fbpx

9 أشهر على الانفجار… بيروت من نايلون

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مؤلم أن يكتب المرء عن مدينته في كل مرة بهذا الوجع ذاته، مؤلم ألا يملك فرصة ليروي عنها قصةً أخرى، قصة حب أو نجاح أو ازدهار.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هناك على حائط المجزرة يبدو كل شيء ملفوفاً بالنايلون. المدينة الزجاجية التي قُتلنا فيها يوم 4 آب/ أغسطس 2020، تحوّلت الآن إلى مدينة من نايلون، تنتظر إعادة إعمار ما.

إنه مسار مؤلم من الحداد عبرناه خلال الأشهر الماضية، مسار من محاولة التأقلم مع مدينة أصبح جرحها غير قابل للترميم، وما يمكن ترميمه فيها، ينتظر أموالاً خارجية لن تصل ما دمنا بلا حكومة، وما دام الفساد يأكل هذه الدولة من رأسها إلى أخمص قدميها. إننا نعيش في مكان، يُفترض أنه دولة، ذهب رئيس حكومتها إلى قطر ووزّع هناك سيرته الذاتية، على المجتمعين لمساعدة لبنان، لم يفكّر أبداً بأشلاء من سقطوا وبأجساد أولئك الذين بقوا أسابيع تحت الردم، إذ إن دولته أطفأت الأنوار، لأنها تعبت من التفتيش وخلدت للنوم. إننا نعيش في مكان، نضطر فيه أن ندير وجوهنا كلما مررنا من مكان الفاجعة، ثم نستدير ببطء، نعتقد أن ربما تغيّر شيء، ربما تراجعت البشاعة من الميناء الذي يعرف مشاويرنا كلها وجنوننا ومآسينا، وأيضاً ضحكاتنا. لكنّ الخيبة تعاودنا بسرعة، فالكارثة ما زالت هنا حاضرة، تتنفّس بيننا، تذكّرنا بأننا مجرّد جثث سائرة، وبأننا شعب يعتقله رجال السلطة الذين أتى بهم لخدمته، ولا يأبه به أحد.

حين أتى قريبي خلال إجازة عيد الميلاد، من ألمانيا، طلب أن يرى مكان الانفجار، هناك حيث جثة مرفأ، بقي صامداً منذ العهد الفينيقي. هناك حيث جثة مرفأ يضم حكايا المدينة منذ الإفرنج وسفنهم إلى أخبار معاوية بن أبي سفيان والحروب والأيام التي مرت على مدينة عظيمة اسمها بيروت.

مرفأ بيروت الذي يتعامل مع 300 مرفأ عالمي وترسو فيه نحو 3000 سفينة سنوياً وتمثل البضائع التي تدخل إليه 70 في المئة من حجم البضائع التي تدخل لبنان. مرفأ بيروت كما قرأناه ودرسناه في صفوف الجغرافيا، نظر إليه قريبي وبكى من دون أن يقول أي شيء. حدّق بلافتة أسماء ضحايا الانفجار، قرأ ما كُتب هناك، رنا إلي كأنه يسألني: “ماذا فعلتم؟”. أخبرته بصوت خفيض عسى ألا يكون سمعه، “بكرا بيرجعوا بيعمروه”. كنت أكذب. لم يتعمّر شيء، ازددنا دماراً وبؤساً.

مؤلم أن يكتب المرء عن مدينته في كل مرة بهذا الوجع ذاته، مؤلم ألا يملك فرصة ليروي عنها قصةً أخرى، قصة حب أو نجاح أو ازدهار.

حين مررت اليوم قرب حائط النايلون الذي هناك، لا أعرف من أين خرجت أغنية “راجع راجع يتعمّر راجع لبنان” التي قدمها زكي ناصيف خلال الحرب الأهلية، واعتبرت يومها نشيداً للصمود والوطنية. يصدح الصوت من المذياع فيما أفكّر في أننا ما زلنا نرقص على وقع تلك الأكاذيب، “يا زنود اللبنانية شدّي معنا”، وأن زكي ناصيف رحل إثر نوبة قلبية، وبندب كبير في قلبه ذاك، لأنّ لبنان الذي كتبه بقي حبراً على ورق.

يوم تناثر الناس والبيوت إثر الانفجار المدوّي، كتب كثيرون أننا نعيش في مدينة زجاجية، إذ ملأ الزجاج الشوارع، الآن إنها حقبة النايلون والانتظار الطويل. حتى الحقيقة ملفوفة بنايلون ولا أحد يريد كشفها لترميم الألم الذي في قلوب أهالي الضحايا الـ200 والمتضررين وهم كلنا.

يومها خرج رجال الدولة وأخبرونا أنّ التحقيقات ستظهر الحقيقة خلال أيام، لكنّ ما حصل حتى الآن، عبارة عن المزيد من العبثية والمزيد من نكء الجراح. يأتي قاضٍ ثم يأتون بآخر ونعود إلى الصفر، على قاعدة “بيغيب نهار بيطلّ نهار والناطر ناطر على نار… بيجي مختار بيروح مختار والسيارة مش عم تمشي”، كما غنّت فيروز في مسرحية “ميس الريم” عام 1975. 9 أشهر ولم يحاكم شخص واحد، لم يسجن مسؤول واحد، لم يُقَل مجرم واحد من كرسيّه. وهذه جريمة أخرى نفّذت بحق بيروت وبحقنا.

في مدينة النايلون خرجت أماكن كثيرة تخصنا ونحبها من الخدمة، دُمرت مئات البيوت والأبنية الأثرية، حتى باتت بيروت مدينة مسلوبة الهوية، مشوّهة الوجه. ومن قام بكنس الزجاج من الشوارع في 4 آب، وحده يحاول بمبادرات مدنية وفردية مسح الدم عن جبهة بيروت ومحاولة ترميم ما يمكن من دمارها. أما الدولة فتواصل غيبوبتها وفجورها… وتتربص بمزيد من الجرائم والكوارث في مدينة انكسر ضلعها ومات أهلها. وللموت أشكال كثيرة.

إقرأوا أيضاً: