fbpx

سوهاج: المدينة المكلومة بـ”كورونا” وحادث القطار و”عار” المرض

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في ظل أزمة “كورونا” تجدد الشعور بالعار من الإصابة بالمرض بالتحديد في مدينة سوهاج في قلب الصعيد، فالرجال هناك يشعرون بالعار من فكرة غياب العافية ويرتبطونها بقلة الفحولة، وتخاف السيدات أيضاً من قلة العافية إذ إنها قد تعطّل قدرتها على الإنجاب والإمتاع.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

” لا يخلو بيت من “كورونا”، عائلات بكاملها مصابة، عجائز، شباب، أطفال، نساء، لكن نادراً ما يعزل أحدهم نفسه عن الجميع، يخفي الفضيحة والعار باختلاطه بالناس، يحصل على علاجه، ويباشر يومه الروتيني، يخرج إلى العمل، يرتاد المقهى، يحضر التجمعات العائلية في رمضان”.

يصف أحمد علي الرمادي الوضع المأساوي الذي تعيشه قرية “باصونة” في محافظة سوهاج، تعدادها 8 آلاف نسمة، فهناك  يعيش الأهالي كـناقلين لعدوى “كورونا”، تحت وطأة الخوف من العار والمساس بالهيبة. 

عزل الرمادي نفسه، بعدما أصيب وجميع أفراد عائلته بــ”كورونا”، إثر اختلاطهم بعائلة تجاورهم، أخفى أفرادها إصابتهم، ورفض أشقاؤه، وزوجاتهم، عزل أنفسهم، واكتفوا بالعلاج، يقول لـ”درج”: شقيقي الموظف في جهاز الداخلية يذهب إلى عمله يومياً، والثاني يختلط بالتلاميذ في حصص الدروس الخصوصية، نقل العدوى أهون عليهم من تحمّل عار خبر إصابتهم بالفايروس”. 

في كل جنازة تخرج من بيت في قرية “باصونة” تحوم التكهنات والشكوك حول إن كانت الوفاة نتيجة مضاعفات “كورونا”، بخاصة أن من تجبره الأعراض على المكوث في منزله، يتحجج بإصابته بمرض آخر، ويرفض زيارة الطبيب، مكتفياً في سرية تامة بتناول البروتوكول العلاجي المعتاد. 

“سوهاج تستغيث” هاشتاغ صَلُح للتدوين عليه في حادثتين متقاربتين، حادث قطار سوهاج الذي حصد أرواح عشرات الضحايا منذ أسابيع، وحادث تصدر سوهاج مرتبة أكثر المدن المصرية التي يتفشى فيها “كوفيد- 19″، ومثلما استغاث أهالي سوهاج لإنقاذ ضحايا القطار، يستغيثون الآن لتوفير مستشفيات عزل وعبوات أكسجين وغرف العناية المجهزة.

تناقض وزارة الصحة 

في مؤتمر عقد في 8 إبريل الماضي لعام 2021، استعرضت وزيرة الصحة المصرية، هالة زايد، مستجدات الوضع الوبائي لفيروس كورونا في مصر، وأكدت أن محافظة سوهاج “خمسة ملايين ونصف المليون نسمة” في المرتبة الأولى بين محافظات مصر بمعدلات الاصابات بفايروس “كورونا”، التي تتزايد بشكل ملحوظ، ما استدعى زيادة أجهزة التنفس الصناعي، وأسطوانات الأوكسجين، والأسرة الداخلية. 

نقيب أطباء سوهاج، محمود فهمي منصور، استشعر تفاقم الأزمة، وطالب بعد زيارة وزيرة الصحة إلى مستشفيات سوهاج، بفرض حظر تجوال ، ووضع قيود أمنية لمنع تنقل المواطنين بين القرى، أو استقبال أشخاص من محافظات أخرى، لوضع حد لزيادة أعداد الوفيات المطرد، وتكدس المرضى في المستشفيات.

 وفي مداخلة هاتفية في برنامج “حضرة المواطن” على شاشة قناة “الحدث” المصرية، طالب فهمي بفرض عقوبات مغلظة على المخالفين للإجراءات الوقائية، بخاصة بعدما رفض محافظ سوهاج، اللواء طارق الفقي مقترحاته، لافتاً إلى حالة إنكار نقص الأجهزة الطبية، وأسطوانات الأوكسجين، وأسرة العناية المركزة من وزارة الصحة المصرية. 

في ظل الازدحام الشديد بالمرضى، وازدياد أعداد الوفيات، وضعف الإجراءات الوقائية في مستشفيات العزل، وتراخي الحزم في التعامل مع حالات وفيات “كورونا”، تفاقمت الأزمة أكثر، إلا أن وزيرة الصحة، هالة زايد، تحاول إنكار الأزمة الوبائية، لفرض رواية رسمية مناقضة لتصريحاتها السابقة، لتخفيف الأعباء عن كاهل الحكومة المصرية. 

أجرت هالة زايد مداخلة هاتفية  لبرنامج “الحكاية”، وأشارت أن الأعداد في سوهاج “ليست حادة أو مقلقة، والزيادة عادية” وأضافت :”لدينا 7 مستشفيات كبرى في سوهاج، بها طاقة استيعابية تحسباً لأي طارئ، ولدينا أماكن شاغرة في أسرة الرعاية المركزية، وأجهزة التنفس الصناعي لاستيعاب الزيادة الطفيفة”. 

لم تمر تصريحات  هالة زايد غير الحقيقية  على أعضاء مجلس النواب بمحافظة سوهاج، وعبروا عن غضبهم من تجاهل الأزمة، وطالبوا باستدعاء وزيرة الصحة إلى المجلس للتحقيق معها في الكارثة. 

“كورونا”… بين التكاتف الشعبي واستغلال التجار

إنكار الأزمة، دفع المواطنين في قرى المحافظة، إلى التكاتف، والتعاون ذاتياً، لإنقاذ أرواحهم، ويروي محمود عتمان، ممرض، لـ”درج”، أنه دشن “غروب” على “واتسآب، من أطباء مركز “شندويل” بسوهاج، لعلاج المصابين بفايروس “كورونا” في منازلهم، وتوفير اسطوانات أوكسيجين، وتعقيم شوارع المركز والقرى المجاورة، وأضاف “المركز موبوء للغاية”. 

 استغل تجار المستلزمات الطبية الكارثة، إذ ارتفعت أسعار أسطوانات الأوكسيجين من 2000 جنيه إلى 3 آلاف جنيه، وزاد سعر منظم الاسطوانات من 200 إلى 450 جنيهاً. 

تعتيم إعلامي

وزارة الصحة المصرية، نشرت بياناً، قالت فيه إن: “مستشفى حميات سوهاج بها 62 سريراً داخلياً، و14 سريراً خالياً، بنسبة إشغال 77.4 في المئة”، إلا أن مصطفى غنيمة أحد أعضاء نواب سوهاج، بجلسة البرلمان، استنكر البيان، “أنا ساكن بجوار المستشفى، وهذا الكلام غير صحيح بالمرة، المرضى يقفون أمام المستشفى بأعداد كبيرة لعدم وجود أسرة رعاية، وعدد الأسرة في جميع مستشفيات المحافظة 1391 سريراً، 341 سريراً منها لمرضى كورونا”، وتضامن معه في الجلسة ذاتها، محمود أبو الخير، وكيل لجنة الصحة بالنواب، مؤكداً كذب بيانات وزارة الصحة.

واستكمالاً لمحاولات التعتيم الإعلامي على الكارثة، أجبرت وزارة الصحة المصرية، الموظفين، الأطباء، طاقم التمريض، العاملين، في الصحة في سوهاج، على التوقيع على نموذج “تعهد بعدم إفشاء معلومات”، يتضمن التسليم بعدم طباعة أو نسخ أو تصوير أو إرسال أي بيانات أو معلومات إحصائية تخص العمل داخل المستشفيات، إلا بعد الحصول على موافقة كتابية من الجهات المختصة في وزارة الصحة والسكان، ومن يخالف بنود التعهد، تقع على عاتقه مسؤولية مدنية وجنائية. 

أحد أعضاء طاقم التمريض- فضّل عدم ذكر اسمه- في مستشفى العزل بمركز المراغة، كشف لـ”درج”، وجود 25 سرير عزل، وحذر من وقوع كارثة، في ظل تعطل خط شبكة الأوكسيجين، “ليست فعالة، على مدار الـ24 ساعة، ونضطر للاستعانة بأسطوانات الأوكسيجين، وقت انقطاعها، وطالبنا أكثر من مرة التدخل لحل الأزمة، لكن من دون جدوى”.

تواصل “درج” مع وكيلة وزارة  الصحة بسوهاج، الدكتورة كريمة حامد، ورفضت الحديث، تبعاً للتعليمات الصادرة من الوزارة بعدم التواصل مع وسائل الإعلام، والاكتفاء بالبيانات الوزارية. 

وفي محاولة للتصدي لحالة الإنكار والتعتيم للكارثة، تجمع أعضاء نواب سوهاج، لإيجاد حلول، وكشف النائب رفعت شكيب لـ”درج”،أنهم اقترحوا إعطاء مديري المستشفيات الحرية الكاملة في الحديث للصحافة، لكشف أوضاع المستشفيات المأساوية، وأضاف: “تفقدت معظم مستشفيات العزل في المحافظة، بداية من مستشفى المراغة السيئ للغاية، و مستشفى حميات سوهاج أوضاعه أسوأ، والمستشفى الجامعي حالته كارثية، أغلب الخدمات غائبة، وبيانات وزارة الصحة تزيد الأوضاع سوءاً بتزييفها الحقائق، وحجبها للمعلومات ونشرها بيانات مغلوطة”. 

واتفق نواب سوهاج في اجتماعهم على مطالبة وزارة الصحة، بزيادة 1000 أسطوانة أوكسيجين، في ظل عدم كفاية مصنع الأوكسيجين “غير الحكومي” بسوهاج، لتلبية احتياجات المستشفيات.  

وعبر “شكيب” عن رفضه امتناع مسئؤلي الصحة فيالمحافظة عن كشف حقيقة الأزمة، بالحديث للإعلام، وفرض توقيعات بالتعهد على عدم إفشاء المعلومات والبيانات، “هناك تعتيم كامل على الأزمة، نحن في خطر، في ظل غياب الإمكانات المخيف”.

ثقافة العار

في بحثه الاجتماعي “المجتمع العربي المعاصر”، يشرح حليم بركات، أن الإنسان العربي يُنشَأ على الشعور بالعار والخوف الشديد من الفضيحة، وهي تختلف اختلافاً جذرياً عن ثقافة الغرب التي لا تربي شعبها على ثقافة الشعور بالذنب، وهو ما اتفق معه الباحثون في دراسة المجتمعات العربية، ريتشارد أنطون، وكرسل وويكان، إذ أكدوا أن “ثقافة العار” هي إحدى القيم المركزية لدى الشعوب العربية. 

 ويتجلى العار في الثقافة العربية، في الأمثال والحكم والعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية وعلاقات القرابة وقيم العزوة والشرف والجاه والكرامة. “العار أطول من الأعمار”، “اللى متجيبهوش المحنة يجيبه العار”، “النار ولا العار”. ولا يخضع الأفراد جميعهم لمبدأ العار بالدرجة ذاتها، باختلاف شخصياتهم وسلوكياتهم. 

في ظل أزمة “كورونا” تجدد الشعور بالعار من الإصابة بالمرض بالتحديد في مدينة سوهاج في قلب الصعيد، فالرجال هناك يشعرون بالعار من فكرة غياب العافية ويرتبطونها بقلة الفحولة، وتخاف السيدات أيضاً من قلة العافية إذ إنها قد تعطّل  قدرتها على الإنجاب والإمتاع.

تروي أميرة محمد، تعيش في قرية باصونة، لـ”درج”، أن جارتها التي أصيبت بـ”كورونا”، كانت تُصر على أن تزور أقارب زوجها، لتبعد الشكوك منها، و كانت تخالط والد زوجها المُسن، لكنها كانت تخشى الوصم وتدهور الأمور حتى الطلاق.

يرتبط المرض في مجتمعات عربية كثيرة بمفهوم “العار”،  إذ تعتبر القوة الجسدية والصحة ركيزة لمهابة الشخص في مجتمعه، إضافة إلى ارتباط الصحة بالفضيلة والقرب من الله، فيما الأمراض الدائمة والعصيّة مرتبطه بغضب الله، والتعدي على “حُرماته”. 

هذه المخاوف البدائية والعار المجتمعي تطفح وتتزايد في ظل أزمة “كورونا” في سوهاج، وبدون التوعية ضد هذه المفاهيم فإن السيطرة على الوباء داخل الصعيد المصري ستكون شبه مستحيلة. 

إقرأوا أيضاً: