fbpx

سجال مع الفيدراليين اللبنانيين:
جمهورية الملل الاتحادية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لكي نفهم الدافع وراء دعوات “الفيدرالية اللبنانية” التي شهدتها الآونة الأخيرة، فلنستمع إلى الحجج التي ساقها بعض دعاة الفيدرالية…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في العشرينات من القرن الماضي، حمل المسلمون في لبنان راية الدعوة إلى الفيديرالية. أما في الآونة الأخيرة، فقد أصبح معظم حَملة لواء الفيديرالية من المسيحيين أو الدروز. فعلاوةً على شعورهم المشروع بانعدام الطمأنينة، الذي يشاركهم فيه معظم اللبنانيين، ساد بين أنصار الفيديرالية اعتقاد راسخ بأن مشروعهم السياسي هو الدواء الشافي للعلل التي يعاني منها لبنان. وعلى قدر ما لقلقهم من أسباب على قدر ما لوطنيتهم، على الغالب، من صفاء. ولم تكن لدي رغبة في الاعتراض على قناعاتهم لولا العواقب غير المقصودة التي قد تترتب على بعض مطالباتهم. فمجرد تكرار شعار ما مرةً تلو الأخرى لا يجعل منه أمراً بديهياً من دون دليل. وإن كانت الفيديرالية هي الحل بالنسبة إلى البعض، فلا داعي لاختبارها على حساب الدستور.

قبل الشروع في مناقشة ما تعنيه الفيديرالية في نسختها اللبنانية الحالية، أبدأ بما لا أستطيع إنكاره. إن تمكين المناطق والأقضية اللبنانية من الحصول على سلطة أكبر في السيطرة على مواردها، والقدرة على الوصول إلى عائداتها المالية، والسعي من أجل تحقيق رفاهيتها الاقتصادية والثقافية، يُشكِّل سياسة عامة مرغوبة للغاية. وهذا، في الواقع، جزء من وثيقة اتفاق الطائف (الجزء 1، القسم 3)، التي تقترح اعتماد “اللامركزية الإدارية الموسعة” على مستوى الأقضية (وما دون)، بما في ذلك انتخاب المجالس لإدارة الشؤون المحلية. وتحقيقاً لهذا الهدف، يصبح انتقال الصلاحيات من السلطات المركزية إلى السلطات المحلية شرطاً أساسياً (على سبيل المثال، سيكون لكل من قضاءي بشري وزغرتا مجلسه الخاص).

على نحو مماثل، وعموماً، لا يسعني إلا أن أُعجب بنماذج الحكم الفدرالي، على اختلافها، التي تقدمها دول مثل سويسرا  وألمانيا والولايات المتحدة، والرابط بين السلطات المحلية والفيديرالية في تنفيذها السياسات العامة. غير أن النماذج الثلاثة جميعها كانت ناتجة من جهود حربية فرضت على كيانات مستقلة اتحاداً مركزياً. ففي حالة الاتحاد السويسري، تأسس هذا الاتحاد بشكل عرضي في أواخر القرن الثالث عشر بين كانتونات مستقلة، ما لبث أن تحول إلى تحالف رسمي خلال الحروب المتتالية ضد هيمنةِ امبراطورية الهابسبورغ. في حين استكملت الإماراتُ الألمانية المستقلة- التي تضامنت في القرن السابع عشر في عهد الملوك البروسيين المتعاقبين وآلاتهم الحربية الهائلة- وحدتَها في القرن التاسع عشر بفضل حنكة بيسمارك في دبلوماسيته الحربية.

 أما المستعمرات الأميركية الثلاث عشرة فقد توحّدت خلال حرب الاستقلال الأميركية التي انتلقت في العام 1775 ضد بريطانيا بسبب اعتراض المستعمرات على السياسات الضريبية دون تمثيل سياسي صحيح. غير أن النظام الفيديرالي الأميركي لم يتخذ شكله المركزي مع الأولوية لسلطة الكونغرس إلا بعد الحرب الأهلية عام 1865 وتطوير الدستور بإقرار التعديلات الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة التي ألغت العبودية، وحدّدت شروط المواطنة، وضمنت المساواة أمام القانون، ومنحت المواطنين الأميركيين من أصل أفريقي حق الإقتراع. والأمر الأهم هو أن الدستور الجديد منح الكونغرس سلطة فرض هذه التعديلات على الولايات (الجنوبية) المتردّدة.

في ضوء ذلك، إذا كانت الفيديرالية قد نتجت تاريخياً من منحى نحو سلطة أكثر مركزية، فكيف يتوافق هذا مع هدف دعاة الفيديرالية اللبنانيين الذين يرغبون في الابتعاد من سلطة الدولة التي يُفترض أنها مركزية؟ غير أنهم يستشهدون بأحد الأمثلة الحديثة وهو انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، أو بنموذج سعي أسكتلندا إلى الاستقلال عن المملكة المتحدة. وفي المقابل، يتجاهلون أن هذه الدول كانت قائمة بذاتها في الأساس، ويتناسون التكاليف الاقتصادية الهائلة المترتبة على مثل هذه القرارات (فقد تجاوزت تكاليف البريكست بالنسبة إلى المملكة المتحدة حتى الآن 250 مليار دولار أميركي، في حين قد تصل التكلفة الاقتصادية على أسكتلندا، التي يبلغ عدد سكانها 5.5 مليون نسمة، إذا ما انفصلت، إلى نحو 20 مليار دولار أميركي سنوياً).

ولكي نفهم الدافع وراء دعوات “الفيديرالية اللبنانية” التي شهدتها الآونة الأخيرة، فلنصغي إلى التعليل الذي يقدمه بعض دعاة الفيديرالية، مثلما يظهر في هذا المقال الذي نشره أخيراً أحد الأصدقاء على الشبكة: “يرى المسيحيون أن اتفاق الطائف قد جردهم من العديد من حقوقهم… أما الطائفة السنية فتمرُّ بفترة من الوهن… وفيما يتعلق بالطائفة الشيعية، فإنها ما تزال تُعبِّر عن سخطها، منذ اتفاق الطائف، نظراً إلى أن الدستور استبعدها من السلطة التنفيذية… وانتهى بها الأمر إلى فرض نفوذها بالقوة”. ويمضي المقال ليؤكد أن “دستور الطائف” الذي صدر عام 1990، “أصبح مصدراً للعرقلة وعدم الاستقرار”.

عند قراءة هذه الحجج، قد تنمو لدينا قناعة بأن الدستور يُحدد حقوق كل طائفة وواجباتها، وقد مُنِي بالفشل الذريع نظراً إلى ما آلت إليه الأمور. بيد أنه لا شيء من ذلك صحيح، ففي الواقع، لا علاقة للدستور بالطوائف أو الأديان، بل هو يضمن المساواة أمام القانون لجميع اللبنانيين (المادة 22)، ويلتزم بالميثاق العالمي لحقوق الإنسان الذي وقّع عليه لبنان. الاستثناء الوحيد هو المادة 95 التي تشير إلى انتخاب مجلس النواب مناصفةً بين المسيحيين والمسلمين.

إقرأوا أيضاً:

 إذاً بمزاعم تقوم على فرضيات خاطئة بالنسبة إلى الدستور، إليكم بالاستنتاج الذي وصل إليه المقال: “تناولوا مسألة الفيدرالية بعقل منفتح… فهي طريقة لتفادي تفكك الدول”. وعليه، فبما أن لبنان عرضة للتفكك، فلا بد أن تكون الفيدرالية مخرج خلاصه.

ولكن فيديرالية ماذا تحديداً؟ لا يشير صديقي المعلّق بكلامه هذا إلى كيانات جغرافية (مستقلة). فما يذكره من اعتراضات إنما يخص الطوائف. غير أن الجغرافيا والطائفة في لبنان فلا تتطابقان، على العموم، بسبب اختلاط اللبنانيين الطائفي في أكثر المناطق.

لإيضاح الصورة، إليكم بمثال آخر على احتجاج مشروع عبَّر عنه المحامي نديم البستاني في مقابلة تلفزيونية، ما لبث أن حوّله صاحبه إلى حجة للمقارعة الطائفية. فقد حثَّ البستاني السلطات القضائية على اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضد “مؤسسة جمعية القرض الحسن” التابعة الى “حزب الله”، التي تتلقى إيداعات نقدية وتقدم قروضاً وتطلب من المقترضين ودائع بالذهب كضمانات (“رهنيات”). من الواضح أن هذا نشاط مالي يستلزم ترخيصاً من مصرف لبنان، لا تمتلكه الجمعية، بينما هي توسع “أعمالها” إلى منطقة جبيل وسواها. يمضي البستاني ليستنتج، عن حق، أن هذا نشاط غير قانوني يشبه غسيل الأموال. إذاً، ما الحل لمكافحة هذا النشاط غير المشروع بالنسبة إلى البستاني؟ الفيديرالية، بالطبع، لحماية أهله من تعديات “طائفة” أخرى تمارس عملاً غير مشروع في عقر داره! من غير الواضح كيف يربط “الفدرلة” (المذهبية) بمكافحة الأعمال الجنائية، وأما إذا كان هدفه النأي بمنطقته (جبيل) عن “دولة حزب الله”، فلمَ الاتحاد معها أولاً بأول؟

ما يدعو إليه “الفيديراليون” في الحقيقة هو “فيديرالية المِلَل”، وهو عود على بدء مع نظام المِلَّة العثماني. ففي ظل الحكم العثماني، منذ سقوط القسطنطينية عام 1453 إلى بدايات القرن العشرين، لم يكن هناك مفهوم لـ”المواطنة”، بل اعتراف بـ”رعايا” الدولة العثمانية تبعاً لأديانهم أو مِلَلهم. كان المسلمون (من المذهب الحنفي السني) يشكلون الطبقة الأولى، مع امتيازات إدارية وعسكرية مرتبطة بهذه المرتبة، فيما غيرهم من الملل (الروم والأرمن واليهود) كانوا ينتمون إلى مرتبة أدنى. ورغم أن التلاصق بين القومية والدين، أو الملّة، كان وارداً في بلاد مثل صربيا أو بلغاريا، إلا أنه لا يتطابق مع بنية بلاد مثل كوسوفو أو الشام، ولا سيما لبنان، لتعدد الأديان والمذاهب في أرض واحدة.

عموماً، يفتقر أي نظام يقوم على الإقصاء أو التمييز إلى التماسك الاجتماعي اللازم لبناء اقتصاد فعال. ومع التفرقة بين الملل وغياب سلطة مركزية جامعة، إضافة إلى ضعف في حقوق الملكية، لا سيما ملكية الأرض، عجزت الدولة العثمانية عن بناء اقتصاد فاعل قابل للتقدم، مما أدى إلى بداية تراجعها في النصف الثاني من القرن السابع عشر.

من خلال الدعوة إلى نسخة مصغرة من نظام المِلَّة العثماني البائد (لا يُلدغ المؤمن من حجر مرتين)، يتراجع الفيديراليون اللبنانيون، من دون قصد، عن فكرة المواطنة والمساواة، وهما الشرطان الأساسيان لنظام اجتماعي مستقر لا بد منه لأي نجاح اقتصادي. ولنأخذ الحجة إلى نهايتها. فلنفترض أننا أقمنا “كانتوناً” أحاديَّ المذهب، من خلال دمج قضاءي زغرتا وبشري، على سبيل المثال. فبغضِّ النظر عن هشاشة الموقع الجغرافي للكانتون، ما الذي يضمن استقراره إذا وصلت إليه مطامع “حزب الله” بدعم مالي وعسكري إيراني؟

إذا كان السبب الجوهري لـلطموح “الفيديرالي” هو أن اللبنانيين قد ضاقوا ذرعاً بأنشطة “حزب الله” التي ضربت بمفهوم الدولة عُرض الحائط، مع العواقب الاقتصادية الكارثية التي نعيشها، فيجب أن يكون تركيزنا على حل تلك المشكلة، في أبعادها الداخلية والخارجية، لا أن نلتف عليها.

إن السعي إلى فيديرالية “ترقيع” على أساس المِلّة، يتجاهل المسألة المركزية التي نعاني منها والتي تتمثل في خرق القوانين والدستور (وهو الأمر الذي قد يتغلغل عبر حدود الكانتونات إذا أقيمت)، ويؤدي إلى مزيد من الشرذمة السياسية والتقلّص الاقتصادي. فلا مبرر للعبث بدستورنا المدني أو رميه جانباً لتقاعس سلطة جائرة عن تطبيقه. إن الممارسة الشاذة منذ عام 1943 -المخالفة للدستور ومبدأ المساواة الذي ينص عليه- التي تسخّر الرئاسات الثلاث لطوائف ثلاث دون سواها، هي الأمر الذي يجب أن يبدأ فيه الإصلاح.

مع إقرار اتفاق الطائف وتعديلاته لدستور 1926 (الجمهورية الأولى)، أُنيطت السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء بعد أن كانت مُناطة برئيس الجمهورية قبل الطائف. فمع الطائف، بات دور رئيس الجمهورية أكثر رقابياً وتوجيهياً منه تنفيذياً. ذلك لأنّ فعل التنفيذ انتقل إلى الحكومة مجتمعةً، حيث ليس للرئيس “حصّة”، ولا اقتراع، بل رأي. هذا إذا احتُرم الدستور.

وبالتالي لا مبرر للتمسك بهذا المنصب أو سواه من طائفة أو أخرى، بل من مفارقات الطائف، إنْ نفّذنا أحكام الدستور، أنه سهّل مشاركة سائر الجماعات اللبنانية في السلطة على قدم المساواة دون إقصاء أحد منها. 

إقرأوا أيضاً: