fbpx

حياتنا والأنظمة بين “كورفي تاش” والهروب إلى مدينة البط!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أين في بلادنا السعيدة نعرف نحن الانقلابات العسكرية؟ أو حكاماً يعانون لهجاء كلمة يقودون حكوماتٍ وجيوشاً؟ أو، لا قدر الله، مدنيين يلبسون زي العسكريين بين عشيةٍ وضحاها؟ كطبيب عيون مثلاً؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أضحكتني رسالة من صديقٍ قريبٍ لم أره منذ أكثر من عقد. “يحيا الكازار والبطاطس (البطاطا) المقلية!”. أرد بسرعة “إنك جليل يا صاحب الكرامة، كريم يا جليل الصحابة، بل صحيبٌ يا كارم الجلالة”. يرد صديقي، “بحق شوارب كورفي تاش”! أنا وصاحبي، الذي جاورني على مقاعد الدراسة في الجامعة مطلع تسعينات القرن الماضي، كنا من مدمني مغامرات “تان تان” للرسام البلجيكي الشهير هيرغيه (جورج بروسبير ريمي، المعروف بـ”هيرغيه”، 1907- 1983) في ترجمتها العربية (من أصلها الفرنسي) الذي أصدرته دار المعارف المصرية قبل عشرات السنين. كل جملة مما اقتبسنا تقترن بمشاهد مضحكة مما رسم هيرغيه. لكن ككثيرٍ مما نقرأ من نصوص آتية من سياقٍ بعيد منا، زماناً أو مكاناً أو الاثنين معاً، غابت عنا دلالات عناها النصُ المترجم. الجنرال الكازار الذي هتف باسمه تان تان، في جمهورية سان ثيودوروس الخيالية، صورة نمطية لحكام أميركا الوسطى والجنوبية العسكريين، ممن يأتون عبر، الانقلابات العسكرية في “جمهوريات الموز” ويرحلون بأخرى (لاعب أساس في إثارة القلاقل هنا شركة “البنانا الدولية”). أما هتاف تان تان: “يحيا الجنرال الكازار والبطاطس المقلية” فجاء لأن صاحبنا الصحافي كان على وشك أن يواجه حكماً ظالماً بالإعدام، فلما شرع الجنود بإطلاق النار أتت أنباء متضاربة عن صراعٍ على السلطة بين الجنرالين تابيوكا والكازار، ومع كل خبر عن انتصار هذا وانهزام ذاك، يهتف الجنود بحماسة لمن جاء خبر انتصاره، ثم يلعنون الشخص نفسه حين يأتي نبأ هزيمته. وبين الأخبار المتناقضة أتى ان الجنرال المتمرد الكازار قد هُزم، من ثم كان ضرورياً تنفيذ أمر الإعدام بحق صاحبنا، ساعتها اكتشف الجنود أن بنادقهم بلا رصاص (ترى من يخشى الجنود حقاً؟). ولتمضية الوقت يقرر الضابط المسؤول أن يخفف عن نفسه و”ضيفه” بكأس أو اثنتين من شراب محلي (كحلي) قوي. وبعد أكثر من كأس، يخرج تان مع الضابط وهما يترنحان سيراً لإعدام الأول. في مواجهة الرصاص يهتف تان تان (السكران تماماً!): يحيا الجنرال الكازار، ثم يدخل أتباع الجنرال الذي تبين انتصاره (أي الكازار) ليحملوا من هتف باسم زعيمهم أمام الرصاص على الأكتاف، فيهتف مرةً أخرى: “يحيا الجنرال الكازار والبطاطس المقلية!”. سرعان ما نما الخبر إلى موضوع الهتاف، حاكم البلاد الجديد الكازار، الذي يكافئ تان تان، الذي لم يخدم في جيش يوماً، برتبة كولونيل (عقيد) أركان حرب في مكتبه الخاص. “الكازار” ضابط ضيق الأفق، سريع الغضب، متعجرف، ما يكتبه (في واحدة من قصتين هو فيها شخصية محورية) مملوء بالأخطاء اللغوية. طبيعي أنني أنا وصديقي لم نر أياً من الإشارات والدلالات هذه. فأين في بلادنا السعيدة نعرف نحن الانقلابات العسكرية؟ أو حكاماً يعانون لهجاء كلمة يقودون حكوماتٍ وجيوشاً؟ أو، لا قدر الله، مدنيين يلبسون زي العسكريين بين عشيةٍ وضحاها؟ كطبيب عيون مثلاً؟ وأين نجد في بلادنا طالب حقوق فاشل نستيقظ فجأة لنراه “مهيب الركن”؟ أو حتى ضباطاً يرقون درجات فوق خبرتهم فيقودون بلادهم إلى كوارث عسكرية ذات أبعاد كونية؟ معذوران أنا وصديقي إذ نشأنا، ولله الحمد، في بلاد العروبة التي لا تعرف أياً من ذلك. 

مثلما تمثل أميركا اللاتينية مسرحاً لعددٍ من مغامرات تان تان، تمثل بلاد البلقان منطقة أخرى ألهمت هيرغيه. بوردوريا وسلدافيا بلدان خياليان في البلقان في صراع دائم. بوردوريا ربما استوحت من يوغسلافيا السابقة، أو من خليط من صور وتواريخ دول فاشية، أو قريبة من الفاشية، أو حكمتها الشيوعية. حاكم بوردوريا ديكتاتور عسكري باسم كورفي تاش، شارباه رمز قومي، وعلامة على ما تصنعه البلاد (مثلاً السيارات) واسمه موضع الاستهلال والقسم (“بحق كورفي تاش”، و”بحق شوارب كورفي تاش”، و”باسم كورفي تاش”). لم تغب الشوارب عن كثرٍ من حكام أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، لكن الرمزية هنا للحاكم الشمولي (صاحب الذكورية الطافحة التي يمثلها الشارب ربما). زي ضباط كورفي تاش المنتشرين في كل ركن، يبدو أحياناً مشابهاً لزي الضباط النازيين، لكنه أحياناً يقارب أيضاً ضباط الكرملين. سواء كان الإلهام شيوعياً أو نازياً (الفاشية عمت قطاعات واسعة من وسط أوروبا وشرقها وجنوبها قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها، ولم تقتصر على إيطاليا والنمسا وألمانيا)، يمثل كورفي تاش وشموليته التي يقوم على خدمتها ضباط في حلل أنيقة موجات مختلفة من الطغيان والدموية والنزعات التوسعية. في إحدى مغامرات تان تان كتب تحت صورة حاكم بوردوريا: “الصاحب كورفي تاش”، هل في هذا تعديل على “الرفيق” و “الماريشال” جوزيف ستالين؟ أبو الشعب الطيب كما كان لقبه، الذي خوفاً على شعبة قتل الملايين منهم وجوّعهم؟ أو ربما الماريشال تيتو حاكم يوغوسلافيا السابقة؟ شخصياً ذكرني وصف الدكتاتور الوهمي في الأرض المُتخَيلة، لا بحكامٍ عرب، حاشا وكلا والعياذ بالله، بل بمصطفى كمال الملقب بأتاتورك، “أبو الأتراك” مؤسس دولة تركيا الحديثة، والذي كان ولا يزال في قلب تقليدٍ لعبادة الشخصية قل نظيره، مع كل ما يأتي مع ذلك من مبالغات في التقديس، لا بد أن تكون مضحكة أحياناً. 

وفي واحدة من اثنتين من قصص تان تان التي يلعب فيها حاكم سان ثيودروس الجنرال الكازار دوراً رئيسياً، يحاول العودة إلى السلطة التي أزيح منها بانقلاب كالذي أتى به، عبر قيادة مجموعة من الثوار المتمركزين في الأدغال (مما يذكرك بكاسترو ورجاله في كوبا). كيف يُحيد خطر غريمه الجنرال (أيضاً) تابيوكا؟ لا بالقنابل ولا بالرصاص، لكن بإلقاء كمياتٍ هائلة من الخمور من الجو إلى ثوار الجنرال صديق تان تان. الأخير يجد حلاً دوائياً لعلاج ثوار “البيكاروس” (هذا اسمهم) من إدمانهم الكحول. وخلال فوضى مهرجان موسيقي باذخ ، يظهر فيه هيرغيه صور الفقر المدقع بجوار الثراء الفاحش، وبتخطيط ذكي من صاحبنا الصحافي البلجيكي (أي تان تان)، ينجح الجنرال في العودة إلى القصر والسلطة. غريب والله أمر دول أميركا اللاتينية في النصف الثاني من القرن الماضي هذه، يحكمها عسكريون لا يرون فقر رعاياهم ويقيمون المهرجانات الباذخة بجوار أكواخ الصفيح وسكانها من ذوي الأسمال البالية! بل إن بعضهم، وهم العسكريون المخضرمون قادوا بلادهم لكوارث عسكرية (غالتيري في الأرجنتين في حرب فوكلاند عام 1982 )، غريبٌ حقاً أنهم لم يهاجروا لبلادنا السعيدة.

هل كان هيرغيه البلجيكي متعاطفاً مع الملكية؟ ربما. أحد بلاده المتخيلة: “سيلدافيا”، الواقعة أيضاً في مكان ما في البلقان، والواقعة في عداء دائم مستحكم مع جارتها التي يحكمها الماريشال كورفي تاش: بوردوريا، والتي يقال إنه استوحاها (أي سيلدافيا) من ألبانيا ما قبل الحرب العالمية الثانية (قبل انقلابها بلداً شيوعياً شديد البؤس). يبدو ملك سيلدافيا الشاب “أوتوكار” دوماً جليلاً مهيباً، قليل الكلام ، ولا أثر في بلاده للدولة البوليسية المرعبة التي يديرها جاره الماريشال ذو الشوارب، المهيب الركن، الصاحب، والزعيم الخالد، الحاكم للأبد، كورفي تاش. لذلك من فرط مهابة الملك يختلط الكلام عن صديقَي تان تان رجلي الشرطة السرية، التوأمين تيك وتاك، عند مقابلته فيخاطبانه: “إنك جليل يا صاحب الكرامة، كريم يا جليل الصحابة، صحيب يا كارم الجلالة”. كم أخطأ هيرغيه في هواه هذا؟ الحمد لله الذي نجانا من حكم أمثال أوتوكار الخيالي وأسلمنا، لا لحكم كورفي تاش الوهمي صاحب الشاربين، لا، حاشا وكلا، بل ، بل ولله الحمد والمنة، لآخرين، حقيقين جداً. 

كما أراد المترجم…

تان تان كان جزءاً صغيراً مما أتى إلينا من إنتاج ثقافي مترجم وغير مترجم، بعضه كان أوضح من البعض الآخر. مثلما تميزت طبعات دار المعارف من مغامرات تان تان بترجمةٍ ممتازة، كذلك تميزت مجلة كانت أساساً في طفولة كثيرين منا. دار الهلال كانت تصدر نسخةً عربية من مجلة ميكي، بترجمات أضحكتنا كثيراً، وإن غابت عن بعضنا أيضاً دلالات في الترجمة. بطل المجلة المفضل لم يكن أبداً ميكي، الفأر، بل بطوط (Donald Duck) وعائلته، وهذا ينحدر كما نفهم من عائلة اسكتلندية، عمه الفاحش الثراء عم دهب (Uncle Scrooge) شديد البخل كما تنم الصورة النمطية عن الاسكتلنديين، وذكر البط فاحش الثراء هذا يعيش في “مدينة البط”، حيث يملك تقريباً كل شيء، فما تشتريه سيذهب ربحه لعم دهب البخيل. عدا رغبتنا التي نشاركها ضاحكين، في العيش في مدينة البط من فرط ما قرأنا عنها، لصقت برؤوسنا ترجمات مضحكة أعادت إنتاج الأسماء، مثلاً يظهر المغني المشهور “ارفص برجلي” (إلفيس بريسلي) والشخص الحكيم المقدس “الترلم لم لالا” (الدالاي لاما)، حيث يفتقد بندق (Goofy) شراب “البندكولا” (الكوكاكولا). لا أعرف لم قرر المترجم تغيير الأسماء بهذه الطريقة، لكنه أضحكنا وأبقى في ذاكرتنا تلك الابتسامات. وبقي بعضنا يحلم بالعيش في مدينة البط حيث تعرف أنك في خدمة البخيل عم دهب، وتتمنى النجاح أحياناً ربما للساحرة سونيا التي تسعى إلى سرقة سر نجاحه (قرش الحظ)، أو لعصابة القناع الأسود التي لا تكل من محاولة سرقة العجوز الشحيح! غريب أن أحداً لم يفكر في عم دهب، البخيل فاحش الثراء، كمادةٍ ممتازة للدعاية الماركسية؟ وأن أحداً من الحزب الوطني الاسكتلندي لم يقاضِ شركة “ديزني” لهذه الصورة النمطية السيئة عن الاسكتلنديين؟ 

الحياة في القصص المصوّرة

من طفولتنا ومراهقتنا نتندر على القصص المصورة، إنما غير ذلك شأن آخر. ما بين حكم السادات ومبارك نذكر أغاني وطنية وأفلاماً ومسلسلات تسمى “التاريخية” و”الدينية” لا حصر لها، بعضها، كشاربي كورفي تاش وتقديس أتاتورك، يدعو إلى الضحك المرير أحياناً. في الإنتاج التلفزيوني والسينمائي “الديني” والتاريخي” هناك صورةٌ حدية، بين الأبيض والأسود، حيث ما من رمادي، وحيث ليّ لحقائق التاريخ، يسقطه الحد الأدنى من التحقيق. أحد أفضل الأمثلة على ذلك فيلم الناصر صلاح الدين، حيث السلطان الكردي بطل من أبطال القومية العربية قبل ميلادها ببضعة قرون (وهو، مرة أخرى، الكردي). لكنك لن تكتشف ذلك إلا إن قرأت ولو قليلاً، وافتراض الجهل والسذاجة الفكرية أساسي في المتلقي هنا (هو طبعاً أكبر بكثير تحت حكم كورفي تاش، لكن ما لنا نحن وذلك). السذاجة والحدية نفسها انطبقتا على كمٍ هائل من المسلسلات التلفزيونية والأفلام التي تتعامل مع تاريخ الإسلام: جانب المسلمين ملائكي، يرتدي الأبيض غالباً، صوته ناعم رقيق، أما “الآخرون” فسواد وغلاظة وقبح، ناهيك بجمل وعبارات أصبحت مدعاة للضحك، من فرط تشنج الأداء وسذاجة النص. أشهر هذه المشاهد ربما، من فيلمٍ لا أذكر اسمه لممثلٍ ما يبدأ بتحطيم أحد الأصنام بعد إسلامه. فجأة يتوقف ويصرخ: “شُلت يدي”، ثم يعود فيلوح بيده صائحاً: “إنها سلييييمة!” أيضاً صم آذاننا سيل من “الأغاني الوطنية” (رسام الكاريكاتور المصري الأشهر، الراحل مصطفى حسين – توفى 2014 – اخترع شخصية “عبده حريقة” مؤلف هذا النمط من “الفن”). بعض من هذه الأغاني اختص بمبارك تحديداً، منها مثلاً “اخترناك”، وهي طبعاً تتحدث عن اختياراتنا الكثيرة تحت حكم الرجل التي تركناها جميعاً بمحض إرادتنا والتصقنا بها حتى كان ما كان. هذا عدا “أول طلعة جوية فتحت باب الحرية” في إشارة إلى دوره في حرب أكتوبر 1973 (التي دوماً كانت ترد في الإعلام من دون ذكرٍ للثغرة وحصار مدينة السويس). كان هذا “الفن” موضع سخرية آنذاك مثلما هو الآن. منطقي ربما إذاً أن بعضنا حلم ساخراً بالعيش في مدينة البط، ففي الاختيارات الموهومة هي أفضل قطعاً من بوردوريا وحكم كورفي تاش.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!