fbpx

السجن واللاسجن: المنطقة الرمادية للمراقبة الشرطية في مصر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

المراقبة الشرطية هي في الواقع الفعلي ممارسة تخرق النصوص القانونية والدستورية المصرية، كما تنتهك حقوقاً للمراقبين تنص عليها العهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“تَحَمُّل ثقل تسليم نفسي وتوتر التفتيش اليومي والهرولة لضمان عدم التأخر على موعد المراقبة ومحاولات التحكم في مواقيت عمليات الهضم واﻹخراج يستهلك حيزاً كبيراً من طاقة اليوم. النتيجة توتر دائم يستقر في أمعائي. مؤخراً، بدأ جسدي في الانسحاب من وعيي. لا أشعر بالجوع أو العطش، فأنسى أن آكل وأشرب”.

كتب علاء عبد الفتاح السطور السابقة ضمن مقال مدخل شخصي للفجر في الخصومة،خلال الشهور القليلة التي أمضاها خارج السجن. كان قد أنهى في آذار/ مارس 2019 فترة خمسة أعوام من السجن بموجب الحكم الصادر بحقه في شباط/ فبراير 2015، في القضية المعروفة باسم “أحداث مجلس الشورى”. الحكم تضمن أيضاً عقوبة (تكميلية) وهي الخضوع للمراقبة الشرطية لمدة مماثلة للعقوبة الأصلية، أي خمسة أعوام أخرى. وتنفيذاً لهذه العقوبة كان على علاء أن يمضي نصف يومه، من السادسة مساء وحتى السادسة صباحاً في قسم الشرطة التابع له محل سكنه. رفع علاء دعوى قضائية  ليمضي فترة المراقبة اليومية في منزله، استمر نظر القضية لشهور تالية حتى بعدما اعتقل علاء مجدداً في 29 أيلول/ سبتمبر، وهو اليوم لا يزال رهن الحبس الاحتياطي في سجن طرة شديد الحراسة 2.

المراقبة الشرطية هي في الأصل أحد أشكال العقوبات المقيدة للحرية. في تعريفها البسيط هي إلزام للشخص بأن يكون في مكان محدد معروف للسلطات في ساعات الليل (منذ غروب الشمس وحتى شروقها) كل يوم طوال فترة العقوبة. وتستخدم المراقبة الشرطية كعقوبة مستقلة بحسب بعض النصوص القانونية، ولكنها في معظم الأحيان تستخدم بوصفها عقوبة تكميلية.

تنص المادة 28 من قانون العقوبات المصري على مجموعة من الجرائم التي تضاف إلى عقوبة السجن المحكوم بها على مرتكبيها، فترة مماثلة من المراقبة. الحالة الثانية الشائعة لاستخدام المراقبة هي إطلاق السراح المشروط بعد انقضاء نصف مدة السجن المحكوم بها أو في حالة العفو الرئاسي، تعتبر المراقبة في هذه الحالة نوعاً من التدرج في العقوبة من طريق عودة السجين إلى الحياة الاعتيادية واندماجه في المجتمع. بخلاف استخدامها كعقوبة سواء كانت أصلية أو تكميلية تستخدم المراقبة كإجراء احترازي بديل للحبس الاحتياطي.

النصوص القانونية المنظمة لقواعد تنفيذ المراقبة الشرطية أقل وضوحاً من تلك التي تنص على حالات استخدامها، وهو ما فتح الباب أمام إساءة استخدامها من السلطة ممثلة بأجهزتها الأمنية. 

قانون وضع منذ الحرب العالمية الثانية كاستثناء في حالة الطوارئ

القانون الساري حالياً لتنظيم قواعد المراقبة الشرطية هو المرسوم بقانون رقم 99 لعام 1945. صدر هذا المرسوم في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية وبعد رفع حالة الطوارئ التي فرضت طوال فترة الحرب. وقد صدر تحديداً ليحل محل أمر للحاكم العسكري أصدره بموجب السلطات الممنوحة في ظل حالة الطوارئ، وكان من المتوقع مع انتهاء هذه الحالة وقف العمل بالقواعد الواردة في هذا الأمر، ولكن ما حدث هو أن الدولة أعادت إصدار القواعد والنصوص نفسها في صورة قانون دائم، من دون اعتبار لكونها استثنائية بطبيعة الوضع الذي صدرت للتعامل معه.

الإشكالية الرئيسية في النصوص المنظمة للمراقبة هي تحديد المكان الذي يفترض أن يلزمه المراقب في ساعات الليل طوال فترتها. في حين كان القانون في البداية واضحاً لناحية حق المراقب في اختيار هذا المكان وإخطار السلطات به، وكان الاستثناء يتعلق حصراً بالحالات التي لا يتمكن فيه المراقب من إيجاد مكان مناسب أو وجود مخاطر أمنية عليه أو منه، تتعلق بالمكان الذي اختاره بخاصة إن كان محل ارتكابه جريمته. وفي هذه الحالات سمح القانون للسلطات بتحديد مكان بديل هو عادة قسم أو مركز الشرطة التابع له محل الإقامة الأصلي للمراقب أو محل ارتكابه للجريمة. ولكن في الواقع الفعلي، كان الاستثناء هو القاعدة، فربما لتوفير الوقت والجهد المطلوبين لمتابعة المراقبين في محل سكنهم أو غيره، وربما لأغراض منها تكدير المراقب أو الضغط عليه لسبب أو لآخر، كانت السلطات المحلية، أي مديرية الأمن المعنية أو مأمور القسم أو رئيس المباحث فيه، تقرر في معظم الحالات فرض تمضية المراقب ساعات المراقبة في قسم أو مركز الشرطة.

ما تحدث عنه علاء عبد الفتاح ، يعكس واقع تنفيذ المراقبة الشرطية وأثره على حياة المراقب. لا تقتطع المراقبة عدد الساعات المحددة لها من حياة المراقب فقط، ولكنها في الواقع تلقي بظلها الثقيل على كامل ساعات يومه. في حديث مصور مع موقع “مدى” يتحدث عبد الفتاح عن حاجته إلى أن ينتقل إلى مكان قريب من قسم الشرطة قبل موعد المراقبة بساعتين، تحسباً للاختناقات المرورية التي تؤخره عن الوصول إلى القسم في الموعد المحدد، وهو ما يعرضه وفق القانون للحبس ربما لسنة كاملة لمخالفته قواعد المراقبة.

إقرأوا أيضاً:

حياة مع وقف التنفيذ

 مع نهاية ساعات المراقبة في السادسة صباحاً، يخرج المراقب إلى شوارع ما زالت نائمة، فإذا كان عليه أن يمارس عملاً اعتيادياً يوم العمل سيبدأ بعد ساعات، ولكنه بالضرورة سيمتد إلى ما بعد الوقت الذي سيكون عليه فيه التحرك للوصول إلى قسم الشرطة في الموعد المحدد، ومن ثم فيكاد يكون الالتحاق بعمل منتظم أو حتى ممارسة عمل حر أمراً مستحيلاً، وكذلك تصبح الحياة الاجتماعية شبه مفقودة، في ظل النظام الحياتي الذي تفرضه المراقبة. فالأصدقاء والمعارف والأقارب مشغولون في أعمالهم طيلة النهار، وفي المساء حيث يكون متاحاً الالتقاء بهم، يكون المراقَب في قسم الشرطة.

استهلاك ساعات اليوم وقتل الحياة العملية والاجتماعية هما فقط رأس جبل الجليد لما يعانيه المراقَب. المعاناة داخل الأقسام دائماً أكبر. مثل علاء عبد الفتاح بدأ أحمد ماهر، العضو المؤسس لـ”حركة 6 أبريل”، تنفيذ عقوبة المراقبة التكميلية بعد إنهائه تنفيذ حكم بالسجن لثلاثة أعوام. وتحدث ماهر عبر “فايسبوك” عن الأوضاع غير الإنسانية التي يضطر المراقبون إلى تحملها. لا يوجد في أغلب الأقسام أماكن مخصصة للمراقبين، ومع اكتظاظ غرف الاحتجاز يترك هؤلاء ليبحثوا لأنفسهم عن أي مكان خال في القسم. 

في حالة أحمد ماهر بعد خلاف مع ضباط القسم الذين حاولوا إرغامه على “كنس ومسح الأرضية”،  أدى رفضه إلى التعنت وتحويل غرفة المراقبة إلى غرفة احتجاز ومن ثم كان عليه أن يمضي الليل وسط جمع من المحبوسين حشروا جميعاً في مساحة ضيقة، وإلى جانب استحالة أن يجد ماهر وضعاً مناسباً ليتمكن من النوم، كان عليه أن يتنفس دخان سجائر المحبوسين في غرفة سيئة التهوية، فيما كان امتنع عن التدخين بأوامر الأطباء.

تنكيل بحسب أهواء الضباط

سمير (اسم مستعار)، ينفذ مراقبة شرطية حالياً كإجراء احترازي بديلاً عن الحبس الاحتياطي، يوضح لـ”درج” جانباً آخر للممارسة الفعلية للمراقبة، وهو خضوع إجراءاتها بشكل تام للسلطة التقديرية للضابط المسؤول في كل حالة. يقول سمير إن عدد ساعات المراقبة وعدد أيامها خلال الأسبوع ليس ثابتاً بين مراقب وآخر وبالنسبة للمراقب الواحد عبر فترة مراقبته، يخضع لما يراه الضابط المسؤول لأسبابه الخاصة وربما حسب مزاجه الشخصي. ويؤكد سمير أنه في كل مرة يذهب فيها إلى القسم لتنفيذ المراقبة لا يكون على علم بما قد تنتهي إليه الأمور، ربما يستبقونه لعدة ساعات ثم يأمرونه بالمغادرة وربما يفرضون عليه المبيت بالقسم، وثمة احتمال يخشاه وهو أن يستبقوه لوقت غير محدد إما ليحقق أحد ضباط الأمن الوطني معه في القسم، أو لنقله إلى أحد مقار الأمن الوطني ليحتجز ويحقق معه لفترة ما ربما تمهيداً لتدويره على قضية جديدة. 

مثل هذه الإجراءات غير القانونية في أي حال، تتكرر دوماً، فقد اعتُقل علاء عبد الفتاح أثناء تنفيذه المراقبة، الأمر نفسه حدث مع المحامي والناشط هيثم محمدين، وهما فقط مجرد مثالين لممارسة متكررة.

 لا مفر من تعنت الدولة لمصلحة قانون المراقبة الحالي

لم يكن علاء عبد الفتاح هو الوحيد الذي حاول تحدي الأمر الواقع لتنفيذ المراقبة الشرطية بالطريقة التي أصبحت هي القاعدة بدلاً من الاستثناء، فمحمد عادل، أحد أعضاء حركة “6 أبريل” لجأ أيضاً إلى القضاء في محاولة للحصول على حكم يسمح له بأن يمضي ساعات المراقبة في منزله كما ينص القانون. أصدرت محكمة القضاء الإداري في المنصورة في الدعوى التي رفعها عادل في شباط 2020 حكماً لمصلحته، وألزمت وزارة الداخلية بتحديد مسكن عادل كمحل للمراقبة بدلاً من قسم الشرطة. لم يستفد عادل من الحكم الصادر، إذ أعيد اعتقاله ليدخل في سلسلة تجديدات الحبس الاحتياطي حتى اليوم. كذلك لم يستفد غيره من المراقبين من الحكم ففي تموز/ يوليو 2020، وافق مجلس النواب على تعديل المرسوم بقانون رقم 99 لعام 1945، المنظم لإجراءات المراقبة، وبموجب التعديل أصبحت مقار الشرطة هي المحل الأساسي لتنفيذ المراقبة على عكس النص قبل التعديل. ولم يكن تعديل القانون مصادفة بالطبع وإنما أتى تحديداً كرد فعل على الحكم الصادر لمصلحة عادل والذي كان سابقة يمكن لبقية المراقبين استغلالها لمصلحتهم.

المراقبة إلكترونية بديل إنساني؟

في آذار/ مارس الماضي تقدمت النائبة سميرة الجزار باقتراح باستخدام وسائل مراقبة إلكترونية بديلاً عن الحبس الاحتياطي وعن إجراءات المراقبة المعتادة. الاقتراح يقتدي بالمعمول به في الكثير من دول العالم التي تستخدم فيها أدوات بسيطة يلبسها المراقب في معصمه أو قدمه ومن خلالها يمكن تحديد مجال حركته بشكل دقيق مع كشف خروجه عن هذا المجال، بالمخالفة للالتزام بالمراقبة، بصفة فورية ويمكن حينها تتبعه والقبض عليه. لم تتم بعد مناقشة الاقتراح وربما لن يناقش، وهو بالطبع يمثل تقدماً كبيراً عن الوضع القائم حالياً، وهو يواجه الحجة التي ساقتها الحكومة في المذكرة الإيضاحية لتعديل قانون تنظيم المراقبة الحالي، وكانت عدم كفاية موارد الشرطة البشرية لمتابعة كل المراقبين في منازلهم.

 يتيح نظام التتبع الإلكتروني أن يكون المسؤولون المعنيون على علم بمكان المراقب في كل وقت، وأن يضمنوا وجوده في المحل المخصص لأداء المراقبة في أوقاتها من دون الحاجة إلى الانتقال إلى هذا المحل.

ولكن هل يكفي توفير حل مناسب حقيقي لتقبل الأجهزة الأمنية به؟ ليتحقق ذلك ينبغي افتراض أن هذه الأجهزة تستخدم المراقبة لتحقيق الأهداف المنصوص عليها في القانون، ولكن الشواهد المختلفة تؤكد أن الأمر ليس كذلك. عندما يتعلق الأمر بالمحبوسين احتياطياً على ذمة قضايا سياسية، فتمديد فترات حبسهم هو دائماً لتحقيق أهداف لا تتعلق بأغراض التحقيق أو خشية هروبهم، ولكنها تتعلق إما بتوقيع عقوبة من دون إدانة، أو لتحقيق أغراض سياسية وأمنية مختلفة. الأمر نفسه هو ما يجعل من المراقبة أداة لتحقيق مآرب مختلفة للأجهزة الأمنية بصفة بخاصة في حال المراقبين على خلفية قضايا سياسية. التضييق على هؤلاء والتنكيل بهم، هو في ذاته هدف كاف في كثير من الأحيان، ولكن تقييد حركتهم، والضغط لانتزاع معلومات أو لفرض التعاون مع الأمن، وغير ذلك هي أهداف أخرى. 

في نهاية المطاف المراقبة الشرطية هي في الواقع الفعلي ممارسة تخرق النصوص القانونية والدستورية المصرية، كما تنتهك حقوقاً للمراقبين تنص عليها العهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ولكنها مثل غيرها من الممارسات، وجدت في الأصل كإحدى أدوات الدولة الأمنية، والتي مع غيرها من الأدوات تستخدم في المنظور الأوسع، لإدارة واقع الحياة السياسية في مصر.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!