fbpx

“تفاهة الشرّ”- تابع: “آيخمان في القدس”
ويعقوب في “الشيخ جراح”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يفشل يعقوب حتى في التفكير بما يقوله. تخرج منه الكلمات كما لو كانت رصاصات من رشاش آلي. يرشقها رشقاً، ويصيب مقتلاً من تصيبه تفاهة الكلمات. ولا يقف حتى لمعاينة الجثث.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الحالتين هناك محكمة. وفي الحالتين هناك قضاة إسرائيليون. وفي الحالتين المسرح هو القدس. “آيخمان في القدس”. ويعقوب في حي الشيخ جراح. والمحاكمتان تضعان على المحكّ نوعين من النازية: الأولى ألمانية حاكمتها إسرائيل بمحاكمة المسؤول النازي أدولف آيخمان المشارك في ارتكاب مجازر بحق يهود أوروبيين، والثانية إسرائيلية، تحاكم فيها إسرائيل أهالي حي الشيخ جراح الفلسطينيين، لمصلحة مستوطنين إسرائيليين، يطالبون بإجلائهم بالقوة من منازلهم. 

يعقوب واحد من هؤلاء المستوطنين، اشتهر بعد فيديو انتشر له وهو يقول ببرودة ووقاحة قلّ نظيرهما، لسيدة فلسطينية قام بمصادرة منزلها: “إذا لم أسرق بيتك فسيأتي من يسرقه”. هكذا بكل “تفاهة”، تشبه “تفاهة الشرّ” التي تحدثت عنها حنة أرندت في كتابها “آيخمان في القدس”، يرتكب يعقوب جريمته. والكتاب هو خلاصة تغطية أرندت لأكثر من 121 جلسة، جهد فيها الادعاء لتضخيم دور آيخمان خدمة لما أراده بن غوريون في حينه من تحويل المحاكمة إلى وسيلة لشدّ اللحمة الوطنية بين جماهير مكتئبة من المهاجرين الجدد إلى الأراضي التي احتلتها إسرائيل. اتهمت ارندت بعد نشر الكتاب بـ”التعاطف مع المجرم النازي”، لأنها رأت أنه “أتفه من أن يفكر في معنى ما يفعله”، وأنه “يحصر نفسه في آليات التنفيذ”. 

كان ايخمان، كما لاحظت أرندت، يجيب عن كل تهمة توجّه اليه بـ: “لست مذنباً بمعنى الاتهام”. وكان محاميه يقول: “يشعر آيخمان بالذنب أمام الله وليس أمام القانون”. ويتولد الشرّ بحسب أرندت من فشل في التفكير، فهو يتحدى الفكر، فحين يتصدى الفكر للشر ويتقصّى أصوله، يصاب بالإرباك حين لا يجد شيئاً، وتلك هي، برأيها، “تفاهة الشرّ”. ومن هنا، كانت تفاهة آيخمان مرعبة بقدر أفعاله، القائمة على بيروقراطية حديدية، يتحول معها القاتل إلى جزء من آلة قتل كبيرة تعمل بانتظام من دون أحاسيس.

يعقوب من حيث لا يدري يشبه آخمان. مع فارق طبعاً في مستوى الإجرام، خصوصاً أن آيخمان مسؤول عن جرائم حرب وإبادات جماعية، لا جرائم تهجير وفصل عنصري، وحسب، كما كان في موقع قيادي، مع مسؤوليات كبيرة، فيما يبدو يعقوب “برغياً” في آلة. لكن هناك نازية ما في التركيبة التي تحرّك يعقوب وتدفعه إلى أن يكون بارداً إلى الحد الذي ظهر فيه بالفيديو وهو “يناقش” السيدة الفلسطينية التي استولى على بيتها. في تفاهة جوابه يكمن مفاعل هائل لتوليد الشرّ ومبرراته بلا أدنى تفكير. يفشل يعقوب حتى في التفكير بما يقوله. تخرج منه الكلمات كما لو كانت رصاصات من رشاش آلي. يرشقها رشقاً، ويصيب مقتلاً من تصيبه تفاهة الكلمات. ولا يقف حتى لمعاينة الجثث. يكمل طريقه كما لو أنه آلة ينحصر دورها في “آليات التنفيذ”. ينفذ يعقوب ما يرى أنه دور بيروقراطي في الاستيلاء على بيوت المقدسيين. يسرق البيت لأن السرقة واقعة لا محالة من الآلة التي ينتمي إليها، وما على أصحاب البيوت إلا أن يصطفّوا، ويقدموا منازلهم طواعية للسارقين. 

وهو يريد للسيدة الفلسطينية التي يحتل منزلها، أن تنتمي إلى المنظومة البيروقراطية التي تسمح له بالسرقة، وأن تستسلم هي أيضاً لـ”تفاهة الشر”، عبر التسليم بالاحتلال كأمر واقع لا مفرّ منه، من دون مقاومة أو اعتراض، تماماً كما ساقت الآلة النازية اليهود إلى غرف الغاز من دون مقاومة، وبتواطؤ تشير إليه أرندت، في ملاحظة قصيرة أوردتها في كتابها، من “المجالس اليهودية” التي سهّلت عمل النازيين لكي يذبحوا اليهود، بأقلّ جهد إداري وأقل كلفة ممكنة. 

صدمَت “عادية” آيخمان وشخصيته “التي لا طعم لها” أرندت. ووصفته بأنه “شخص غبي لكنه بطريقة ما ليس غبياً تماماً”.  تماماً كما تصدمنا “عادية” يعقوب وشخصيته “التي لا طعم لها”. وبهذا المعنى قد يبدو جواب يعقوب على السيدة الفلسطينية “غبياً”. لكنه بطريقة ما، ليس غبياً تماماً.

إقرأوا أيضاً: