fbpx

هل يظلم اللبنانيّون مصلحة السكك الحديد؟ 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“السكك الحديد من نحو 40 سنة واقفة وما صار فيها توظيفات، فأي إنسان منطقي لازم يعرف أنّ الموظّفين القدامى طلعوا بالسن وبالكاد نلاقي حدا على قيد الحياة من الأساس”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“السكك الحديد من حوالي 40 سنة واقفة وما صار فيها توظيفات، فأي إنسان منطقي لازم يعرف أنّ الموظّفين القدامى طلعوا بالسن وبالكاد نلاقي حدا على قيد الحياة من الأساس”  ~  زياد نصر، المدير العام ورئيس مجلس إدارة مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك.

مرّ أكثر من 50 سنة على المرّة الأخيرة التي صعد فيها الأستاذ أكرم (70 سنة)، إلى القطار من منطقة رأس النبع في بيروت إلى المنارة. يتذكّر المقاعد المختلفة في القطار، حيث الجلوس في مقاعد القشّ الأماميّة كان مقابل 10 قروش (فرنكين)، أمّا الجلوس في المقاعد الخشبيّة الخلفيّة فكان بـ5 قروش (فرنك واحد). يضحك أكرم وهو يتذكّر كيف كان يخاطر ويقفز من القطار عندما يصل إلى وجهته حتى لا يضطر إلى انتظار الوصول محطّة القطار التالية والعودة من هناك مشياً، ولكن “لا بدّ من القفز بدقّة ودهاء والركض أمتاراً عدة بعدها لتجنّب الوقوع أو الاصطدام بشيء ما”، وفقاً له. “لم يكن القطار مجرد وسيلة نقل مميّزة رخيصة الثمن، كان شكله جميلاً جدّاً” يقول أكرم. لقد كانت السكك الحديديّة في لبنان الشاهد الأكبر على تطوّر البلاد وازدهار مدينة بيروت ولكنّها كانت الشاهد أيضاً على الانهيار خلال الحرب الأهلية (1975 – 1989). فبعدما كان ترامواي بيروت جسر عبور والتقاء حضارات بين مختلف المناطق والطوائف والعادات، كان لانقطاعه في ذاك الوقت رمزيّة توحي بانقطاع الأوصال بين النسيج اللبناني الذي بات هشّاً كبقايا جسر السكّة الحديد في مار مخايل الذي انهار في آب/ أغسطس 2019 لمجرّد مرور شاحنة تحته. ثم أتى انفجار 4 آب 2020، ليقضي على ما تبقّى. 

الأضرار جرّاء انفجار 4 آب

بحسب منصة Impact التابعة للتفتيش المركزي، وهي أوّل منصّة حكوميّة رقميّة في لبنان، تحتاج مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك اليوم إلى أكثر من 4 ملايين و100 ألف دولار لإعادة إعمارها عقب الدمار الذي لحق بها بسبب انفجار المرفأ. 

وأكّد المدير العام ورئيس مجلس إدارة “مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك”، زياد نصر، لـ”درج”، أنّ هذا الرقم هو نتيجة التقرير الذي أعدّته الوحدة الهندسيّة في التفتيش المركزي عقب الانفجار، ونظراً لوجود المؤسسة في مار مخايل على مقربة من موقع الانفجار فإنّ الضرر الذي أُلحق بها كبير جدّاً ويتمثّل بالتصدّع الذي لحق بالمباني القديمة وخصوصاً بالهنغار الذي انهار سقفه (وتبلغ مساحته نحو 16 ألف م² ويُستخدم كمستودع لحافلات النقل المشترك). أمّا من ناحية الجهة التي ستتحمّل هذه التكاليف، فحتّى هذه اللحظة لم تتّضح الصورة. كان رأي المديريّة، وفقاً لنصر، “أنّ تتحمّلها الدولة متمثّلة بالحكومة وتحديداً وزارة الماليّة وتكلّف الهيئة العليا للإغاثة بأن تقوم بمناقصة أو تلزيم واحد للمؤسسات والإدارات العامّة. ولكن بحسب الأنظمة والقوانين، يمكن لكل إدارة أن تطلب اعتمادات وتقوم بالتلزيم ولكن الاعتمادات غير متوفّرة اليوم…”، إضافة إلى أنّ إدارات الدولة تدفع حوالات مصرفيّة، وبالتالي، في ظلّ الانهيار المصرفي وفقدان العملة الصعبة، هذا عائق جديد يحول دون تلزيم شركة لترميم الأضرار.

موظفو السكك: عدد ورواتب

وانتقد نصر ما اعتبره مبالغة في تقدير عدد موظفي المديريّة ورواتبهم، فبينما قدّرت مصادر عدد موظّفي المصلحة بحوالى 300 موظّف وقدّرت الراتب الشهري لكل منهم بـ3 ملايين و270 ألف ليرة، أي ما يساوي 981 مليوناً شهرياً، و11 مليار و 772 مليوناً سنوياً، نقض نصر هذه المعلومات وأكّد أنّ عدد الموظّفين في المصلحة هو “حكماً أقل من 200 موظّف” خصوصاً أن “المؤسسة هرمة” بحسب وصفه، ويتقاعد موظّفون بشكل يوميّ، علماً أنّ التوظيف في هذه المصلحة متوقّف منذ زمن. ومن المتوقّع أن يتقاعد هذا العام حوالى 70 موظّفاً. وفي هذا الإطار، يقول نصر، “السكك الحديد من نحو 40 سنة واقفة وما صار فيها توظيفات، فأي إنسان منطقي لازم يعرف أنّ الموظّفين القدامى طلعوا بالسن وبالكاد نلاقي حدا على قيد الحياة من الأساس”. 

ولكن نصر أكّد أنّ الـ13 مليار، ميزانية المصلحة لعام 2021، لا تصرف على الأجور وحسب، بل أيضاً على اشتراكات الضمان الاجتماعي (23.5 في المئة عن كل راتب) ومنح التعليم وغيرها من الخدمات التي تعدّ من حقوق الموظّفين، إضافة إلى بعض أعمال الصيانة، لافتاً إلى أنّ معظم الموظّفين هم من الفئتين الثالثة والرابعة لذا فأجورهم منخفضة. كما قال إنّ عدد موظّفي مصلحة السكك الحديد تحديداً لا يتعدّى الـ9.

وبينما أثار قرار وزارة الصحّة العامة نقل موظّفة من مستشفى رفيق الحريري الحكومي إلى مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك في شباط/ فبراير 2019 ضجّة واستهزاء حول عمل هؤلاء الموظّفين، إلّا أنّ نصر يؤكّد أنّ جميع الموظّفين يعملون في قطاع النقل المشترك، فمثلاً بدل أن يكون هناك محتسب لكلّ من النقل المشترك وسكك الحديد، فموظّف واحد يقوم بالعمل.

ولكن النقل المشترك التابع للدولة ليس أفضل حالاً بكثير من السكك الحديد المهترئة التي توقّفت عن العمل. ففي لبنان 40 حافلة فقط تتبع للدولة تعمل على تسعة خطوط. 

هل نظلم المصلحة؟

لكن بينما يستشيط اللبنانيّون، الذين فاض بهم الأمر من فساد مسؤوليهم ووزاراتهم ومن الوضع الاقتصادي الخانق، غضباً في كل ما يعلّق بالمصلحة، إلّا أنّ موازنة الأخيرة تشكّل  0.08 في المئة فقط من الموازنة العامّة. “السكك الحديدية عدد موظفيها 10، لا أكثر ولا أقل، ولكن لديها عقارات بعشرات آلاف الأمتار، وبحاجة لموظفين يعملون دوماً، من أجل عدم التعدي عليها. هي تفصيل صغير نسبة إلى الهدر بالمليارات. لنبتعد من البهورة والتضليل بدل تناسي الهدر بالمليارات، ولا يزايدن أحد علينا في هذا الإطار”، قال الوزير السابق غسان حاصباني في إحدى مقابلاته. فيما يعتبر البعض أنّ موظّفي المصلحة مظلومون، كونهم يعملون في مصلحة تدور حولها الشبهات والأقاويل، وأنّهم يعملون كسواهم من الموظّفين في وزارة الأشغال وقد تكون مهمات بعضهم  أكبر من مهمات موظّفين آخرين في الوزارة.

وفي هذا السياق، قال نصر إنّ هناك شغوراً كبيراً في موظّفي المصلحة “فلا مسّاح ولا مهندس” وأكّد أنّه أخذ موافقة من مجلس الخدمة المدنيّة، في فترة سابقة، لتوظيفات ملحّة وسريعة في مديريّة السكك الحديد “لأننا بحاجة لمراقبة أملاك المديريّة وإدارتها وإعداد التقارير حول وضعها… فالكثير من أصحاب العقارات المجاورة والبلديات يتقدّمون بمعاملات لها علاقة بهذه الأملاك العقاريّة (كشبكة صرف صحي مثلاً)، ولذلك يجب أن تكون الإدارة مسؤولة عن مراقبة هذه المعاملات”، مشيراً إلى أنّه يضطر إلى إرسال سائقي حافلات النقل المشترك، الذين توقّفوا عن القيادة بسبب أعمارهم، للقيام بجولات أسبوعيّة على أملاك السكك الحديد لضمان عدم التعدّي عليها في ظلّ ما وصفه بـ”تقاعس السلطات المحليّة عن مواجهة التعدّيات على أملاك المديريّة”.  

 فعلى رغم عدم وجود مسح طوبوغرافي دقيق حول أملاك السكك الحديد، وفقاً لنصر، فبحسب بيانات ومعلومات المصلحة، تبلغ مساحة أملاكها نحو 9 ملايين م²، وفقاً لنصر.

خلفيّة تاريخيّة

أُنشئت “مصلحة سكك حديد الدولة اللبنانيّة والنقل المشترك لبيروت” في أوائل الستينات من القرن الماضي، بعدما اشترتها الحكومة اللبنانية من شركة DHP الفرنسية (خط شام- حماه وتمديداته). وأصبحت لاحقاً “مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك” وذلك بعد تاريخ طويل من العمل على خطوط سكك الحديد الذي بدأ من السلطنة العثمانيّة مروراً بالانتداب الفرنسي ووصولاً إلى تأميم المصلحة والسكك الحديد. 

ووصل عدد حافلات الترامواي إلى 200 حافلة يبلغ طول كلّ منها 180 متراً، وكانت تتّسع في فترة الذروة إلى حوالى 200 شخص.

وكان للترامواي أربعة خطوط سير: 

الخط الأوّل هو خط مخصّص  لنقل الركّاب ينطلق من حرج بيروت وصولاً إلى الدورة ويمرّ بالمزرعة، النويري، البسطة، ساحة البرج والجميزة.

الخط الثاني هو أيضاً خط مخصّص لنقل الركّاب ينطلق من فرن الشباك ليصل إلى المنارة مروراً بالمتحف، الباشورة، باب ادريس والجامعة الأميركيّة. 

الخطين الثالث والرابع هما خطان تجاريان. 

ولكن عقب اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975، توقفت القطارات عن نقل الركاب، بسبب الاضطرابات الأمنية والسياسيّة التي شهدتها البلاد، لكنها استمرت في نقل البضائع بطريقة متقطعة إلى أن توقفت عن العمل بشكل نهائيّ عام 1989.

ماذا يتطلّب تفعيل سكّة الحديد اليوم؟ 

بعد إطلاق عمليّة الإعمار في مرحلة ما بعد الحرب، “قامت شركة Sofrerail الفرنسية بإعداد دراسة لإعادة تشغيل خط السكة الحديد الساحلي، الذي يربط صور بطرابلس مروراً ببيروت بهدف نقل الركاب، لكن هذا المشروع، كما غيره، بقي نائماً في أدراج مجلس النواب بحجة عدم توفير الاعتمادات اللازمة، وبحجّة صعوبة التخلص من الإنشاءات المخالفة التي تعدّت على الأملاك العامّة خلال سنوات الحرب”، وفقاً لكلمة نقيب المهندسين جاد تابت في مؤتمر “نحو نقل عام منظم في لبنان” الذي عُقد عام 2017.  

ويؤكد نصر أنّه “منذ بضعة أعوام قدّم الاتحاد الأوروبي دراسة مجانيّة حول متطلّبات واحتياجات إعادة إحياء خط بيروت طرابلس الساحلي (وصولاً إلى الحدود اللبنانيّة- السوريّة)، وقدّرت الدراسة تكلفة المشروع بـ3 مليارات دولار أميركي. وعندها أبدت شركات اهتمامها في مشروع إعادة إحياء السكك الحديد ولكن ظروف البلاد، وخصوصاً الانهيار الاقتصادي، جمّدت أي تطوّر محتمل في المشروع، إلّا أنّ نصر يرى أنّ الاتحاد الأوروبي ما كان ليقدّم منحة بإعداد هذه الدراسة إن لم يكن هناك النيّة الحقيقيّة في تمويل تنفيذ إعادة إحياء النقل السككي.

فالنقل السككي ليس مجرّد وسيلة نقل، بل هو نقطة تلاقي وتعارف وألفة، فكما تقول الكاتبة الأميركيّة ماريان ويغينز “… ما يثير إعجابي في القطارات ليس حجمها أو معداتها ولكن حقيقة أنها تتحرك، وأنها تجسّد صلة بين أماكن غير منظورة”.

إقرأوا أيضاً: