fbpx

ما بعد أزمة السفينة الجانحة… “قناة السويس” في خطر!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تسير عملية تطوير قناة السويس بآجالٍ بعيدة، إلا أن السفينة الجانحة دفعت الدولة إلى التعجيل بها، كي تنقذ ما يمكن إنقاذه في المستقبل المنظور…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لن تكون أزمة السفينة الجانحة “إيفر غيفن” حتى بعد تعويمها في قناة السويس شأناً عابراً انقضى بانتهاء الأزمة. 

فجنوح السفينة وعرقلة الملاحة في قناة السويس أديا إلى خسائر تقدر بمليار دولار وهو يضع مستقبل قناة السويس في خطر، بخاصة أنها مصدر الربح اليومي المضمون للموازنة المصرية وتغذي ربع ضخ الموازنة بالكامل أي قرابة 14 ملياراً سنوياً .

لماذا علقت مصر في هذه الأزمة من الأساس، على رغم الإنفاق الكبير على تفريعة جديدة  ولماذا لم يتم الإعلان عن خطة تطوير لوجيستية على أجندة هيئة قناة السويس؟ ما نعرفه، حتى الآن، أن ذلك التطوير اللوجيستي ليس على أجندة هيئة قناة السويس، فما هو التطوير الذي تستعد له مستقبلاً؟

يكشف الخبير البحري، الدكتور أحمد الشاملي، لـ«درج»، نية مصر حفر قناة فرعية ثانية جنوب القناة الجديدة، التي افتتحتها مصر عام 2015 بتكلفة بلغت 8 مليارات دولار، وبموازاة جزء من الممر المائي يمتد 70 كيلومتراً. هذه التوسعة في المنطقة الجنوبية بين مدينتي السويس والإسماعيلية، تسمح باستمرار حركة الملاحة في حال جنوح إحدى السفن. كان يفترض أن تنتهي  خلال 15 عاماً، لكن الشاملي يتوقع الإسراع فيها، تلافياً لهذا الموقف، بخاصة أنه بنهاية “كورونا” سيزداد حجم التجارة العالمية، وهو ما يجعل قناة السويس بحاجة لزيادة قدرتها الاستيعابية. 

مستقبل «في خطر»… فهل ينشئ السيسي تفريعة جديدة؟ 

بعد تعويم السفينة الجانحة، أطلت دول برؤوسها لتعلن عن مشروعاتها «البديلة» للقناة المصرية، كالمشروع الروسي، و«الإماراتي – الإسرائيلي»، وغيرها من الطرائق التي يمكن أن تحلَّ محلها الآن وعلى المدى البعيد، وبدأت شركات النقل البحري تفكر في أساليب أخرى خوفاً من تكرار ذلك مستقبلاً. يسوق الإعلام المصري راهناً أن أزمة السفينة الجانحة عرّفت الجميع بحجم مصر الدولي، وما تملكه، وأنه – على قول السيسي – «رب ضارة نافعة»، لكن الوجه الآخر للقصة أن الأزمة فتحت عيون العالم على أن الاعتماد على طريق واحد يصل بين أوروبا وآسيا، يمكن أن يصيب العالم بالشلل يوماً ما، فبدأ التنقيب عن بدائل، إن لم تكن متاحة الآن، تخطط بعض الدول لصناعتها.

قناة السويس هي المورد المجاني الباقي لمصر، فمياه النيل لم تعد مضمونة بعد الإصرار الإثيوبي على سد النهضة، وهو ما يدفع القاهرة إلى الحفاظ على طوق نجاتها الوحيد، الذي يمنحها ثقلاً دولياً، فخسارة تلك المليارات، أو ذلك الاهتمام الدولي، يعني كثيراً بالنسبة إلى مصر، التي وسّعت قناة السويس بما يعرف باسم «مشروع القناة الجديدة»، كي تستوعبَ سفناً أكثر، وتوفر وقتاً ومالاً للدولة، وفق خطة قناة السويس للاستحواذ على الناقلات والسفن والبضائع مستقبلاً، فبدلاً من 12 في المئة من حجم التجارة العالمية الآن، تجري توسيعات وإصلاحات وتزيد قدراتها لتصل إلى 18 في المئة عام 2030، و26 في المئة عام 2050. 

تسير عملية تطوير قناة السويس بآجالٍ بعيدة، إلا أن السفينة الجانحة دفعت الدولة إلى التعجيل بها، كي تنقذ ما يمكن إنقاذه في المستقبل المنظور، فكانت الخطوة الأولى توجيه من السيسي بشراء قاطرات ضخمة (بقوة تصل إلى 300 طن وأكثر) للتعامل مع أي حوادث في قناة السويس، فمصر استعانت بقاطرة هولندية لتعويم السفينة الجانحة، لعدم جاهزية قناة السويس بالقاطرات اللازمة، فأقصى قوة شد للقاطرات في الهيئة لا تزيد عن 160 طناً.

يبقى مستقبل قناة السويس محفوفاً بالألغام… إذا لم يتم تحديثها وتطويرها من حيث الإمكانات الفنية واللوجستية، بعيداً من “أوهام” الاتساع الشديد، والضخامة غير المسبوقة، التي تشغل بال النظام المصري بجميع المشروعات. 

مايكل كنجستون، المتخصص في الشحن الدولي والمستشار لدى المنظمة البحرية الدولية التابعة للأمم المتحدة، كان أوضح لـ”رويترز“، أن قناة السويس، تحتاج أيضاً، وسائل ومعدات لرفع الحاويات عن السفن، فبعض الحوادث تستدعي إخلاء السفن تماماً في أسرع وقت، وهو ما لا يتوفر في قناة السويس، فكان السيناريو الثاني لحل أزمة السفينة، تفريغها، يتطلب شهرين على الأقل، وطوال هذين الشهرين تتوقف القناة تماماً. 

زاد متوسط حجم السفن حديثة الصنع على مدى السنوات الماضية، بينما لم تزد قدرة قناة السويس – من حيث اللوجستيات والمعدات – على إنقاذ هذه السفن الكبيرة، فلا تملك القناة أي قدرة، حتى الآن، على إنزال الحاويات من ارتفاع 20 طبقة في عرض البحر، بينما يزيد ارتفاع بعض السفن عن ذلك، وهو ما يجعل قناة السويس “غير آمنة” من حيث الخدمات المتاحة للإنقاذ، ويهدد استمرارها باعتبارها خياراً أول لشركات النقل البحري، بحسب كنجستون، تحديداً إذا طوّرت روسيا مشروعها في القطب الشمالي، ليصبح أكثر أماناً وتزيد مدة عمله طوال العام. 

«لا أحد يستطيع قرصنة سفينة تمر بقناة السويس، لأنها قناة داخلية، تجري داخل بلد، ومؤمنة».

رأس الرجاء الصالح البديل الآمن؟ 

سفينة ألعاب جنسية آتية وعلى متنِها 20 حاوية من آسيا إلى بلجيكا وهولندا لإنعاش متجر متخصص في بيع الألعاب الجنسية، فكرت في تغيير وجهتها إلى طريق رأس الرجاء الصالح لإنقاذ العملاء المحبطين في أوروبا من شحّ ألعابهم الحميمية بالأسواق، وحسبت حسبتها، فاكتشفت أن الطريق الآخر غير آمنٍ، ويكلفها 20 يوماً إضافية في عرض البحر، لتعود مرة أخرى إلى جوار السفن المتوقفة، تنتظر «تعويم» السفينة البنمية «إيفر غيفن».

كان عام “كورونا” حافلاً بالسفن التي سلكت رأس الرجاء الصالح، الطريق التقليدي للسفن التجارية قبل 150 عاماً، وذلك بالدوران حول قارة أفريقيا، وصولاً إلى أوروبا والأميركتين والعكس، بسبب تراجع معدلات التجارة العالمية وانخفاض أسعار الوقود، فوجدت بعض الشركات تكاليفه أرخص من رسوم العبور بقناة السويس، لكن الرحلة لم تكن سهلة، استنزفت مالاً ووقتاً ومؤناً وسلعاً تالفة وسطواً من عصابات وقبائل أفريقية عُرفت بـ«القراصنة» على السفن، فالطريق طويل وغير آمن.

يفسر الشاملي التحديات الصعبة التي تواجه السفن في رأس الرجاء الصالح بعدم إطلاله بالقرب من دول، فيقع تحت رحمة القراصنة، ويضيف: «المناطق التي تجتذب القراصنة، لا بد أن تكون لها حماية من حراس السواحل، وأميركا وحدها تملك القدرة على الحماية في هذا الطريق البعيد، تضع فرقاطة بحرية لتحمي السفن التي دفعت لها، والمقابل يكون مبلغاً ضخماً، أمّا السفن التي لا تدفع فتتركها القوات الأميركية فريسة للقراصنة».

لكن، بحسب الشاملي، «لا أحد يستطيع قرصنة سفينة تمر بقناة السويس، لأنها قناة داخلية، تجري داخل بلد، ومؤمنة».

الوجه الآخر للحماية، هو الإنقاذ، فإذا عطلت سفينة في رأس الرجاء الصالح، وهو منطقة بحر مفتوح، «الإنقاذ سيستغرق وقتاً طويلاً، لأنه طريق بلا خدمات ومراكز الخدمات بعيدة ولا تصل بسهولة، فإذا انقطع الإرسال أو الكهرباء – وهو ما يحدث كثيراً في البحر – تنتظر حتى تراها سفينة أخرى لتبلغ بعطلها، وتحدث – في الغالب – مشكلات كبيرة»، بحسب الشاملي.

لم تنتظر معظم السفن نهاية فترة “كورونا”، وعادت إلى العبور بالقناة المصرية مجدداً، لتؤكد أنها الخيار الأفضل.

ويقول الخبير الاقتصادي المصري حسام عيد لـ«درج»، إن قناة السويس توفر نحو أسبوعين (وقتاً ووقوداً) على أي سفينة تقصد العبور من الشمال إلى الجنوب والعكس (آسيا وأوروبا والأميركتين)، فاستحوذت على 12 في المئة من حجم التجارة العالميّة، ما يجعلها من أهم مصادر النقد الأجنبي في موازنة الدولة، وتقع في المرتبة الأولى بين مصادر العملة الصعبة، يليها قطاع السياحة، ثم تحويلات المصريين بالخارج، وفي المرتبة الرابعة التصدير. 

ويضيف: «قناة السويس أنقذت مصر من تراجع الاحتياطي النقدي بعد الخامس والعشرين من يناير 2011، فكان يتأرجح ما بين 11 و14 مليار دولار، حتى رفعته أرباح قناة السويس، خلال تلك السنوات، إلى 40 مليون دولار، فهي تدرّ – سنوياً – لمصر ما يتراوح بين 5 و6 مليارات دولار سنوياً، وتعتبر تلك الأرباح مضمونة ومستقرة فالقناة بلا منافس، على عكس أرباح قطاعات أخرى غير مستقرة كالسياحة والسفر والاستثمار الأجنبي وقطاعات أخرى تصبح عُرضة للتأثر بأي أزمة عابرة».

ساهمت قناة السويس الجديدة، المشروع القومي المصري، الذي انتهى إنشاؤه عام 2015، في زيادة أرباح قناة السويس، وفق الخبير الاقتصادي حسام عيد، فهي زادت القدرة الاستيعابية للقناة من المراكب العابرة: «كانت القدرة الاستيعابية نحو 45 سفينة في الاتجاهين، وزادت لتصبح 65 سفينة». زادت قناة السويس الجديدة من اتساع وعمق القناة، الأمر الذي يزيد عائدها بنسبة 259 في المئة عام 2023، ليكونَ 13 مليار دولار، لتقليله زمن العبور إلى 11 ساعة بدلاً من 18 ساعة، وتقليص الانتظار إلى 3 ساعات في أسوأ الظروف، بدلاً من 8 ساعات. 

إقرأوا أيضاً:

سباق الممرات بدأ… معابر أرخص وأسرع قريباً!

دول عدة راقبت حادث «إغلاق» قناة السويس، كان السفير الروسي المتجول، نيكولاي كورتشونوف، أبرز المتابعين، فعطل القناة بشكل ما يؤثر في مستقبله السياسي، فقال لوكالة «إنترفاكس» للأنباء، إن «الحادث يجبر كل شخص على التفكير في الحاجة لتنويع طرق الملاحة البحرية».

وتحدث عن الممر البحري عبر القطب الشمالي كأحد البدائل والحلول الممكنة، واستثمرت روسيا في تطويره مبالغ ضخمة. يسمح بوصول السفن إلى الموانئ الآسيوية بأقل بـ15 يوماً، مقارنة بطريق قناة السويس، وتخطط روسيا لاستخدامه لتصدير النفط والغاز، لكنه لا يزال «بحاجة إلى الكثير لكي يتم تنفيذه ويصبح منافساً حقيقياً، وبحاجة لوقت قبل البدء في جني الأرباح»، وفق نائب رئيس الوزراء الروسي، يوري تروتنيف.

يتداخل د. أحمد الشاملي مع السفير ونائب رئيس الوزراء الروسيين، معترضاً ويفسر عدم لجوء السفن إلى الممر الشمالي: «العبور منه أرخص من قناة السويس بـ25 في المئة، لكنه ممر غير آمن، وخاضع لتغيرات مناخية جنونية، يعمل 4 أشهر فقط في السنة، ويتوقف 8 أشهر بسبب الجليد الذي يغطيه، ويحتاج المرور به إلى كاسحات جليد لتكسير الثلوج المتراكمة في الممر، وأحياناً، تفشل في تكسيره. العبور منه مغامرة غير محسوبة».

إذاً، هل يعتبر منافساً لقناة السويس؟ 

يقول الشاملي: «300 سفينة فقط مرّت به في سنوات عدة، بينما تعبر قناة السويس 300 سفينة في أقل من 10 أيام، مرّ به 65 مليون طن خلال 20 عاماً، لكن ما يزيد عن بضائع بمليار طن تعبر قناة السويس سنوياً على متن الناقلات والسفن»، ويفسر الشاملي عدم مرور السفن به بكثرة لسببين: الأول اعتيادها العبور بقناة السويس، والثاني خوفها من أي تحولات مناخية مفاجئة في منطقة القطب الشمالي، لكن روسيا تعتبره مشروعها القومي، وتنفق به مليارات، فيمكن أن يكون منافساً قريباً إذا عالجت مشكلاته المنفرة بالنسبة إلى شركات النقل البحري، وأبرزها أنه بلا بنية تحتية أو مساعدات بحرية، ويغلق أحياناً بسبب الجليد، لكن ذوبان الجليد بفعل الاحتباس الحراري والزمن قد يجعله– بحسب توقعات- بحلول عام 2030 “بديلاً مناسباً” للقناة المصرية، بخاصة أنه يوفر 25 في المئة من التكاليف للسفن العابرة. ويضيف الشاملي: «الأمر كله مسألة وقت، وقريباً، تصبح طرق أخرى مهيأة، ويبقى التطوير التحدي الأخير لقناة السويس». 

تروج إيران لطريق بحري آخر ليصبح بديلاً لقناة السويس، وهو «شمال جنوب» الذي يبدأ من الهند ويمر بإيران وينتهي في روسيا. يختصر الزمن، ويقلل تكاليف النقل بنسبة 30 في المئة، مقارنة بتكاليف قناة السويس، وهو ممر فيه جزء بحري ثم يتم تفريغ حمولات السفن لتصل الحاويات إلى أوروبا وآسيا عبر السكك الحديدية، ما تعتبره شركات النقل البحري صعوبات يمكن تفاديها بالعبور بقناة السويس، لكن الأزمات المالية العالمية التي تضرب العالم تجبر الشركات على استخدامه، وهو حديث العهد وعمره 25 عاماً فقط، نظراً لغلاء قناة السويس مقارنة بعدم توفر خدمات أساسية فيها. 

سباق ممرات لا يرحم، على “جثة” قناة السويس، لكن الشاملي لا يرى أيَّ معبراً مائياً يمكن أن يحتل مكانة قناة السويس عاجلاً، فالدول الأخرى بدأت الالتفات إلى أزمة طويلة المدى يمكن أن تحدث وتشل حركة التجارة العالمية، وستبدأ العمل لتدبير بدائل، لكن منافسة قناة السويس – الآن – مع وسائل النقل الجديدة، وأبرزها الخطوط البرية، وخطوط السكك الحديدية، وأنابيب نقل الغاز والبترول. 

مهمة اقتصادياً لأوروبا والخليج والأمريكتين؟

تربط قناة السويس بين الدول الأكثر إنتاجاً في آسيا، والدول الأكثر استهلاكاً في أوروبا والأميركتين، فبحسب الخبير الاقتصادي حسام عيد، يعتبر الخليج العربي «منبع المواد البترولية»: «يصدر الخليج العربي 60 في المئة من البترول المستخدم في العالم، وذلك عبر قناة السويس، فهي الممر الوحيد المتاح لدول الخليج، لتوصيل البترول إلى الدول المستهلكة في أوروبا تحديداً، فأجواؤها الباردة تحتاج إلى كميات كبيرة من المحروقات، وعندها مخزون إستراتيجي لا تنتزع منه كثيراً، فتلجأ إلى الاستيراد لزيادة المخزون إلى حد الأمان».

مرَّ العالم بتجربة قاسية مع قناة السويس، حين أغلقت تزامناً مع حرب 1967، واستمر إغلاقها لـ8 سنوات، كان تعداد سكان العالم أقل منه حالياً بنحو 50 في المئة، وقُدرت خسائر التجارة العالمية، في ذلك الوقت، بـ100 مليار دولار سنوياً. تسارع الحياة، ونزيف الموارد الطبيعية، وحجم التجارة العالمية الضخم جعل إغلاق القناة في 10 أيام فقط يؤدي إلى 100 مليار دولار خسائر… 

يحلل الشاملي تلك الأرقام مشدداً على أهمية قناة السويس اقتصادياً لأسباب أخرى، بخلاف الشائع عن ربطها قارات عدة، واستحواذها على 20 في المئة من التجارة الدولية، لينتقل إلى مساحة أخرى بعيدة من الإحصاءات الشعبوية. 

يقول: «100 في المئة من الأسطول العالمي يستطيع العبور بقناة السويس، لأنها تستوعب حمولات ضخمة للغاية، فالسفن العابرة بها قد يصل وزنها إلى 245 ألف طن، على عكس قناة بنما الشهيرة، التي تستوعب سفناً بحمولات لا تزيد عن 145 ألف طن فقط، وبعدد حاويات لا يزيد عن 12500». 

هذا يفسر قلة أرباح قناة بنما مقارنة بأرباح قناة السويس، على رغم أن نحو 35 ألف سفينة تعبرها سنوياً، فيما 20 ألف سفينة فقط تمر بقناة السويس، فالأمر لا يتم احتسابه بعدد السفن، إنما بـ«الحمولة»، فالـ20 ألفاً تحمل مليار و100 ألف طن سنوياً، بينما الـ35 ألفاً التي تعبر قناة بنما تنقل بضاعة تزن نصف مليار طن فقط، والرسوم تحتسب على عدد الأطنان، لا عدد السفن، غير أن قناة بنما لا تنافس قناة السويس من الأساس، فكل قناة تخدم مساراً مختلفاً.

ما الذي تعنيه هذه الأوزان والأرقام؟

الأجيال الجديدة من السفن لا يمكن أن تعبر بقنوات ومعابر مائية أخرى، إلا إذا تم تطويرها بمبالغ ضخمة، بينما تسمح قناة السويس بعبورها، فالجيل الرابع من الناقلات والسفن يبدأ من 18 ألف حاوية، والجيل الخامس يصل إلى 22 ألف حاوية، والسادس يستوعب 24 ألف حاوية، وهي 3 أجيال من الحاويات المستقبلية لن تستطيع المرور من بنما، وفق الشاملي. 

«السفينة الجانحة» التي سدّت قناة السويس، في آذار/ مارس 2021، لا يمكن أن تفكر بالمرور في قناة بنما، وتخشى سلوك طريق رأس الرجاء الصالح، فربما تتعرض لتلف أو انقطاع في الاتصال أو قراصنة في مناطق «خارج التغطية» لتخسر حمولتها الضخمة، التي تساوي مبالغ هائلة، ليصبح خيارها الاقتصاديّ والأمني الأنسب، هو العبور من قناة السويس.

عامل المفاجأة، في حادث قناة السويس، كاد يربك العالم، لولا أن الحل كان سريعاً.

«100 في المئة من الأسطول العالمي يستطيع العبور بقناة السويس، لأنها تستوعب حمولات ضخمة للغاية، فالسفن العابرة بها قد يصل وزنها إلى 245 ألف طن، على عكس قناة بنما الشهيرة، التي تستوعب سفناً بحمولات لا تزيد عن 145 ألف طن فقط، وبعدد حاويات لا يزيد عن 12500». 

والسبب.. الصين. 

بكين أهم شريك تجاري لأوروبا، بعدما احتلت موقع الولايات المتحدة خلال عام جائحة “كورونا”، فأصبحت دول أوروبا، وفي مقدمها ألمانيا، الأكثر ثراءً، في مقدمة الدول المتأثرة والمتضررة، لأن «8 إلى 9 في المئة من صادراتها ووارداتها تمر عبر القناة، ويؤثر في علاقة برلين ببكين، فثلثا البضائع المتبادلة بين الطرفين يتم نقلهما من طريق السفن، التي تمر بقناة السويس»، وفق معهد الاقتصاد العالمي. وكان الخوف الرئيس لاتحاد الصناعات الألماني من وراء توقف القناة، هو أن «سلاسل التوريد المتعثرة بين آسيا وأوروبا مهددة بالتوقف التام»، ما يضر صناعات ألمانية أصيلة كالسيارات والأجهزة الإلكترونية ووسائل الاتصال ومواد غذائية، ومعدات الطاقة المتجددة. ومثل ألمانيا، عشرات الدول الأوروبية الصناعية الأخرى، التي تنتظر موادها الخام ومعداتها ووارداتها القادمة عبر قناة السويس لتحيلها إلى شكلها النهائي وتصدرها مرة أخرى عبر القناة المصرية. شلل «نصفي» أصاب الاقتصاد الأوروبي والخليج الذي تعطل نقل إمداده النفطيّ، وبالفعل، بدأ العالم التفكير في طرائق بديلة خوفاً من تكرار التوقف… فهل يتجه لها قريباً؟

قناة السويس ..تاريخ حافل بالمأساة

مليون مصري شاركوا في حفر قناة السويس، ما بين 1859 و1869، كان العمل بما يشبه السخرة، في ظروف غير آدمية، 120 ألف مصري ماتوا في أثناء الحفر من الجوع والعطش والأمراض السارية والأوبئة والتعذيب، لحفر 165 كيلومتراً بعرض 190 متراً، وعمق 58 قدماً، وتحوّلت القناة إلى أكبر مقبرة جماعية في التاريخ.

معظم الضحايا لم يستدل على جثامينهم ودُفنوا في الصحراء، أو غرقاً تحت مياه القناة أو الردم، ولم يفهم المصريون ما يحصل حقاً. كل ما حصل أن الخديوي سعيد والي مصر كان يشاهد صديقه، المهندس الفرنسي فرديناند ديلسبس “مهندس حفر القناة”، وهو يقفز بجواده، وأعجبته قفزاته المتتالية، وفي غُمرة الإعجاب، عرض على الخديوي حفر معبر مائي يربط البحرين المتوسط والأحمر، فلم يتردّد في منحه فرماناً بإنشاء القناة، وقال: «أعترف بأنني لم أفكر فى الموضوع كثيراً، وإنما هي مسألة شعور».

وأكد ديلسبس رواية الخديوي سعيد، في مذكراته: «جمع سعيد باشا قواده وجنده وشاورهم في الأمر، وكانوا على استعداد لتقدير من يجيد ركوب الخيل ويقفز بجواده من على الحواجز والخنادق أكثر من تقديرهم للأكثر خبرة وتخصصاً وأكثر كفاءة علمياً».

ضرب ديليسبس أول فأس ليبدأ شق القناة، صباح 25 نيسان/ أبريل 1859، ويروي المؤرخ عبد العزيز محمد الشناوي في كتاب «السخرة في حفر قناة السويس»، أنه انفرد بوضع لائحة العمَّال، وأخذ توقيعاً مسبقاً من الخديوي سعيد على ما يراه صحيحاً، فبدأ تعبئة المصريين للحفر، حوالى ربع المصريين شاركوا، فلم يكن التعداد السكاني يتجاوز، حينها، 4 ملايين ونصف المليون نسمة، وكانت المادة الأولى تنصّ على تقديم الحكومة المصرية جميع العمال اللازمين، والثانية تحدد لهم أجوراً ظالمة: ما يتراوح بين قرش و3 قروش يومياً، وعقوبات قاسية على العمال الهاربين من الحفر، وأقنعهم ديلسبس في خطبته الأولى بأنهم يعملون لمستقبل أولادهم، فقال: عليكم أن تذكروا أنكم لن تحفروا الأرض فقط ولكن ستجلبون بعملكم الرخاء لعائلاتكم ولبلادكم الجميلة، ليعيش أفندينا سعيد باشا سنوات طويلة.

الأجيال الجديدة من السفن لا يمكن أن تعبر بقنوات ومعابر مائية أخرى، إلا إذا تم تطويرها بمبالغ ضخمة، بينما تسمح قناة السويس بعبورها.

وفي التحدي الأول، ضحَّت الشركة الفرنسية، المكلفة بالحفر، بآلاف العمال. شهدت السنوات الأولى من حفر القناة أكبر حشد للعمال في التاريخ البشري، استدعوا للحفر مباشرة من دون تأمين مورد للمياه، فتساقط العمال كالذباب من شدة العطش، ثم توالى السقوط المميت بسبب انتشار أوبئة الجدري والكوليرا والسل، ووعد المسؤولون باستخدام أدوات متطورة في الحفر «آلات وكرَّاكات»، ولم تنفذ الوعود، وأجبر العمال على شق القناة بالذراع، والفأس، و«القُفة»، وأنشئت إدارة طبية ومركز إسعاف، وصدرت الأوامر بأن يركّزا اهتمامهما على رعاية الموظفين الأجانب، فتُرك العمال المصريون للموت من شدة فتك الأمراض والأوبئة بهم. 

تساقط العمّال المصريون تحت ضغط النزلات الشعبية والأمراض الصدرية، والرمد، والإسهال الشديد من أثر تناول الخبز المقدّد المتعفِّن، والدوسنتاريا، وأمراض الكبد والرمد والجدري، وأمراض غامضة سببتها مادة حارقة غريبة كانت تؤدي إلى الوفاة، وجاءت الكوليرا – 1865 – لتكمل ما بدأته الأمراض البسيطة، وتعصف بالعمال حتى أن شركة الحَفْر لم تجد عمالاً يدفنون جثث الموتى، فتركتهم في الصحراء، واستُؤنف حفر القناة. 

مأساة مصرية كبيرة لعمّال لم يتوقفوا عن التعزية بوفاة زملائهم، والسير في جنازات حاملين نعوشاً رمزية، لضياع جثث الموتى، انتهت بحفل صاخب مهيب بتكلفة 4 ملايين جنيه ذهب تكفي لحضور ملوك العالم وزوجاتهم افتتاحاً ملوكياً للقناة الجديدة على شرف الخديوي إسماعيل، حاكم مصر الجديد.

إقرأوا أيضاً: