fbpx

عن لبنان وجيلنا المرذول…
200 ألف ليرة من أجل ساندويش “هوت دوغ”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

المسألة ليست مادية أو اقتصادية بحتة، إنها أعمق بكثير. نحن نتحدّث عن معنى أن نكون على قيد الحياة، معنى أن نحصل على استراحة آمنة في نهاية الأسبوع من دون أن يكلّفنا ذلك ثروة…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“نحن جيل ملعون”، تكتب لي صديقتي على “واتساب” كلّما تعثّر العالم في عينيها. ودوماً أجيبها بالطريقة ذاتها: “ملعون ونص”. ثم نتبادل ضحكتين افتراضيتين، ونعود كل واحدة إلى عالمها.

إنها طريقتنا لمواجهة الأرض التي تدور عكس ما تتمناه أصابعنا والمركب الذي لا يلبث يسير عكس أمانينا. لا أعرف كيف كان سيكون الأمر لولا السخرية. فلنتخيّل أننا لا نملك رفاهية السخرية والهزل. أعتقد أن البلاد كانت ستتحول إلى ساحة واحدة موحّدة، حيث حبل طويل، يعلّق كل واحد مشنقته عليه ويرتاح إلى الأبد، إن كان الموت يعني الراحة.

لكن الحمد لله ما زلنا نملك هذا الترف، فالسخرية كما يقول فيودور دوستويفسكي، هي الملاذ الأخير لشعب متواضع وبسيط.

صديقتي “الملعونة” تلك تعيش بـ800 ألف ليرة لبنانية أي نحو 70 دولاراً شهرياً، بعدما تم اقتطاع نصف راتبها بسبب الأزمة الاقتصادية، التي طلب رب عملها أن يقف موظفوه إلى جانبه لتخطيها، معلناً أنه لن يستطيع سداد حقوقهم ولا منحهم إجازاتهم السنوية، وأن عليهم أن يكونوا متفهمين لا بل شاكرين لأنه لم يطردهم حتى الآن. تدفع صديقتي 400 ألف ليرة، إيجاراً للغرفة التي تعيش فيها، وتقسّم مأساتها على الـ400 ألف ليرة المتبقية. والمأساة قد تأتي على شكل علبة فوط صحية بات شراؤها يتطلّب ميزانية، أو على شكل علبة سردين باتت بـ12 ألف ليرة، أو دواء غسيل أصبح ثمنه أغلى من أعمارنا. للمأساة عندنا أسماء وأشكال كثيرة.

بالعودة إلى اللعنات، هي في النهاية ذريعة، أو موجة نركبها، حتى لا نرمي المسؤولية على شخص ما أو على أنفسنا. لكننا لا نستطيع إخفاء ذاك الشعور العميق والحقيقي بأننا مرذولون، مكروهون، وكأنّ أحدهم ينفّذ انتقاماً عظيماً بأجسادنا وأيامنا.

صديقتي الأخرى، وهي معلمة روضة، مع أنها مجازة بالإخراج والتمثيل، طردتها المدرسة التي كانت تعلّم فيها، بعدما مضت أشهر على عدم تقاضيها راتبها. الآن فتحت على “فايسبوك” صفحة لبيع الأواني المنزلية الرخيصة، لتربح منها القليل القليل. لكنّ الأمر لا ينفع، تقول لي من شباك سيارتها القديمة. زوجها موظف إداري في الدولة اللبنانية الجليلة، ويتقاضى مليون و500 ألف ليرة، يدفع منها 500 ألف شهرياً لسداد قرض الإسكان، و300 ألف لقسط فرش المنزل الشهري. وأيضاً يكون عليهما تقسيم مأساتهما على الـ700 ألف ليرة المتبقية. مرّةً احتاجت السيارة القديمة إلى مكابح جديدة، فاضطرا إلى الاستدانة حتى لا يموتا من الجوع. والجوع هنا ليس تعبيراً مجازياً. إنه الواقع. (الواقع يصيبني بالربو كما يقول إميل سيوران، صديقي المكتئب الأبديّ).

أصحاب العمل يعقدون اجتماعات لموظفيهم ليطالبوهم بأن يقفوا إلى جانبهم في هذه الأحوال ويصمدوا، “فكلّنا عائلة واحدة”. لقد سمعت قصصاً كثيرة من هذا النوع في الفترة الأخيرة. غالباً ما يحتاج الأغنياء إلى دهس الفقراء حتى يبقوا واقفين. الحياة عندنا تستدعي أن يقف أحدهم، إنما على رفات شخص آخر، يكون أقلّ أهمية وثراءً، وأكثر خفوتاً.  

“الويسكي” الرخيصة التي أشتريها منذ بدء الأزمة باتت بـ120 ألف ليرة. لقد كان سعرها لا يتجاوز الـ30 ألف ليرة. كأس يوم السبت التي أعدّها مقدّسة، منذ سنوات، باتت مكلفة جداً، وربما عليّ العدول عن تلك العادة. لم نعد نستطيع أن ننسى أوجاعنا وإن لكأس واحدة، بات هذا رفاهية أيضاً، تتجاوز قدراتنا الشرائية. أشعر ببعض السذاجة وأنا أشكو سعر الويسكي أو سعر السجائر أو تنبك النرجيلة، فيما يواجه كثيرون الجوع والموت… لكنّ الأمر مهمّ، لأنه يرتبط بلحظات فرحنا وتسكّعنا المسروقة، بسهراتنا مع الأصدقاء أو برفقة كتاب أو حبٍّ ما. المسألة ليست مادية أو اقتصادية بحتة، إنها أعمق بكثير. نحن نتحدّث عن معنى أن نكون على قيد الحياة، معنى أن نحصل على استراحة آمنة في نهاية الأسبوع من دون أن يكلّفنا ذلك ثروة. نحن نتحدّث عن حاجة الناس إلى غذاء متوازن، بحيث يكون اللحم متوفراً والسمك متوفراً والخضار والفاكهة متوفرة، وأيضاً “الويسكي” متوفراً. “طيب باخد خيارة وحدة” قالت سيدة في محل الخضار حين أخبرها صاحبه أن سعر كيلو الخيار هو 10 آلاف ليرة. وجهها لا يفارق رأسي.

“علبة الهوت دوغ 15 ألف ليرة، أحتاج إلى علبتين، مع مايونيز وزجاجة كاتشاب، ثم إلى زيت وبطاطا”، تروي جارتنا، وتضيف: “ابني جوجو طلع عبالو هوت دوغ. دفعت 200 ألف لأعملو ساندويش هوت دوغ”.

أنهي هذا المقال- المدوّنة، أشعر بحاجة إلى شرب طنٍّ من القهوة، إنه شعوري اليومي عند الخامسة بعد الظهر، وهو جزء من الحياة ومن معنى أن نكون على قيدها، أن ننتظر قهوة بعد الظهر. أنزل إلى الدكان، “ما في بن مدعو مدام”، أتذكّر لحظات فرحنا وتسكّعنا التي أسقطوها من أعمارنا، أتذكّر جملة صديقتي، أكاد أقولها للبائع، “نحن جيل ملعون”. أكتفي بسؤاله إن كان تلقّى لقاح “كورونا”، علماً أنه يعاني من أمراض عدة، فيجيبني بالنفي. أدفع عشرين ألف ليرة من أجل فنجان قهوة، أغلي الركوة، أفتح النافذة، أحاول أن أتنفّس… ينجح الأمر في بعض الأحيان.

إقرأوا أيضاً: