fbpx

إيران الخوذة أم مايكروفون الغناء؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كنت دائماً أتخيّل أن الإيرانيين يكرهوننا، لا أعلم كيف استنتجت ذلك ومن أين. هل هي من قصص أقاربي وأصدقاء اهلي الذين سقطوا في الحرب العراقية الإيرانية؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عام 2014، قمت بتصميم مجموعة من الصور بأسلوب “الكولاج”، خاصة بشخصية “أليس في بلاد العجائب” تجول داخل مدن عراقية، فتناقلت بعض صفحات التواصل الإجتماعي صوري. تحت إحداها، وجدت رسالة من شخص، يدعى رسول شكراني، يقول انه يرسم فتيات جميلات، ويضع الرسوم قرب المساجد الإيرانية. يحب رسول عمله، لكن حكومته تكره هذا النوع من الفنون، وقد تعرّض لمساءلات من السلطات الإيرانية. 

في رسالته الطويلة، التي دوّنها تعليقاً على احدى صوري، يشكو فيها من المضايقات التي يتعرض لها من نظامه، ويثني في الآن عينه على ما أقوم به، ويشجعني على الاستمرار. ويذيل الرسالة بـ”سلامي وحبي للعراق”.

حين قرأت عبارته وجدتني أمام شعور متناقض، فأنا لطالما شعرت في طفولتي ومراهقتي بأن إيران بلد لا تأتي منه سوى المسلحين والحرب والميليشيات والموت. أنا ابنة حقبة التسعينات وما بعدها بكل حروبها وآلامها وقساوتها. 

حاولت التواصل مطولاً مع رسول لأتعرف إلى بلده. بحذر اسأله، وبحماسة واندفاع يجيبني. لكنه يحكي كثيراً عن الماضي، وكأن ايران بالنسبة إليه، قد توقفت عن السير، في منتصف السبعينيات. يرسل لي صوراً بالأسود والأبيض:

-هل ترين؟ هذه الصور في إيران، وهذا الشعر المتطاير كان موجوداً قبل أن يغطيه حجاب الثورة الإسلامية. يحلم رسول بعودة بلاده أكثر من نصف قرن إلى الوراء. يقول إن الإيرانيين يريدون إعادة ترميم بلادهم بالذكرى والحنين. 

لكن هنا، وبالنسبة إلى عراقيين كثر فالذاكرة المرتبطة بإيران متجذرة لا يمكن قلعها بسهولة، وهي مملوءة بالألغام. كنت دائماً أتخيّل أن الإيرانيين يكرهوننا، لا أعلم كيف استنتجت ذلك ومن أين.

هل هي من قصص أقاربي وأصدقاء اهلي الذين سقطوا في الحرب العراقية الإيرانية؟

ربما. لكن صداقة رسول التي بنت جسراً ممتداً من بغداد حتى طهران، منحتني فرصة الانغماس أكثر في بلد كانت أصوات أزيز الرصاص والقذائف والعبوات الناسفة تغطي في ذاكرتي على أصوات المطربين الإيرانيين المفضلين لدى أبي. وفوق سطح بحر الضجيج الهائج في رأسي، تطفو قصائد فروغ فرخزاد كزورق نجاة.

بعد رسول، كانت لي فرصة العمل المباشر مع إيرانيين. حدث ذلك في “أرض محايدة”، في ألمانيا عندما قدمت مسرحيتي invisible، والمعنية بقصص نساء منسيات من العراق. المفارقة أن الراقصة التعبيرية التي أدت دور معاناة النساء من خلال حركات جسدها، كانت إيرانية، تقيم منذ سنوات في برلين، ولا تستطيع زيارة بلدها الأم بسهولة. قصتها مشابهة لقصص عراقيين وعراقيات لم يتمكنوا في عهد صدام وما بعد صدام من دخول العراق. المعاناة واحدة، ومنذ 40 سنة، لم تنته، تتحدث موشغان كثيراً عن اشتياقها إلى طبيعة أرضها وهوائها، كما تكتب صديقتي حنين المقيمة اليوم في بلد جديد، تحاول موشغان طبخ السبزي لكنها تفشل في الحصول على النكهة نفسها كما تعدّها عائلتها في إيران. تذكّرني بصديقة عراقية في المهجر تحلم بتناول طبق “دولمة” أمها. تخبرني انها سعيدة بالعمل مع عراقيين، ولا تريد أن تتذكر الحرب. تسألني: هل تودين حقاً زيارة إيران؟ تخرج السؤال معجوناً بالخوف، فهي نفسها تخشى الذهاب إلى بلادها، لأن ما تقدمه من فن، ينبذه النظام هناك: “لو تمايلت بجسدي في إيران، كما أفعل الآن في ألمانيا، فسيرقصون فوق جثتي بدلاً من الصلاة عليها”.

تحلم كثيرا بإنشاء فرقة خاصة في ايران، لكنها تتحسر على ضياع أحلامها مع أحلام أبناء شعبها: 

“لم يتغيروا، بل أجبروا، جميعهم يحبون الغناء والرقص والسهر. من ترغب الآن بارتداء العباءة مجبرة؟. كانت أمي في زمن مضى ترتدي البيكيني. لا أعرف كيف يمكن أن يعيش المرء في مكان يعاقبه بسبب ارتدائه ما يعجبه، لهذا هاجرت ولهذا لم اتمكن من دخول وطني مرة اخرى”. 

لم نكن مجرد فريق يجمع عراقيين وايرانيين وألماناً وبريطانيين. في لحظة واحدة، تسقط كل الحدود والجنسيات والتاريخ. شعرت بتلاحم غريب، كأنني إنسانة مجردة من كل هذا الشعور الثقيل والأسئلة التي لا تنتهي. نقل فريق من جنسيات عدة قصصاً لنساء عراقيات. وكان الأمر ممتعاً. صرت وأنا اقرأ لسهراب سبهري أتخيل القصائد بصوت موشغان، او إليهي، الممثلة الايرانية الجميلة، التي كانت معنا في برلين. كنت سعيدة بقدرتي على الفصل، كما الماء والزيت، إيران المتشددة عن إيران المنفتحة. إيران المتجهمة عن إيران الضاحكة. وإيران القمعية عن إيران الراقصة بحرية.

بدأت علاقتي مع هذه الدولة مبكراً، كأي عراقي يفتح عينيه فيجد أن هناك عدواً متربصاً به. عدو خلق له، حتى قبل أن يتعلم النطق. ولدت بعد سنوات من الحرب العراقية- الإيرانية، ومع ذلك وجدتني من حيث لا أدري مشاركة فيها. كانت مجلات الأطفال التي يأتي بها والدي، تتضمن اعداداً منشورة خلال فترة تلك الحرب. رسومات على الأغلفة، وقصص كثيرة، بوجوه حازمة وثياب عسكرية، صواريخ وطائرات، والأهم من هذا كله، هو طريقة وصف الجندي العراقي فيما يدافع عن تربته وأبناء بلده أمام “العدو الايراني الغاشم”. أقرأ قصة وأتخيل وحش إيران، اسأل والدي الذي لا يحب فكرة أن نكره احداً مهما كان سيئاً، لكنه أيضاً، غير قادر على محو ذاكرته الحربية، و8 سنوات من عمره كانت بمثابة صرخة في أذن حياته، صرخة يتردد صداها كثيراً، وتخرج بهيئة أصوات رفاقه الذين قضوا في حرب طويلة, لكنه يمزج الكثير من الحكايات المؤلمة  بنكات طريفة من الجبهة التي عاش فيها “أجمل” سنوات شبابه: احد اصدقائه كان اسمه عباس، وهو صابئي، كان يتحدث في احلامه ويقاتل، يستمع الجنود لكل اسراره في نومه، وحينما يستيقظ يخبرهم بفرح غامر، كم قتل من الجنود الايرانيين. قتل عباس في معركة نهر جاسم، “نهر الدم” كما يسميه أبي. احد اصدقاء والدي، بُترت قدمه اليسرى في يوم 8/8/ 1988، يوم اعلان وقف اطلاق النار وانتهاء الحرب. كان الجميع يرقصون بدموعهم. لكن قدماً واحدة لا تكفي للرقص.

مديرتي في المدرسة كانت تذكرنا باستمرار- نحن الجيل الجديد- بالحرب العراقية- الإيرانية، وكم من نذور قُطعت في سبيل الخلاص الابدي منها، لكن ما تسترجعه كل مرة، هو يوم النهاية من هذه الحرب، ووجه الشوارع السعيد، وجنون البشر، وغرائب نذورهم. مديرتي وجدت تجمعا بشرياً وأرادت- بفضول- ان تعرف ماذا يفعلون. تبيّن أن سيدة نذرت أن تخرج عارية إلى الشارع في حال انتهاء الحرب، ليأسها من إمكان توقف الموت الرخيص. وحين حلّت “المعجزة” خلعت ثياب الحداد، وخرجت، ليركض أبناؤها وبناتها خلفها لتغطيتها. أمي مثلاً نذرت أن ترتدي الاحمر وترقص على الأرصفة. هل يمكن تخيل كم كانت حرباً سيئة وثقيلة؟ 

زُرعت الحرب في رؤوس أهلنا الذين عاشوها، ونقلوا بذرتها إلى رؤوسنا. “إيران هي العدو الأكبر”، لطالما كان التلفزيون الإيراني يعرض مقاطع من المعركة بعنوان “كي لا ننسى” ويضخ فكرة العداء للعراق، تماماً كما كانت تحرص المعلمات، اشد الحرص، على ان نتعلم جيداً كره إيران. 

ثم سقط صدام حسين وتغير كل شيء. كان علينا أن نستبدل فجأة “العدو الإيراني الغاشم” بـ”إيران الجارة والصديقة والشقيقة”. ما الذي حصل؟ ما الذي تغير؟

كان الجواب يخرج من مسجل صوتي يمتلكه أبي. صوت هايدة واختها مهستي. وكان يحب أن يغفو كثيراً على صوت محمد شجريان وكوكوش. لم تمنع الحرب ولا القمع الخميني الموسيقى الإيرانية من التسرب إلى المنازل العراقية. كان صوت هايدة وهي تغني بمثابة سؤال كبير مرفوع إلى السماء: هل أحب إيران بخوذة أم بمايكرفون الغناء؟ 

إقرأوا أيضاً: