fbpx

كهرباء لبنان : قصة عتمة وفساد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

معالجة ملف الكهرباء، مرتبط حكماً بالمعالجات الأخرى المطلوبة على مستوى توفّر العملة الصعبة في النظام المالي، وقدرة هذا النظام على تمويل احتياجات البلاد من العملة الصعبة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صدّق المجلس النيابي اللبناني على منح مؤسسة كهرباء لبنان سلفة بقيمة 300 مليار ليرة (ما يعادل 200 مليون دولار)، ليبعد عن نفسه تهمة إغراق البلاد في العتمة الشاملة في ظل أزمة الكهرباء القاسية التي تمر بها البلاد. 

ففي غياب الموازنة، شرّع المجلس النيابي الإنفاق وفق قاعدة الإثني عشريّة، أي وفق نفس أرقام الموازنة السابقة لكن على أساس شهري. وبما أنّ تحويلات الدولة لمؤسسة الكهرباء لا تندرج ضمن أبواب الإنفاق العاديّة التي يمكن الإستمرار بتمويلها على قاعدة الإثني عشريّة، بل تأتي كسلفة استثنائيّة سنويّة يقرّها مجلس النواب كجزء من الموازنة، كان على المجلس النيابي تمرير السلفة الجديدة بقانون معجّل مكرّر لضمان استمرار التحويلات لمؤسسة الكهرباء. 

ماذا تعني هذه الخطوة؟

ظاهرياً، عالج القانون المعجّل المكرر جانباً تقنياً متعلّقاً بطريقة الدفع لمؤسسة الكهرباء، دون أن يعالج أبرز المخاطر التي تضع البلاد على حافّة الظلام الدامس، ودون أن يتوازى مع أي إجراءات تضمن الشروع بوضع خطة شاملة للقطاع ذات مصداقيّة، ما يجعل خطوة المجلس أقرب إلى رمي كرة النار في ملعب السلطة التنفيذيّة ومصرف لبنان لا أكثر.

أزمة الكهرباء مستمرّة إذاً، بمعزل عن توفّر الاعتمادات من الموازنة بالليرة اللبنانيّة. الإشكاليّة الكبرى حاليّاً تتركّز حول سبل تأمين العملة الصعبة لتمويل ثلاثة أبواب أساسيّة من الإنفاق: عقود الصيانة والتشغيل للمعامل الثابتة، وإيجارات بواخر الكهرباء، وثمن الفيول المستخدم لتوليد الطاقة في المعامل. وفي هذه الإشكاليّة، يتعقّد الموقف إلى درجة كبيرة نتيجة الصفقات التاريخيّة المعقودة في القطاع، والتي أدّت إلى تضخيم كلفة تشغيله وخسائره بالعملة الصعبة، وهو ما يضغط بشدّة اليوم على الاحتياطات المتوفّرة في المصرف المركزي. وفي الوقت نفسه، يزداد عمق المشكلة مع المكائد والمناورات المتبادلة التي تحكم علاقة الحكومة والعهد بحاكم المصرف المركزي ومن يقف خلفه، وهو ما ورّط أزمة تمويل الكهرباء في حرب تصفية الحسابات واشهار أوراق الضغط بين الطرفين. 

لكل هذه الأسباب، أزمة الكهرباء باقية وتتمدد، طالما أنّ الأزمة الماليّة باقية، وطالما أن قطاع الكهرباء يسير دون خطة واضحة وشاملة تتمتّع بالمصداقيّة المطلوبة دوليّاً لاستقدام الإستثمارات الأجنبيّة والمساعدات الدوليّة. أما ما ينبغي الإلتفات إليه، فهو أن ثمن أزمة الكهرباء لن يقتصر على ساعات التقنين القاسية التي تضغط على معيشة اللبنانيّين، فعدم توفّر الحلول لأزمات هذا القطاع سبب أساسي من أسباب انكفاء الدعم الدولي عن لبنان، وتعثّر جهود استقدام رزم الدعم الخارجيّة، بالإضافة إلى فرملة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. 

مرّة أخرى، تبرز الصفقات والمصالح السياسيّة كسبب أساسي من أسباب الإطاحة بأي فرصة لصياغة خطّة ذات مصداقيّة دوليّة في هذا القطاع بالتحديد. ومرة جديدة، تثبت أزمة هذا القطاع أن شروط الحلول المطلوبة لجميع نواحي الأزمة، تتناقض مع مصالح وجوديّة مرتبطة بالفئة المهيمنة على القرار السياسي في البلاد.

لماذا سقطت خطة الكهرباء؟

 يوم دخل لبنان في المفاوضات مع صندوق النقد، إلى جانب سعيه للتفاهم مع داعمين خارجيين لاستقطاب الاستثمارات الأجنبيّة، إحتلّت مسألة الكهرباء شقاً أساسياً في هذه المفاوضات، خصوصاً أن قطاع الكهرباء بالتحديد استنفد منذ نهاية الحرب الأهليّة ما يقارب ال45 مليار دولار من الموازنة العامّة، أي ما يوازي 42% من الدين العام المتوجّب على لبنان. مع علم أن كلفة تمويل القطاع بلغت كمعدّل ما يقارب ال4% من الناتج المحلّي، وهي نسبة ضخمة جرى تبديدها دون أن يتمتّع المقيمون في لبنان بالكهرباء على مدار الساعة.

لهذا السبب، استهدفت حكومة حسان دياب منذ البداية التعامل مع هذا الملف، خصوصاً أنّها استنتجت أن وجود خطة للقطاع تتمتّع بمصداقيّة دوليّة لم يعد مجرّد موضوع للتداول مع صندوق النقد، بل تحوّل إلى شرط لا بد منه قبل المضي قدماً في أي خطة ماليّة شاملة مع الصندوق. لا بل أدركت الحكومة أيضاً أن التعامل مع هذا الملف بات شرطاً لسائر الجهات المانحة والمقرضة كفرنسا، في ما يخص الأموال التي جرى تخصيصها للبنان في مؤتمر سيدر.

في البداية، صوّت مجلس الوزراء على مباشرة العمل بخطة الكهرباء، دون تضمين القرار فكرة المباشرة بإنشاء معمل ثالث للكهرباء في منطقة سلعاتا (إلى جانب معملي الزهراني ودير عمار)، فيما صوّت وزراء التيار الوطني الحر ضدّ إقصاء معمل سلعاتا من هذا القرار. ولعلّ إصرار دياب وسائر وزراء الحكومة –باستثناء العونيين منهم- على استثناء معمل سلعاتا من قرارهم نتج أساساً عن إدراكهم لعدم الحاجة لهذا المعمل أولاً، ولمعرفتهم بحجم الريبة التي تساور جميع المانحين الدوليين تجاه هذا المعمل غير الضروري، الذي تحيط بملفّه رائحة السمسرات والصفقات الفاقعة، خصوصاً في ما يتعلّق باستملاكات الأراضي التي سيقام عليها المشروع. باختصار، كان الجميع يعلم أن تضمين المرحلة الأولى من الخطة إنشاء هذا المعمل سيفقد الخطة مصداقيتها دوليّاً، وستطيح بفرص تنفيذها.

بعد التصويت على القرار، شنّ التيار الوطني الحر حملة كبيرة ضد إسقاط معمل سلعاتا، مستعملاً خطاباً مذهبياً يرتكز على ضرورة تخصيص المناطق المسيحيّة بمعمل يُقام على أراضيها (في مقابل المعملين الآخرين في المناطق السنيّة والشيعيّة)، رغم أن مكان وجود المعامل غير مرتبط بهوية المناطق التي ستستفيد من انتاج الكهرباء. وبعد كل هذا التصعيد، استعمل التيار الوطني الحر جميع أوراقه، بما فيها استعمال رئيس الجمهوريّة لصلاحياته لإعادة القرار إلى مجلس الوزراء من جديد، ومن ثم الضغط على جميع القوى السياسيّة لفرض تراجع مجلس الوزراء عن قراره وإعادة معمل سلعاتا إلى المرحلة الأولى الخطة.

يومها، مثّلت هذه التطورات رسالة بالغة السلبيّة لجميع المانحين الدوليين المعنيين بالملف الدولي، ومثّلت طعنة لمفاوضات الحكومة مع صندوق النقد، حيث تبيّن أن السلطة التنفيذيّة لا تملك القدرة على فرض الأجندة الإصلاحيّة التي تفاوض على أساسها مع الصندوق والمجتمع الدولي. وبذلك، أطاح معمل سلعاتا بجديّة خطة الكهرباء ومصداقيتها أمام الدول التي راهن لبنان على استقدام استثماراتها في القطاع، وخصوصاً فرنسا، وبالتالي أطاح بإمكانية تنفيذ الخطة نفسها. كما كان المعمل أحد أسباب فرملة الجهود الرامية إلى التوصّل لتفاهم مع صندوق النقد والمجتمع الدولي حول خطة شاملة للإصلاح المالي.

منذ ذلك الوقت، يسير ملف الكهرباء نحو المجهول، دون أي خطة عمليّة أو رؤية شاملة لكيفيّة إدارة القطاع، فيما أصبح شراء الوقت -بالأيام والليالي لا الأشهر كما كان الحال سابقاً- العنوان الوحيد لجميع المعالجات التي يتم اعتمادها. 

أزمة الدولار

بغياب خطة الاستثمارات الكهربائيّة المطلوبة، وبغياب خطة الإصلاح المالي الشاملة أساساً، لا تملك الدولة اللبنانية اليوم هدفاً سوى تأمين الدولارات المطلوبة لتشغيل القطاع يوماً بعد يوم. أما ما يفاقم من حجم الأزمة اليوم، فهو تضخّم حاجة لبنان لهذه الدولارات بفضل طبيعة الصفقات والعقود المعقودة تاريخيّاً، وتضخّم الخسائر التي تتراكم شهريّاً نتيجة هذه العقود.

منذ التسعينات لم تملك القوى السياسيّة المصلحة في تطوير قدرة مؤسسة كهرباء لبنان الذاتيّة لإدارة وتشغيل وصيانة معاملها، ففضلت اللجوء إلى العقود مع شركات التشغيل الخاصّة للقيام بهذه المهام. علماً أن هذه العقود مثّلت تاريخياً أبرز أبواب الصفقات المشبوهة التي تقاسم مغانم هذا القطاع بين السياسيين وأصحاب النفوذ. اليوم، تهدد مستحقات الدولة المتأخرة لمصلحة إحدى الشركات الخاصّة بالدولار الأميركي –بحدود 45 مليون دولار- مصير الإنتاج في معملي دير عمار والزهراني، بينما من المتوقع أن تهدد المستحقات المتأخرة لسائر شركات التشغيل والصيانة الإنتاج في المعامل الأخرى. مع العلم أن الأزمة الفعليّة تتركز في عدم رغبة هذه الشركات بتجديد العقود بعد انتهائها، وبعدم وجود شركات أخرى مستعدة للمغامرة بالتعاقد مع الدولة المتعثرة في هذه الفترة. 

بواخر الكهرباء، كان يفترض أن تكون حلاً مؤقّتاً حين تم إقرار التعاقد معها منذ نحو تسع سنوات، لكنّها مع غياب الإستثمار في المعامل الدائمة تحوّلت إلى جزء أساسي من منظومة الإنتاج الكهربائي، إلى حد توليدها نحو 30% من الكهرباء التي ينتجها لبنان سنوياً. علماً أن الإصرار على البواخر ارتبط منذ البداية بتقاطع مصالح ماليّة بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل، ومثّل طليعة تجارب تحاصص المصالح بين التيارين قبيل عقد التسوية الرئاسيّة. اليوم، يدين لبنان بنحو 160 مليون دولار من المستحقات المتأخرة لمصلحة الشركة المالكة للبواخر، في حين أن الشركة بدأت تلوّح بمغادرة الشواطىء اللبنانيّة بغياب أي بديل يمكن أن يملأ الفراغ الناتج عن رحيلها. 

أما الأهم، فهو أن قدرة مؤسسة كهرباء لبنان على توريد الفيول المطلوب لتشغيل كل هذه المعامل بات على المحك. علماً أن عدم تعاقد الدولة حاليّاً مع أي شركة لتوريد الفيول بشكل ثابت ووفقاً لجداول واضحة يفاقم من حجم المشكلة، نظراً لحاجة الدولة اليوم للتفاوض على الشحنات وتسديد ثمنها بشكل منفصل. 

مناكفات العهد ودياب والحاكم

منذ السنة الماضية، استمر مصرف لبنان بتمويل عقود الدولة في مختلف المجالات، دون أن يتفاهم مع الحكومة على أي سياسة واضحة تحدد الأولويّات وتقدّم التمويل على هذا الأساس، ودون أن يتفاهم معها على آليّة لتقديم الدعم من خلال تحديد واضح لحجم السيولة المطلوبة على مدار العام. وهكذا جرى طوال العام الماضي تمويل شتى أنواع عقود الدولة من دولارات الإحتياطي، دون معيار واضح أو آليّة شفافة.

اليوم، اختار حاكم مصرف لبنان أن يفتح هذا الملف على مصراعيه، بعد أن شارفت الاحتياطات القابلة للإستخدام في مصرف لبنان على النفاد. وحاليّاً، باتت المناكفات بين الحكومة ومصرف لبنان سيّدة الموقف. فمن ناحية تصر الحكومة على تقديم طلبات تمويل العقود بالمفرّق، دون تحديد خطة كاملة تشمل حجم التمويل المطلوب والإطار الزمني لهذا التمويل، فيما يصر الحاكم على تأخير البت بهذه الطلبات دون مصارحة الحكومة بحجم التمويل الذي يستطيع تأمينه خلال المرحلة القادمة لهذه العقود بالذات. وفي كل هذه التجاذبات، يستثمر العهد في الأزمة للتصويب على الحاكم و إدارته لملف الإحتياطات المتبقية في مصرف لبنان، رغم أن سياسات تياره في قطاع الكهرباء تتحمّل جزء وازناً من المسؤوليّة في كل ما يخص الأزمة الراهنة.

كل ذلك يقودنا إلى استنتاج واحد، البلاد في طريقها إلى العتمة الشاملة إذا لم يحصل تطور جذري في هذا الملف. ومعالجة ملف الكهرباء، مرتبط حكماً بالمعالجات الأخرى المطلوبة على مستوى توفّر العملة الصعبة في النظام المالي، وقدرة هذا النظام على تمويل احتياجات البلاد من العملة الصعبة. وبغياب الحكومة، لا يمكن توقّع أي حل على هذا المستوى.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.