً وتكراراً، مثلما هو الحال عندما تعتقد كلاريسا دالاوي أن “ثمة علاقات غريبة تربطها بأشخاص لم يسبق لها أن تحدثت معهم أبداً، مع امرأة ما في الشارع، أو مع رجل ما يقف خلف مكتب الاستقبال، حتى مع الأشجار أو الحظائر”. تدرك كلاريسا أن حياتنا يمكن أن تقاس بما فعلناه كي نُحدث فرقاً في حياة الآخرين؛ وهي واعية للقدرة على تكوين روابط إنسانية مع أشخاص غرباء عنا تماماً. وإلى القيمة الدائمة بل والقوة التي تنطوي عليها مثل هذه التحالفات.

لعل الشخصية التي تشبه كلاريسا في الفن الحديث هي شخصية ميستيك، وهي واحدة من المتحولين من سلسلة أفلام “إكس من” تتمتع بالقدرة على تغيير شكلها إلى أي شخص، والتي جسدتها في الآونة الأخيرة الممثلة جينيفر لورنس. فهي ليس لديها ذات جسدية بخلاف جسدها الأزرق، لكنها تتحول إلى هيئة الآخرين، من بينهم قاتل وعميل سري ألماني وأستاذ وفتاة صغيرة وزوجة عضو في مجلس الشيوخ وعارضة أزياء وأحد أعضاء وزارة الدفاع الأميركية. إذ تكمن قوتها في مظهرها الغامض، وهو ما يمكنها من تجسيد الهويات الأخرى.

“بوصفنا بشر، نحتاج جميعاً للشعور أننا مقبولين وأن ننال الإشادة والتقدير، ولكن كلما تقدمنا في العمر، فإن طريقة التقدير التي نبحث عنها يمكن أن تتغير”

ولكن ثمة شخصية أخرى واقعية من المحتمل أنها تشبه كلاريسا إلى حد كبير، وهي عارضة الأزياء والممثلة والفنانة التي اشتهرت خلال حقبة الستينات، فيرا ليندورف، التي ذاع صيتها آنذاك باسم فيروشكا. في أواخر حياتها المهنية، تعاونت مع الفنان الألماني هولغر ترولتُش، ورسمت على جسدها أنماط وألوان وارتدت أزياء معينة لكي تبدو في تجانس من خلفيات مختلفة. كتبت ليندورف قائلةً، “عندما بدأت أرسم على جسدي، صرت أنا واللون شيئاً واحداً، ولم يعد هناك ما يفصلنا… إن تجربة الانسجام هذه بيننا وبين العالم من حولنا، هي تجربة تنعم بالرفاه؛ وتولد شعوراً بالترابط مع كل ما نتواصل معه”.

هكذا بدت ليندورف، وهي مستلقية على الرمال الرمادية أو تبرز ملامحها أمام خلفية شديدة الظلام أو تتكئ على جدار أبيض. ففي الأخير، كان جسدها مكسواً باللون الأبيض حتى كتفيها، ولكن يبدو أن رأسها قد طليت باللون الأزرق السماوي الساطع لتنسجم مع السماء في الخلفية. إنها صورة لجسد المرأة وهو يتحول من كائن إلى هواء، من جسد مادي إلى كيان روحاني، من شيء إلى لا شيء. إنه نوع من التمويه لا علاقة له بالهروب من أجل البقاء أو تجنب المخاطر أو العثور على الطعام أو جذب شريك الحياة، بل هو محاولة للتماهي وثيقة الصلة بالسعي إلى الانسجام.

كل هذا قد يُشير إلى ظهور أسلوب جديد للتخفي. ويُمكن أن يكون الغموض نفسه مثل النسيج الضام الذي يصل ويدعم بقية الأنسجة في الجسد. فإذا تمكن البشر من ترك أثر، فهو مجرد أثر سريع وموقت وبعيد المنال، ولا يُمثل شيئاً أكثر من مجرد شعار أو رمز سريع الزوال. وربما ليس أسوأ شيء بالنسبة إلى أي منا أن يتخيل الهوية بوصفها ترتيباً لمجموعة من الحروف مكتوبة لبضع لحظات على نافذة قطار يغطيها الغيوم يسرع بعيداً من أعين الناظرين.

هذه المقالة مقتبسة عن كتاب “كيف تختفي: ملاحظات حول التخفي في عصر الشفافية”، للمؤلفة أكيكو بوش.

هذا المقال مترجم عن الرابط التالي.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.