fbpx

تغريدة “الطيب”: الأزهر يتعافى على حساب قضايا المرأة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما ينبغي أن يعنينا ليس أثر سعي شيخ الأزهر إلى تأكيد سيطرة مؤسسته في مواجهة سياسات موقتة للقيادة السياسية، وإنما أثر هذا المسعى على إمكان انتزاع مساحاتنا الخاصة من سيطرة المؤسسة الدينية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“يجوز للمرأة تولي الوظائف العليا والقضاء والإفتاء، والسفر دون محرم متى كان آمناً، والطلاق التعسفي بغير سبب حرام وجريمة أخلاقية، ولا وجود لبيت الطاعة في الإسلام، ولا يحق للولي منع تزويج المرأة بكفء ترضاه دون سبب مقبول، وللمرأة أن تحدد لها نصيباً من ثروة زوجها إذا أسهمت في تنميتها”.

تغريدة الطيب على حسابه الرسمي على “تويتر” يوم الجمعة 7 أيار/ مايو الموافق 25 من رمضان، من شأنها أن تجتذب قدراً كبيراً من الاهتمام. العنصر الرئيسي الذي ضمن لها هذه الجاذبية هو أنها تدور حول المرأة وبعضاً من قضاياها التي كانت موضع جدل كبير قبل أكثر من شهرين على خلفية تسريب مسودة لتعديلات قانون الأحوال الشخصية. 

لا تختلف التغريدة عن 24 أخرى سبقتها خلال الأيام الماضية من الشهر ذاته. ولكن من حيث المضمون بدا أنها تقدم مفاجآت غير متوقعة تمثل تحولاً مهماً في موقف الأزهر من قضايا المرأة، وهو الأمر الذي قوبل بحفاوة كبيرة، أغلبها بالطبع من قبل مستخدمات مواقع التواصل الاجتماعي.

شعور المتلقين بأن حديث الشيخ أتى بجديد مفاجئ، إلى حد وصفه بـ”الثوري”، يعود في الأساس إلى الطريقة التي قدم بها  الشيخ النقاط التي تطرق إليها، المثال الأوضح هو حديثه عن حق ولي المرأة في منعها من الزواج ممن تريد، وهو من الأمور التي كان نص مسودة قانون الأحوال الشخصية بشأنه سبباً في جدل كبير. فالحقيقة أن ما قاله الطيب في الأمر يطابق في المحصلة نص القانون الذي واجه معارضة حادة.

تصريحات الطيب وجه آخر لقانون الأحوال الشخصية الجديد

 ما اختلف في الشكل هو أن الطيب بدأ بنفي حق الولي في منع المرأة من الزواج ممن هو (كفؤ) لها، فجعل الاستثناء أي حق المنع في حال لم يكن الزواج كفؤاً ضمنياً، بينما صرح به نص القانون. بل إن الشيخ قد أضاف استثناءً مبهماً آخر هو “الضرورة”، التي لا يعرف أحد ما قد تكون أو من له الحق في تحديدها. أكثر من ذلك حديثه عن “المنع” يفيد سبقه للزواج نفسه، وجعل على المرأة أن تلجأ للقضاء حتى تتمكن من الزواج ممن تريد، رغماً عن إرادة وليها في حال رأى القاضي أن منعه إياها كان تعسفياً، في حين أن نص القانون منح المرأة حق أن تزوج نفسها إبتداءً وعلى وليها أن يتقدم إلى القضاء لفسخ الزواج في حالة عدم التكافؤ أو إن لم يدفع الزوج مهر المثل. 

الحقيقة أن الموقف الشرعي الذي قدمه الشيخ هو أسوأ في أثره من نص القانون الذي رفضه كثيرون بشكل قاطع، في حين تقبل بعضهم على الأقل موقف الطيب بحفاوة بالغة.

يختلف الأمر في ما يتعلق بحق المرأة في السفر دون محرم، فالحقيقة أن نصوص القانون لا تتعلق باشتراط المحرم في أي حال، ولكنها تتعلق بموافقة الزوج أو ولي غير المتزوجة على سفرها، وهو ما لم يتطرق الطيب إليه. ومع ذلك فقد ربط كثيرون بين ما قاله الطيب وبين القانون، وإلا فلا مجال للحفاوة بموقف شرعي لا أثر عملياً له بأي حال فليس ثمة ما يحول دون سفر المرأة بمفردها في الواقع العملي، إلا استمرار اشتراط الجهات الرسمية لحصولها على موافقة الزوج تحديداً بالمخالفة للقانون الحالي الذي لا يشترط ذلك أصلاً.

 وفي الواقع، ما يعكسه حديث الطيب عن سفر المرأة مع محرم أو بدونه هو بسط لسلطة الفتوى الشرعية على أمر كان قد تحرر عملياً منها لزمن طويل، فتقديم الأمر للجمهور العام يوحي بأنه جديد في الواقع العملي، في حين أنه على أقصى تقدير جديد في النقاش الفقهي الذي بذلك يلحق بما أصبح معتاداً ويومياً.

الجديد أخيراً في حديث الطيب عن تولي المرأة مناصب رسمية، وبخاصة في القضاء، ليس في الموقف الشرعي منها والذي سبق له شخصياً أن طرحه كما طرحته دار الإفتاء، وإنما هو هجومه الحاد على من يمتنعون عن منح المرأة حقها في هذه المناصب، متذرعين بمبررات إجرائية، استكباراً منهم على أن تشاركهم فيها، وهذا الهجوم موجه بشكل واضح إلى رجال القضاء وبخاصة في مجلس الدولة الذين رفضوا تعيين النساء قاضيات لوقت طويل واستخدموا في تبرير موقفهم أعذاراً إجرائية ولوجيستية شملت حتى عدم توافر دورات مياه مستقلة للقاضيات في مباني المحاكم!

تغريدة الطيب تطرح أسئلة عن مغزى تناوله قضايا شغلت الرأي العام خلال الشهور الماضية وبخاصة في ما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية. وينبغي أولاً أن نأخذ في الاعتبار أن الضجة التي أثارها تسريب مسودة مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد أدت إلى حملة دعت ربما للمرة الأولى إلى ضرورة صدور قانون مدني للحقوق الشخصية. في المقابل أحيل ملف إعداد القانون إلى الأزهر ليصبح هو المنوط بتقديم مسودة جديدة له، وأخيراً صرح الرئيس عبد الفتاح السيسي بأن الإمام (في إشارة إلى شيخ الأزهر) قد وعده بتقديم قانون يرضي الجميع. 

متى تتحرر شؤوننا الدنيوية من سلطة الأزهر؟

آن  لشؤون الزواج والطلاق أن تتحرر من سيطرة الفقه الديني، بخاصة أن استمرار هذه السيطرة هو أحد العوامل الرئيسية وراء أن قانون الأحوال الشخصية يظل أكثر القوانين المصرية إهداراً للمساواة بين الجنسين.

تقديم الشيخ مواقف تبدو “تقدمية” من نصوص مسودة قانون الأحوال الشخصية وتلقيه هذه الحفاوة من الذين عارضوا القانون بشدة، يصبان في مصلحة تقبل أوسع لتولي الأزهر مهمة طرح مسودة جديدة للقانون. يساهم ذلك في مد نفوذ الأزهر بشكل نوعي في ما يتعلق بدوره في التشريع.

كان دور الأزهر استشارياً وغير ملزم في التشريعات التي تتقاطع مع الشريعة الإسلامية بشكل أو بآخر. أن يضطلع الأزهر بدور تشريعي مباشر، وهو أمر يخرج عن دوره الدستوري، ويعيد تأكيد استمرار خضوع قانون الأحوال الشخصية للسلطة الدينية، ويؤكد انفراد الأزهر بالمساحة التي يشغلها الدين في الشأن العام، وهذا تحديداً أحد الأهداف الرئيسية لسياسة الطيب منذ توليه منصبه. 

 تعتبر هذه السياسة من أدوات الدولة لاستعادة المساحات التي احتلها الإخوان والسلفيون على حساب المؤسسة الدينية الرسمية، وفي جانب آخر ترسخ هذه السياسة ثقل الأزهر داخل بيروقراطية الدولة في مواجهة مؤسسات منافسة، في مقدمتها دار الإفتاء، والتي نجح الطيب في إحباط محاولة إصدار قانون جديد لها يحولها إلى كيان مستقل عن الأزهر.

“كاريزما” الطيب

للشيخ أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، “كاريزما” لم يتمتع بها كثيرون ممن شغلوا المنصب الرفيع قبله. ولا شك في أن الرجل يجيد استخدام هذه الكاريزما ويعرف طريقه بسهولة إلى قلوب وعقول قطاع واسع من الناس على اختلاف توجهاتهم. وقد تمكن، خلال سنوات توليه منصبه، من رفع أسهم مؤسسة الأزهر العتيقة لدى جمهور بدا أنه قد انصرف عنها، كما تمكن من توسيع نفوذها وتعزيز استقلاليتها، فيما انكمش نفوذ كثيرين وفقدت مؤسسات عدة أي قدر من الاستقلال كانت قد تمتعت به من قبل. 

إحدى أدوات الطيب التي يجيد استخدامها هي الاشتباك الدائم مع القضايا التي تشغل الرأي العام، وهو في هذا الاشتباك يستخدم لغة دقيقة يظهر فيها اهتماماً بالغاً بأثر ما يقول على مستمعيه، وهذه مرة أخرى ميزة ينفرد بها الشيخ في زمن يفتقد فيه أغلب من يخاطبون الرأي العام إلى مهارات استخدام اللغة. مع اجتماع هذه العناصر لا عجب  أن تكون تصريحات الطيب موضع اهتمام كبير، ولا يألو الرجل جهداً في جعل هذا الاهتمام متواصلاً، فلا يكاد يمر شهر من دون تصريح جديد له يشغل رواد مواقع التواصل الاجتماعي لأيام.

صراع سلطتين لكن المصلحة مشتركة 

يتصور كثيرون وجود صراع ممتد بين شيخ الأزهر وبين القيادة السياسية ويعتبرون المواجهات التي نشبت بين الطرفين بعض مظاهر ذلك الصراع. في اعتقادي يخطئ هؤلاء قراءة الأمر، فواقع الأمر أن لا مبرر لوجود مثل هذا الصراع الممتد. ما ظهر على السطح من مواجهات هو في الحقيقة نتيجة تقاطع مسارين مختلفين ولكنهما ليسا بأي حال متناقضين على طول الخط. نشب الخلاف دائماً عندما شعر شيخ الأزهر بأن الوسائل التي اختارتها القيادة السياسية لتحقيق بعض أهدافها هدد بانتزاع بعض من المساحة التي يرى أنها تخص الأزهر وحده، والتي تشمل مجمل الشأن العام الديني. فعلى سبيل المثال ليس الأزهر أو شيخه معاديين لفكرة تجديد الخطاب الديني من حيث المبدأ، ولكن الطيب بالتأكيد لا يمكنه قبول تدخل أطراف أخرى غير الأزهر في هذه العملية. بعبارة أخرى لا تناقض بين أهداف القيادة السياسية ومصالح المؤسسة الدينية طالما استخدمت القيادة هذه المؤسسة وحدها دون غيرها لتحقيق أهدافها. يعرف الطيب جيداً حدود المساحة التي يجوز له التحرك فيها وهو حريص عليها وعلى فرض سيطرة كاملة للأزهر عليها، ولكنه لا يطمح إلى أي شيء وراءها.

ما ينبغي أن يعنينا ليس أثر سعي شيخ الأزهر إلى تأكيد سيطرة مؤسسته في مواجهة سياسات موقتة للقيادة السياسية، وإنما أثر هذا المسعى على إمكان انتزاع مساحاتنا الخاصة من سيطرة المؤسسة الدينية. الحلم بأن تقدم المؤسسة الدينية طرحاً يخفف من وطأة معاناة النساء في هذا البلد هو عبثي ومحكوم عليه بأن يتحول إلى كابوس. لم يحدث أن تبنت مؤسسة دينية في أي وقت أو أي مكان مواقف تقدمية طواعية ومن تلقاء نفسها، فهذه المواقف التقدمية تأتي دائماً على حساب سلطتها. وعادة ما تبنت هذه المواقف فقط عندما أصبحت تتعلق بشؤون خرجت بالفعل من تحت سيطرتها. ومن ثم فتبني هذه المواقف التقدمية لا يكون له أثر عملي على حياة الناس بقدر  ما يسمح للمؤسسة الدينية بالحفاظ على رعيتها وعدم تنفيرهم منها.

 ليس هذا هو حال المؤسسة الدينية في مصر، ومن ثم فتحقيق أي تقدم في ملفات مثل وضع المرأة في مؤسسة الزواج والأسرة، مرهون بانتزاع الأمر من أيدي المؤسسة الدينية. لا يغرد الطيب خارج السرب، ولا يقدم لحناً جديداً، بل إعادة توزيع للحن قديم، لم يعد يطرب إلا الحالمين.

إقرأوا أيضاً: