fbpx

إيران: قصة التعايش المستحيل بين ظريف و”ديبلوماسيي سليماني”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مأزق الثورة الإيرانية اليوم هو فقدانها بونابارتها قبل عودته من حملاته المتتالية! أما الجمهورية فلا يبدو أن لها غورباتشوفاً يلوح في الأفق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

شكّل محمد جواد ظريف ومنذ تسلمه سدة الديبلوماسية في الجمهورية الإسلامية علامة فارقة في المشهد السياسي العام للشرق الأوسط. لكن المفاوض “الأول” للجمهورية والذي نجح بالمناورة والتفاوض مع خمس دول كبرى حتى حقق الاتفاق النووي عام 2015، كان دوماً أسير طبيعة نظام الحكم الثوري – الجمهوري، في بلاد لا تستطيع سلطاتها المنتخبة احتكار الحق السيادي على القرارات السياسية والإقتصادية والاجتماعية، بقدر ما تتنافس مع مشروعية عسكرية- دينية تُعتبر هي الحارس المؤتمن على الأمة- الثورة. فإيران اليوم هي انعكاس لتعايش ما بين الثورة والجمهورية الإسلامية في إيران وجمهوريتها.

في المقابل، تقف الجمهورية الإسلامية أمام مفترق طرق يتضمن الانتخابات الرئاسية المقبلة، إضافة إلى مسألة خلافة المرشد وتأثير ذلك في العلاقة مابين مختلف مواقع القوة في الدولة وخارجها.  بخاصة أننا نرى ولربما للمرة الأولى الجمهورية الإسلامية بلا شخصية محورية واضحة المعالم ( إذا ما استثنينا المرشد الثمانيني). فالإمام الخميني الذي أسس حكمه بكاريزمته وقوة حضوره ومشروعيته الثورية التأسيسية أكثر مما حكم عبر منظومة الحكم الناشئ، فكان هو، بشخصه، المصدر الأساس للمشروعية. وهكذا نجح بالحكم والتحكيم ما بين مختلف القوى. في السياق عينه، حكم السيد خامنئي مدفوعاً بالمشروعية الثورية التأسيسية وبمنظومة متكاملة من المؤسسات الثورية الموازية التي أنشأها لتحصين حكمه في وجه التناقضات الداخلية وتمكينها من ترويض النظام الجمهوري المستحدث. مع خامنئي، تخطت الثورة الإسلامية مرحلة المراهقة العنفية، التي طبعت أداءها في الثمانينات، لتصبح مشروعاً سياسياً توسّعياً متكاملاً، تمكّن للمرة الأولى من تخطي الخطوط الحمر الدولية في ما يتعلق بمسألة الطاقة النووية والتسلح الاستراتيجي (وإن كان ما زال محدود التقنية)، وأعاد تشكيل الحدود السياسية لجمهوريته في الشرق الأوسط خالقاً نقاط اشتباك – هي مصدر أساسي للمشروعية – مع الصراع العربي- الإسرائيلي.

 لكن الثورة التي نجحت بإعادة تشكيل الحدود السياسية لإيران لما يتخطى جغرافية الجمهورية، كان عليها التعاطي مع ميكانيزمات العمل السياسي في النظام الجمهوري والتي أخرجت التمايز بين الإصلاحيين والمحافظين إلى العلن، بخاصة مع قوة الدفع التي شكلها الرئيس السابق محمد خاتمي. هكذا توسعت الهوة داخل النظام الإيراني بين مكونات لا تعترف لبعضها بكامل المشروعية، وبلغ الشقاق ذروته في لحظة الانقضاض على المتظاهرين المطالبين بالكشف عن مصير أصواتهم وأصواتهن في انتخابات 2009، والتي أفضت إلى التجديد لأحمدي نجاد. فكيف بإمكان الثوريين المنخرطين في عملية تحضير توسيع الحيز الجيواستراتيجي للأمة والمدفوعين بالعقيدة الدينية القدرية، أن يرضخوا لسياسي منتخب من جماهير شعبية يعتبرونها قاصرة أمام “سمو” مشروعهم؟ 

أمام هذا المشهد، تأتي تصريحات محمد جواد ظريف، بغض النظر عن فحواها وما كشفت عنه من تناقضات ضمن بنية السلطة الإيرانية والجهات التي كانت خلف التسريب، لتؤكد أن الأزمة، في عمقها، هي أزمة بنيوية بين الجمهورية (من جهة) والثورة (من جهة أُخرى) الإسلامية في إيران. ففي حديثه إنما كان ظريف  يقدم شهادة عن طبيعة العلاقة الهشّة وغير الموثوقة ما بين المشروعية الانتخابية والمشروعية الثورية الميدانية. الأزمة هي أبعد من النزاع التقليدي، الذي تمكن ملاحظته حتى في أعرق الديموقراطيات، بين مدنيين منتخبين وعسكريين معينين. إنما هي تعبر عن أزمة في فلسفة الحكم الذي أرسته الثورة الإسلامية في إيران والتي احتاجت إلى منظومة عمل تشغيلية للأمور الحياتية وتحمل القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية، تعطيه طابعاً ديموقراطياً حداثوياً، عبر انتخابات “تنافسية”، وتطلق عليه مسمى سلطة سياسية منتخبة جماهيرياً على أن تبقى خاضعة لمشروعية الثورة التأسيسية والمدعمة بالميدان. هكذا، تصبح الجمهورية وأجهزتها وشخصياتها، كروحاني وظريف وقبلهما خاتمي ونجاد، جزءاً من ديكور ديموقراطي صُمم وجوده في السلطة لخدمة تحقيق أهداف تحددها أجهزة الثورة ذات السيادة الفوق انتخابية.

من يحكم الجمهورية؟

من يحكم إيران اليوم؟ تسأل ورقة بحثية صادرة عام 2020 عن مؤسسة “هوفر” البحثية التابعة لجامعة ستانفورد للباحثة سينام فاكيل والباحث حسين رسّام.  هي “الدولة العميقة” بحسب الباحثين اللذين يفصلان مكوناتها العسكرية والأمنية والاقتصادية والقضائية ويشيران إلى العلاقة التأسيسية ما بينها وبين بداية ولاية السيد علي الخامنئي، الذي احتاج إلى تطوير بنيان تنظيمي يحصنه في وجه مواقع القوّة الأخرى في الثورة. تشير الورقة البحثية إلى ما يمكن اعتباره الثالوث المشكل للدولة العميقة والمكون من مكتب الولي الفقيه والمعروف أيضاً بـ”بيت رهبرى”، منظمة الحرس الثوري والسلطة القضائية. هذا إضافة الى مجموعة من المنظمات والمؤسسات الوزارية التي تلعب دوراً محورياً في حماية الثورة على مختلف المستويات الاجتماعية والأمنية والسياسية وهيئات إدارة المراقد الدينية وامتداداتها (للاطلاع على الورقة البحثية اضغط هنا).

 يضم مكتب الولي الفقيه مجموعة من الأجهزة التنفيذية الداخلية والخارجية فهو وإضافة إلى معظم الصلاحيات الدستورية الموكلة لمقام المرشد الأعلى يتشكل من:

1- جهاز استطلاع ورصد يتكون من شبكة من آلاف المندوبين الى مختلف الدوائر والوزارات والمؤسسات الرسمية المدنية والعسكرية والتربوية.

2- جامعة المصطفى المفتوحة والتي تمتلك فروع في أكثر من 70 دولة ويرتادها حوالى 50 ألف تلميذ من 120 دولة.

3- ما يشبه “وزارة خارجية”، موازية  ومهمتها إدارة العلاقات مع دول العالم الإسلامي.

4- وحدة تنسيق مع القطاعات العسكرية المنخرطة في الحرب في سوريا أو العراق أو القدرات الدفاعية الصاروخية للبلاد.

5- وحدة حماية أمنية معنية مباشرة بأمن المرشد.  

أما الحرس الثوري فإضافة إلى دوره المركزي في حماية الثورة وإشرافه على الأعمال العسكرية الخارجية، فهو يمتلك مجموعة من الأذرع “المدنية” والاقتصادية والأكاديمية التي تتحكم بمعظم مفاصل الحياة الاقتصادية وحتى المدنية في البلاد، وعلى رأسها تأتي مؤسسة تعاونية الحرس الثوري والتي تعنى بتأمين المستلزمات الحياتية لأفراد الحرس، وهي الآن تنشط في قطاعات الإسكان والاتصالات والزراعة والصناعة والمناجم والانشاءات. إضافة إلى “مؤسسة خاتم الأنبياء” والتي تعتبر من أكبر المؤسسات الاقتصادية في البلاد والتي تحظى بالعقود الحكومية الكبرى وتعيد توزيعها عبر شبكة من المتعاقدين الثانويين. إلى جانب المنظومة العسكرية والاستخبارية للحرس والمكلفة في مهمات مختلفة في الداخل والخارج وتتشكل من شبكة ضخمة من الوحدات والفيالق المتخصصة والتقنية والتي تشكّل ما يمكن وصفه بقوات عسكرية موازية للقوات النظامية.

بدورها لعبت السلطة القضائية، ولا تزال، دوراً حاسماً في المفاصل الرئيسية لمسار الثورة حتى أن إبراهيم رئيسي – المسؤول الأعلى عن السلطات القضائية في البلاد كان من ضمن القضاة الذين أشرفوا على الإعدامات الجماعية للمعتقلين السياسيين عام 1988. تضم السلطات القضائية مجموعة من المحاكم الادارية والجنائية والعسكرية والثورية وكان لهذه الأخيرة دور محوري في ملاحقة النشطاء السياسيين والمتظاهرين المشاركين في احتجاجات عام 2009. 

بالعودة إلى كلام ظريف المسرّب، والذي يتقاطع مع ما ذكره المؤرخ الإيراني آراش عزيز في كتاب “قائد الظل” (2020) عن سيرة قاسم سليماني، مفصلاً دوره، ومن خلفه منظمة الحرس الثوري، في صياغة السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، عبر فريق عمل كبير ممن يسميهم عزيزي ديبلوماسيي العسكر والمكلفين بشكل مباشر بالقيام بمهمات تتخطى صلاحيات البعثات الديبلوماسية المدنية. حتى أنه تحدث عن تعيين الحرس الثوري رؤساء البعثات الديبلوماسية في سوريا والعراق ولبنان، وهو ما تشير إليه الورقة البحثية لفاكيل ورسّام. كما يشير عزيزي إلى الدور التنفيذي الذي لعبه “ديبلوماسيو” سليماني في المحادثات إبان الحرب على أفغانستان، حيث لعبت المعلومات التي قدمها الجانب الإيراني دوراً مفصلياً في عملية الانقضاض على حركة طالبان. 

الواضح أنه لا يمكننا غض النظر عن وصول مرحلة التعايش ما بين التمثيلية الانتخابية للجمهورية الإسلامية والمشروعية “الميدانو- دينية” للثورة و”حراسها” إلى خواتيمها.  فالثورة التي تتحضر لمرحلة ما بعد السيد خامنئي، لربما تتجه إلى خوض النزاع ضمن بيتها الداخلي! فبعد تطويع الجمهورية عبر الإطباق على مفاصل البنية البيروقراطية والتوغل الاقتصادي المتشعب في المجتمع والنجاح في إنتاج سلطة تشريعية، يتقاسمها المتشددون والأصوليّون والولائيون وتترأسها شخصية كمحمد باقر قاليباف المعروف بانتمائه للحرس، والتحضير لإعادة التجربة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، مع توالي الترشيحات من شخصيات الحرس وعلى رأسها سعيد محمد، المسؤول الأول عن مؤسسة “خاتم الأنبياء”، والذي قد يشكل في حال وصوله قوّة دفع لرؤية خامنئي للحاجة لقيادة ثورية فتية وهو ما يعني حكماً إخراج القيادات السياسية التقليدية من السباق. تبقى مسألة خلافة الوليّ الفقيه المهمة الأكثر تعقيداً والتي قد يكون إبراهيم رئيسي، الأقرب إليها، كونه قد يشكل التقاطع الأبرز ما بين العمّامات والعسكر. هذا إن لم يكن السيد علي خامنئي الولي الفقيه الأخير!

في هذا السياق، يصبح السؤال عن أثر حديث ظريف على المشهد السياسي العام في إيران مسألة تفصيلية، ويصبح الأجدى التساؤل حول التوجهات المستقبلية للحرس الثوري، الضلع الأكثر تنظيماً، واحتمال إطباقه الكُلّي على مفاصل البلاد والحكم مباشرةً، عبر ما يشبه الديكتاتورية العسكرية الشاملة حيث تصبح مهمة النظام الحرص على إعداد شعب يليق الإيديولوجيا التي تحملها القيادة في مسار قد يفضي إلى بعثنة إيران. 

يبقى أن مأزق الثورة الإيرانية اليوم هو فقدانها بونابارتها قبل عودته من حملاته المتتالية! أما الجمهورية فلا يبدو أن لها غورباتشوفاً يلوح في الأفق. 

إقرأوا أيضاً: