fbpx

إنه عيدي… أنا الحمّال وراعي الغنم والصحافي المهاجر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عيد العمال يشبه عيد ميلادي، هامشي وشخصي، ومناسَبة لاستدعاء سنين من التعب، وتذكّر العمر الضائع في البحث عن لقمة العيش، والحزن على “اضطرارى” لرمي كل تلك السنوات في مفرمة الحياة الرديئة، لأحصل على القليل الذي لا يكفي، لكنه ضروري للبقاء…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بالنسبة لي، لم يكن أبداً عيد العمال مناسبةً للاحتفاء، أو كتابة الخطابات العالية عن دور النقابات العمالية في المجتمع، وتأثيرها في سن القوانين التي تحفظ للعامل حقوقه، وإطلاق الدعوات أو الحملات التي تتكئُ على تاريخ المناضلين الأوائل، أمثال أوغست سبايز وبيتر ماكغواير، فهذه مساحة المتن المزدحمة التي لا أنتمي إليها، وهي مكتظة بالأصوات والخطب الثائرة دائماً.

عيد العمال يشبه عيد ميلادي، هامشي وشخصي، ومناسَبة لاستدعاء سنين من التعب، وتذكّر العمر الضائع في البحث عن لقمة العيش، والحزن على “اضطرارى” لرمي كل تلك السنوات في مفرمة الحياة الرديئة، لأحصل على القليل الذي لا يكفي، لكنه ضروري للبقاء على قيد الحياة.

بدايات أيار مناسِبَةٌ دائماً للنبش في الذاكرة، ومناسَبَةٌ لإلقاء هذا الماضي -الثقيل جداً- ووضعه قليلاً على جهة ما، غير رأسي وكاهلي، حتى أستريح من التعب، وأنظر إليه مثلما أنظر إلى حقيبة السفر.

في المرحلة الابتدائية (أيام الحصار الدولي على العراق 1999-2003) عملتُ حمّالاً. كانت لدي عربة حديد، أحمل فيها الحصة التموينية للعوائل وأجرّها إلى البيوت، وأفرغها داخل المنازل، وأحياناً أحمل أكياساً أثقل من وزني وأصعد بها إلى الطابق الثالث، وكذلك عملتُ راعياً للغنم لمدة سنة، وهذه قصة لا أستطيع حتى ذكرها، وأخاف منها جداً لغاية الآن. 

في المرحلة المتوسطة (احتلال العراق 2003) اشتغلتُ عاملَ بناء، مع الكثير من البنّائين، أتذكر منهم شريدة (أبو ابراهيم) كان مدمناً على مادة الجص، حتى خلال استراحة الغداء كان ينادي علينا: أريد جص. وعملتُ أيضاً في تكسير الحجر، وهذا من أكثر الأعمال الشاقة التي عملتها في حياتي، كنتُ آخذ حمل الشاحنة الكبيرة من الحجر بعشرين ألف دينار أو أقل (15 دولارا) وحين أنتهي من العمل أعود إلى البيت محطماً (حرفياً) أكون متعباً حدّ الموت، ورائحتي قذرة من التعرّق والغبار، وعملتُ أيضاً في صيد السمك ببحيرتي حديثة والحبانية في الأنبار.

في المرحلة الإعدادية (خلال سيطرة تنظيم القاعدة والحرب الطائفية) عملتُ في كل شيء: حارس، عامل بناء، حمّال، صيّاد سمك، عامل نظافة. 

في المرحلة الجامعية (كلية الهندسة المدنية) اشتغلتُ بشكل رئيسي عاملَ بناء وحمّالاً للمواد الإنشائية: الاسمنت، وحديد التسليح، الطابوق، والحصى والرمل. 

طيلة دراستي في كلية الهندسة كنتُ أخرج من الجامعة وأذهب إلى “السِكلَّة” وهي المكان الذي تُعرض فيه المواد الإنشائية، نتجمّع نحن العمّال بانتظار أي أحد يأتي لشراء شيء، ثم نتفق معه لتحميله، كنا نأخذ على تحميل طن الاسمنت وتفريغه 2500 دينار عراقي (2 دولار).

أتذكر في أحد الأيام، كنتُ أجلس في مكتبة كلية الهندسة وأشكو من بؤس الحياة في العراق، فقال لي الدكتور وسام وكان معاون العميد حينها: يا ميزر لم تسحقك الحياة بعد. 

لم أقل له إنَّ الحياة سحقتني منذ زمن بعيد وما زالت تدوس عليَّ بقسوة لا أستطيع احتمالها، وكنتُ أسمعه مثل أخٍ كبير، وصديق قريب، لكنني في تلك الأيام كنت أخرج من الجامعة بعد انتهاء الدوام، وأذهب للعمل في تحميل المواد الإنشائية وأعود إلى المنزل في الليل، كنتُ أعود مع العمّال في شاحنات الحمل، نجلس متكدسين في الحوض المخصص لنقل البضائع أو المواشي، ولم أكن أملك الوقت الكافي للدراسة، لقد كنتُ أكافح للبقاء على قيد الحياة، فقط. 

خبرتُ الجوع، والتعب، والعوز، والعجز عن شراء أبسط الأشياء، وفي مراتٍ كثيرة أذهب إلى الجامعة وليس معي دينار واحد، ولا أملك ثمن استنساخ المحاضرات، لذا أتعذَّر بأنني لا أحتاجها، وكان ثمن سندويشة الفلافل كبيراً عليّ، وكنتُ أتظاهر دائماً أنني بخير، لكنني لم أكن أبداً كذلك. 

هذا كلّه يحدث في مدينة الرمادي، التي تخرج من حرب وتدخل في أخرى، كنتُ أذهب إلى هذه الأعمال والشوارع تشبه ساحة المعركة، بل هي كذلك تماماً، جثث في الشوارع، واشتباكات تحدث في أية لحظة، وسيارات مفخخة وعبوات ناسفة، وكل ما يمكن أن يجعل يومك كابوسياً وقاتلاً.

في غربتي عن العراق حالياً، أتذكر كل تلك الحياة الرديئة الآن، وأعرف معنى أن تكون عاملاً يهدر وقته من أجل البقاء، حتى لو كان هذا البقاء على حساب الحياة.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!