fbpx

“القاهرة كابول”: تخوين الإعلام ومغالطات تاريخية فادحة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يكتف “القاهرة كابول” بالأخطاء التاريخية، فكان الوعي بطقوس الجهاديين وإدارة التنظيمات المسلحة غائباً عن معظم مشاهد رمزي ورفاقه في كهوف أفغانستان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أكثر من مسلسل، وأقل من كتاب تاريخ”… هكذا صدّر صناع مسلسل “القاهرة كابول” عملهم، منذ اللحظة الأولى، فالأبطال شخصيات من الواقع، يعرفهم المشاهد جيداً ويتشوّق لمعرفة أسرار حياتهم.  

حمل المسلسل على جناحه رسائل بأن مصر كانت ستواجه مصيراً مشابهاً للمناطق التي تتنازع على جثثها تنظيمات إرهابية متعددة، لولا جهود أجهزة الأمن، التي يمثلها في “القاهرة كابول” العميد خالد (خالد الصاوي)، وأنّ الإعلام ليس صديقاً أو محايداً، إنما عدو “أبدي” يلعب لحسابه، ولمصلحته الشخصية، ويرقص على جثث الأوطان، ويتاجر بأحزانها.

لا يذكر المسلسل نموذجاً آخر للإعلامي سوى طارق كساب، الحائر باضطراباته النفسية والجنسية وقربه من صناعة القرار وصانعي القنابل. يختنق طارق بتضخمه ويستعرض نفسه في نرجسية وحركات استعراضية، ولا يخجل من التعبير عن أطماعه واستغلاله كل أوراق اللعب لتحقيقها، ويفرد شباكه للإيقاع بامرأة ثرية تنشئ شبكة قنوات إعلامية، وتتفق معه على منحه برنامجاً سيكون الأضخم في الشرق الأوسط، ويقبض منه الأجر الأكبر بين رفاقه المذيعين العرب، ويرتّب لقاءً بين أصدقائه القدامى كي يسهّل اغتيال أحدهم، لينال رضا “رأس الإرهاب”، لكن الطلقة الغادرة تسكن صدر صديق آخر، ويبقى “الأخوة الأعداء” أحياءً، وبينهما طارق كساب. 

“نصف خائن” هذا  هو الإعلام بالنسبة إلى الدولة المصري!

نصف خائن… يقف بين الدولة وأعدائها، ولا يجد مشكلة في هدم الأوطان وتسليم الذخيرة الحية إلى الإرهاب، والتحول إلى بوق ناطق باسم دول ومخابرات عدوة وتنظيمات إرهابية كي يصل إلى مصلحته، وعبّر الإعلامي طارق كساب ( الممثل فتحي عبد الوهاب) عن مواقفه من كل شيء بقوله: “أنا أوصّل جميع النقاط ببعضها، وأرى المشهد كاملاً، وفي أكثر النقاط أماناً تلاقيني”، وفي مشهد آخر كان أكثر صراحة: “مفيش حقيقة يا مولانا، هي أفكار بتتصارع، الأقوى منها هي اللي بتتحقق، وعشان كل شيء جايز، أنا بلعب مع كل شيء”.

 في “القاهرة كابول”، لجأ كاتب السيناريو عبد الرحيم كمال، إلى انتحال مشاهد واقتباسها من مذكرات الصحافي المعروف يسري فودة “في طريق الأذى”، لتقريب الشبه بينه وبين طارق كساب، وكأنه من ناحية يهيل بالتراب على الإعلام، وعبر سلوكيات طارق “الشاذة” يؤكد النميمة المتداولة حول أفكار  يسري فودة ومواقفه وحكاياته. 

ظهرت هذه الصورة المسيئة للإعلام  في جميع الأعمال التي تنتجها المخابرات، ففي فيلم “الممر” كان الصحافي الحربي، قبل أن يسافر لتغطية إحدى معارك الاستنزاف، مسؤولاً عن تغطية أخبار راقصتين في شارع محمد علي مقابل رشوة، ليعطل مسيرة الجيش كلما تقدَّم في المعركة. 

عاد ذلك للظهور في أحد مشاهد “القاهرة كابول”، حين زار طارق كساب أفغانستان ليقابل رمزي (طارق لطفي)، الخليفة الجهادي، الذي تلقى البيعة قبلها بأيام، وهو صديق طفولته في القاهرة (كما قابل يسري بن لادن ورفاقه بعد تفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر). طلب منه ضاحكاً وساخراً، أن يدخن سيجاره، فقال له: “في وجودي ميصحش، وممنوع، ومعصية، بس ماشي… اشرب”.

وفي نهاية المشهد، قام رمزي غاضباً من إنكاره لفكرة الخلافة، وقال له بحسم: “ابقى اكتب في مذكراتك، إنك شربت سيجارة مع الخليفة”. كانت تلك، هي السيجارة التي كشف سرَّها يسري فودة. روى قصتها في كتابه “في طريق الأذى”، حين جلس في حضرة إرهابيي تنظيم “القاعدة”، خالد شيخ محمد ورمزي بن الشيبة، وسأل: أنا أعرف أنه لا ينبغي عليّ أن أفعل ذلك، ولكن هل لي في أن أنتحى جانباً لتدخين سيجارة؟

وفق فودة، بدأ بن الشيبة إلقاء محاضرة في الدين والأخلاق والصحة والاقتصاد، لكن “المفاجئ أن خالد هو الذي تدخل قائلاً: مهلاً، مهلاً على الرجل… طالما أنه يعلم بمضارها سيقلع عنها إن شاء الله”.

إقرأوا أيضاً:

 أخطاء تاريخية عن  حياة الجهاديين 

يدخل “القاهرة كابول” مساحات أخرى نالت سخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، تتبلوَر في نبيل الحلفاوي، صاحب شخصية “حسن”، الرجل الصوفي العجوز، الغارق في حب بلاده، لأنه لم يخرج منها، ولم يرَ حياة أخرى أو بلداً آخر، ويحاول إقناع الشباب بأن مصر “مبروكة” بينما هم ناقمون. 

ربما كان كاتب السيناريو يريد أن يظهر شخصية أصيلة في الحياة المصرية، تجده في المقهى بلحيته البيضاء في آخر أيام حياته ويحرضك على البقاء في مصر إلى الأبد، لأن الخير كله هنا و”اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش”، بينما يوصيك بأن تحاسب على مشروباته، وتقابله في المواصلات العامة يسخر من الشباب وأيامهم وقدراتهم المحدودة بينما لم يحقق شيئاً صغيراً أو كبيراً واحداً، ويمكن أن يكون أحد أقاربك، الذين يتهمونك بـ”تخريب البلد” بينما لم يتحرّك هو يوماً لإصلاحها… ويختلق قصصاً عن بطولاته وصولاته وجولاته، ويبالغ في التمجيد حتى أنه لا يتورّع عن اختلاق قصص غير حقيقية كما فعل “عم حسن”.

هذا النمط وخطابه مقصود كي يدافع عن نفسه بتكسير الشباب نفسياً ومعنوياً: “إن كان على جيلي يا حبيبي، احنا شقينا وحاربنا واتهزمنا وصبرنا وانتصرنا، طلعت عينينا من حلم وفرحة لهزيمة وانكسار ونصر وانفتاح، شفنا كل حاجة، وصبرنا، الدور عليكم… احنا شفنا اللي محدش شافه، دفعنا ومقبضناش”.

يلوّك المسلسل ويسوق رسائل انهزامية، تحمّل الأجيال الجديدة ضريبة خساراتها التاريخية، مشفوعة بخطب رنَّانة، تغلب عليها النبرة الصوفية، التي هي طريقة السيناريست عبد الرحيم كمال الأثيرة للخروج من أي مأزق درامي، فهو صوفي حفظ أوراده على يد الشيخ صلاح الدين التيجاني، وينتمي إلى الطريقة التيجانية في القاهرة، ويخلط النزعة الصوفية بأخرى وطنية تجعل مصر محفوفة بالخيرات، ومحفوظة بأمر الله من قديم الأزل إلى آخر الزمان.

في أحد المشاهد، يؤكد حسن – بنبرته الواثقة التي لا تقبل الاختلاف أو الشكّ – أن “ربنا بعت لنا نبي اسمه يوسف، العالم كله ذاق المجاعة إلَّا مصر”. لا تخضع تلك الجملة الحوارية إلى أحكام الدراما، إنما إلى الروايات التاريخية. هل حقاً لم تتعرض مصر لأي مجاعات؟ 

بالرجوع إلى كتاب “إغاثة الأمة بكشف الغمة: تاريخ المجاعات في مصر” للمؤرخ تقيّ الدين أحمد بن علي (المقريزي)، نجد 26 مجاعة تعرَّضت لها مصر على مرِّ تاريخها، وكانت شديدة إلى حد “أنّ المصائب والمحن تعاظمت على الناس فى مصر بحيث أنهم استحالوا زوالها، وغفلوا انها من سوء تدبير الزعماء”، بحسب المقريزي، الذي يوضح أن”أول مجاعة وقعت في مصر كانت فى عهد الملك السابع عشر من ملوك مصر قبل الطوفان واسمه أفروس بن مناوش، الذى كان طوفان نوح عليه السلام في زمنه، وكان الغلاء بسبب ارتفاع الأمطار وقلة ماء النيل ونتج عنه عقم البهائم والموت”. 

كانت أقسى مجاعة ضربت مصر، هي الشدة المستنصرية، في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله. استمرت 60 عاماً، ومات بسببها ثلث سكان مصر، وكانت بسبب “الخليفة” الذي تولى الحكم وهو طفل عمره 7 سنوات، استلم دولة في حالة رخاء وازدهار، وكانت أبواب قصره مفتوحة للعوام، وتوزع عليهم المؤن والطعام والأدوية مجاناً، وبقي المصريون أثرياء 17 عاماً حتى انخفض منسوب النيل إلى أدنى مستوياته – فجأة – وتلفت المحاصيل الزراعية، وأصبح وجود الطعام شيئاً نادراً، فأكل الناس الخيول والحمير، واصطادوا القطط والكلاب وطبخوها. وحين اختفت من الشوارع، أكلوا الجيف وجثث الحيوانات الميتة، ووصلت المجاعة إلى أشد صورها جنوناً، فكان العراك بين أي زوجين ينتهي بذبح أحدهما وطبخه حتى تستمر الحياة، وبدأ الناس اصطياد المارّة بالشوارع وأكلهم، فازدهرت صناعة وحيدة في مصر، في هذا الزمان، وهي “الخطاطيف” التي تصطاد الناس من جوار المنازل، فلزم الناس بيوتهم حتى لا يتعرضوا للقنص، ومات بعضهم من شدة الجوع، فكان الأهل بدلاً من أن يأخذوا عزاء الشخص، يتجمّعون حوله ويأكلونه، وتفشّت الأوبئة والأمراض الفتَّاكة.

لم يكتف “القاهرة كابول” بالأخطاء التاريخية، فكان الوعي بطقوس الجهاديين وإدارة التنظيمات المسلحة غائباً عن معظم مشاهد رمزي ورفاقه في كهوف أفغانستان. 

يوضح أحد الباحثين المصريين المتخصصين في الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية، أن وصف “رمزي” بالخليفة لم يكن صائباً، وحتى بين الجهاديين لا يوصف أمراء التنظيمات بالخليفة، ويقول: “تأثر عبد الرحيم كمال بأقرب ذكرياته عن الإرهاب، واستلهم تجربة تنظيم داعش في وصف تنظيم القاعدة والتنظيمات الجهادية الأخرى، لكن الوضع مختلف.. داعش كان يتعامل مع نفسه باعتباره دولة إسلامية ممكَّنة في الأرض، والدولة لها خليفة، لكن تنظيم رمزي (طارق لطفي) لم يكن أكثر من تنظيم ينفذ عمليات نوعية، ويكون له أمير، وصلاحياته وطاعته ليست مطلقة”.

وهنا يصل إلى المعلومة الثانية المغلوطة، التي تضرب حبكة أحداث “القاهرة كابول”.

تلقى رمزي البيعة على مبدأ “أمركم شورى بينكم” الشائع بين الجهاديين، وكان ضمن جلسة البيعة شقيق زوجته، الذي يرفض بيعته ليصبح أميراً أو “خليفة” بحسب تعبير المسلسل، على رغم موافقة الآخرين، وفي الحال يعتبره رمزي “خارجاً” ويأمر بقتله. هكذا، من دون أي معارضة من أحد، يقتل الأمير عدوّه الوحيد، على مرأى من الجميع، وينفي الباحث المصري حدوث ذلك بالتنظيمات، فالأمر ليس للخليفة – أو الأمير – وحده، إنما يشارك فيه جميع أعضاء مجلس شورى التنظيم، ويضيف: “يمكن أن ينوي الأمير فعل شيء، لكن معارضة الأغلبية أو رفضها يوقفه، كما أن قتل أحد أعضاء مجلس الشورى لأنه أبدى رأياً مختلفاً لا يحدث، فكل عضو له فصيل داخل التنظيم، وعلاقات بالأعضاء الآخرين، وبالتنظيمات الجهادية الأخرى، ويمكن أن يؤدي الأمر إلى فتنة وتفكك في التنظيم بالكامل”.

ويفسر تعمد مؤلف المسلسل قتل رمزي شقيق زوجته برغبته في إيجاد سبب منطقي للتحول الذي سيحدث في حياة “أمير التنظيم” لاحقاً، فبحسب أحداث الحلقات العشر الأولى من المسلسل، تتآمر الزوجة على قتل نجل رمزي من زوجة أخرى، انتقاماً لشقيقها، وهو ما يحدث تحولاً جذرياً في علاقة رمزي بتنظيمه، والتنظيمات الأخرى، ومسيرته في الجهاد.

على طريقة سيناريست “صوفي”… كيف تناقش ملحداً؟

قدم “القاهرة كابول” شخصية ملحد ساذج يشهر إلحاده في كل حديث، ويناقش الجميع في آرائه وأفكاره الدينية، بدءاً من “صبي القهوجي” مروراً بـ”بائع الكتب الملتحي” حتى سؤاله أحد الشحاذين: “تفتكر ربنا موجود؟”، وهو ما لا يجرؤ أحد على إشهاره أو إعلانه في مصر، فمن ناحية لا يوجد مبرر درامي لخلق شخصية “الملحد الساذج”، ومن ناحية أخرى، هذا النموذج من النماذج النادرة في مصر، لأن تكلفة إشهار الإلحاد تصل إلى السجن.

في مصر.. يناقش الملحدون أفكارهم في غرف مغلقة، ووراء ستائر سميكة، وفي ندوات ومحاضرات باعتبارهم “مهتمين بالفلسفة”، أو على مقاهٍ وسط القاهرة، في مجتمع منفتح على الأفكار واختلافاتها، حتى وإن كان لا يهضمها جيداً. كما أن النقاش حول أفكار الملحد في المسلسل لم يدخل أي مساحات جادة. يمكن أن تعود تلك المواجهة إلى سياسة عامة للمسلسلات في رمضان، أو إلى توجهات السيناريست عبد الرحيم كمال الصوفية، الذي اعتاد – منذ مسلسلي “الخواجة عبد القادر” و”ونوس” – مناقشة الأفكار الدينية المختلفة بإبراز الولع بالصوفية، والشغف بالخوارق التي يمكن أن تنقذ إنساناً إذا كان قريباً إلى الله.

اكتفى كمال- في الرد على “الملحد”- بخطب صوفية من نبيل الحلفاوي “حسن”، وبالسخرية من أصدقائه، وبكلام روحاني من “الشحاذ” المغيّب، كما كان يكتفي، طوال أحداث المسلسل، بجمل “مبتورة” ومباشرة لتوصيل الأفكار المقصودة من وراء “القاهرة كابول”، بدلاً من توصيلها بالأحداث والمشاهد، أو في سياق درامي، فتحوّل المسلسل إلى مقال طويل، وفقدت الصورة قيمتها تحت وطأة الرسائل المباشرة، التي أحالت عملاً واعداً تصدّر المشاهدات والمديح في أول حلقتين إلى مسلسل ينال سخرية يومية.

إقرأوا أيضاً: