fbpx

كواليس إعدام الراهب المصري أشعياء المقاري… هل كان بريئاً؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قصة الراهب الذي اعتبره أقباط كثر “شهيداً”، جيشت مشاعر التعاطف إذ استحضروا بإعدامه قصص اضطهادهم الكثيرة في مصر، وهم يتجهَّزون لتقديسه كأي راهب “مظلوم” وذلك على رغم اعترافه بالقتل بحسب التحقيقات…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك”.

كانت هذه آخر جملة رددها الراهب أشعياء المقاري قبل تنفيذ الحكم بإعدامه الذي جدد جدلاً كان مطروحاً في الدوائر القبطية والحقوقية المصرية حول احتمال تلفيق الاتهام له.

 إعدام الراهب “المشلوح” أشعياء المقاري، المُدان بقتل الأنبا أبيفانيوس، أسقف ورئيس دير الأنبا مقار في صحراء وادي النطرون جنوب القاهرة – في 29 تموز/ يوليو 2018 – هو أول حكم بالإعدام في حق راهب في تاريخ الكنيسة المصرية، ما جعله حدثاً مشتعلاً ومثيراً للجدل. 

وراء الخبر والجدل قضية هزَّت مصر، واحتمالات، وأزمة حول توقيت إعدامه، الذي أعقب جريمة القتل بنحو 34 شهراً، ليعود الأقباط إلى السؤال الذي يطرحونه سراً طوال السنوات الماضية: هل أشعياء المقاري هو الذي قتل رئيس دير الأنبا مقار حقاً؟ 

يسوّق شخصيات قبطية أسباباً لا يمكن أن يضعها القانون في اعتباره للتدليل على براءة الراهب “المشلوح”، أولها شهادة القمص داود جرجس لاعتراف  أشعياء قبل شنقه، أكد داوود جرجس أن أشعياء “كان متماسكاً ومتزناً، وفي منتهى الشجاعة، يصلي حتى آخر لحظة قبل تنفيذ الحكم، يتكلم بالعقل والحكمة، آخر ما قاله: اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك، يقولها باللحن وبصوت قوي من دون خوف أو قلق، هو الآن في مكان أفضل، بعيداً من الظلم والكآبة والألم”. 

قصة الراهب الذي اعتبره أقباط كثر “شهيداً”، جيشت مشاعر التعاطف إذ استحضروا بإعدامه قصص اضطهادهم الكثيرة في مصر، وهم يتجهَّزون لتقديسه كأي راهب “مظلوم” في التاريخ المسيحي، وذلك على رغم اعترافه بالقتل بحسب التحقيقات، وهو ما دفعهم إلى تشييعه وتوديعه بملابس الرهبنة، بما يخالف قرارات الكنيسة بشلحه وحرمانه من اسمه الكنسي، وإعادته إلى الحياة العلمانية.

إعدام متسرع وغامض 

يشير إيهاب سيدرا، محامي أشعياء المقاري، إلى أن تنفيذ الحكم تم بسرعة شديدة، ويضيف، في تصريحات صحافية، أنه قدم للنائب العام، في نيسان/ أبريل الماضي، التماساً بأقوال وصور جديدة في القضية لفتح التحقيق مرة أخرى، ولم يتم الرد عليه. 

قبل أسبوعين من جريمة القتل، قفز شخص من سور الدير، وتم الإمساك به وتسليمه للأمن، وواضح أنه كان يعرف أن دير الأنبا مقار غير مؤمّن بأفضل ما يكون، فالكاميرات الموجودة بداخله لا تغطي جميع الطرق والممرات، والأسوار تسمح بعبور الغرباء… والدير المملوء بالخيرات محاط بصحراء شاسعة تحفل بلصوص ومجرمين وقاطعي طرق.

انتشرت تلك الحكاية في اليوم التالي لقتل الأنبا أبيفانيوس، على لسان أحد رهبان الدير “الأبباسيلوس المقاري”، وكانت افتراضاً يتمسَّك به أقباط حتى الآن، ويعتقدون أن به شيئاً من الحقيقة، على رغم أنّ جهات الأمن المصرية لم تشِر إلى ذلك الشخص الغامض، أو تشك فيه، ولم تتردَّد تلك الحكاية إعلامياً مرة أخرى. 

يمسك الأقباط بتلك الرواية باعتبارها دليلاً تم تجاهله – عن عمد – لتقريب حبل المشنقة من رقبة الراهب أشعياء، حتى أنهم طالبوا الأنبا تواضروس، بابا المسيحيين في مصر، بالتوسط لإنقاذه من حبل المشنقة، إذ يجد كثيرون صعوبة تصديق أن يقدم راهب على القتل.

اللافت في الجريمة، أن الأنبا أبيفانيوس لم يكن شخصاً جدلياً داخل الكنيسة، كان طبيباً سابقاً، ومهتماً باللغات ويشرف على مكتبة المخطوطات والمراجع بكل اللغات في الدير، والنصيحة التي عمل بها منذ اختياره رئيساً لدير الأنبا مقار هي “لم شمله”. وجّهها له البابا تواضروس، وعمل بها، فحافظ على استقرار الدير، الذي يعوم على بحر من الألغام. 

ربما لو كان رئيساً لدير آخر لما قتل، لكن تاريخه ووضعه في قلب الصراع الكنسي، الذي لم يكن طرفاً فيه من البداية، إنما – فقط – لأنه تلميذ الأب “متى المسكين”، العدو الأول للبابا شنودة الثالث، بابا الأقباط السابق. فقد بدأ حياته الرهبانية عام 1984، حين كان البابا شنودة معتقلاً في دير الأنبا بيشوي، بأمر الرئيس الأسبق، أنور السادات. كانت حركة التعمير الرهبانية بقيادة القمص “متى المسكين” بارزة في ذلك الوقت، ولم يكن هناك قائد روحي سواه، فالسادات استدعاه وعرض عليه منصب “البابوية” بدلاً من البابا شنودة، فمنحه ثقلاً ليصبح الرجل المنافس للرجل الأول على رأس الكنيسة المصرية. 

منذ ذلك الوقت، أصبح أبيفانيوس، من دون أن يدري، واحداً من رجال “متى المسكين” في الكنيسة، فورث خلافاته ومعاركه وأعداءه، ومن بين هؤلاء الأعداء أتباع البابا شنودة، الذين لم يختاروه ليكونَ رئيساً لدير الأنبا مقار، وحاولوا كثيراً إبعاده من “لم الشمل” حتى إن تحقيقات النيابة العامة المصرية، التي تلت حادث مقتله أكدّت وجود خلافات بينه وبين عدد من الرهبان في الدير، كانوا متأثرين بالخلافات التاريخية، إلى حدّ أنهم وضعوا للأنبا إبيفانيوس “البراز” في طبق الطعام الخاص به، وكان واحداً من هؤلاء، هو الراهب أشعياء المقاري، فلاحقته أصابع الاتهام بقتل الأسقف عقاباً على “الخلاف التاريخي”. 

هل تنفيذ حكم الإعدام في رمضان قانوني؟

يسود الوسط القبطي شعور عارم بالاستياء أيضا من تنفيذ حكم الإعدام في رمضان، فالشائع في مصر أن الإعدام في شهر الصيام ممنوع، ألغى المشرِّع تنفيذه قديماً… الأمر الذي يزيد شعور الأقباط بالمؤامرة، وكأنّ الدولة نفذته خصيصاً لإعدام قاتل الأنبا أبيفانيوس كي تغلق ملفاً ما، أو تعجّل بشيء ما، لكن الحقيقة أنّ إعدام الأقباط ليس ممنوعاً في رمضان، أو أي مناسبة دينية تخصّ المسلمين، لكنه ممنوع في المناسبات والأعياد المسيحية، طبقاً للمادة 475، التي تنصّ على أنه “لا يجوز تنفيذ عقوبة الإعدام في أيام الأعياد الرسمية أو الأعياد الخاصة بديانة المحكوم عليه”.

تكتمل خيوط المؤامرة المفترضة بوصول جثمان وائل تواضروس إلى أسرته، فالأسرة استلمته ويروّج بعض الأقباط أنّ الكنيسة رفضت الصلاة عليه، “على رغم أن الصلاة ممنوعة على المنتحرين فقط”. لم يصدر بيان أو قوْل رسمي بالامتناع عن الصلاة على الراهب المشلوح، لكن قاعات الصلاة على المتوفين بالكنائس مغلقة، مراعاة للإجراءات الاحترازية الخاصة بفايروس “كورونا”. 

لا يبدو ما يقوله الأقباط في خضم اللحظة الفارقة في تاريخ أقباط مصر منطقياً، لكن تلك الأحاديث تأخذ صيغاً أخرى رسمية وقانونية في بيانات مؤسسات حقوق الإنسان، وبعض الجهات التي كانت تطالب بالعفو عن الراهب “المشلوح”.

إقرأوا أيضاً:

التحقيقات الرسمية تأثرت بـ”التاريخ السيئ” للراهب

اعترف وائل سعد تواضروس بقتل الأنبا أبيفانيوس، رئيس دير الأنبا مقار. كان سلوكه مريباً، منذ اللحظة الأولى، شهد كثيرون بسوء تصرفاته وسجله الحافل بالسقطات والمؤامرات في عالم الرهبنة، وقالوا إنه لم يكن منضبطاً كما تقتضي الحياة الرهبانية وتورط كثيراً في عدد من المخالفات، وكان يتوب ويعود إلى الدير، ويخطئ، ويتوب. 

حاول الانتحار بعد أيام من مقتل الأسقف فاتجهت أصابع الاتهام إليه قبل أن يعترف بجريمته أمام النيابة العامة المصرية –وتسجيل شهادته منشور على “يوتيوب” ليتمكّن الجميع من مشاهدته – ثم قام بتمثيل الجريمة كما جرت تماماً، وبحسب التحقيقات الرسمية، كان مسرح الجريمة جاهزاً لتنفيذ شيء غامض في ذلك اليوم، فالكاميرات – التي لا يعلم أماكن وجودها سوى أبناء الدير – كانت معطلة في ذلك اليوم بالاتفاق مع فني الكاميرات. 

من الذي يجرؤ على هذا التخطيط سوى راهب خبير بشؤون الدير وثغراته؟ بالنسبة إلى المحكمة كان هذا كافياً لإصدار الحكم بالإعدام، لكن بعض الجهات الحقوقية يتبنى رواية أخرى لما حصل.

إقرأوا أيضاً:

“أجبروه على الاعتراف بالقتل  وعذبوه واستجوبوه 48 ساعة متواصلة”

حملة “أوقفوا عقوبة الإعدام في مصر” و”المفوضية المصرية للحقوق والحريات” و”مركز “النديم”، ومؤسسة”حرية الفكر والتعبير”، والمركز الإقليمي للحقوق والحريات، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ومبادرة”حرية”، اتفقت على بيان موحد لإدانة تنفيذ حكم الإعدام ضد الراهب أشعياء المقاري، وتجاهل مطالب العفو عنه والتحقيق في تعذيبه لإجباره على الاعتراف.

يؤكد البيان أنّ محامي الراهب “المشلوح” مُنع من حضور جلسات التحقيق، وتم إكراه الراهب على اتهام نفسه والاعتراف بقتل الأنبا أبيفانيوس، وكان “اعترافه وليد إكراه مادي ومعنوي، من طريق تعذيبه وصعقه بالكهرباء وتهديده لحمله على الاعتراف وإجباره على تمثيل الواقعة عن طريق مأمور الضبط القضائي وهو نفسه أحد شهود الإثبات في القضية والقائم أيضاً بإجراء التحريات الأمنية حول ملابسات وظروف الواقعة”. 

تعرض أشعياء بحسب البيان، لانتهاكات عدة منذ التحفظ عليه حتى تنفيذ الحكم، وأبرز تلك الانتهاكات الاعتداء البدني والمعنوي داخل الدير، حيث خضع للاستجواب من قبل ضباط الأمن لمدة 48 ساعة متواصلة ولم يُسمح له بدخول الحمام طوال تلك المدة ،والاختفاء القسري منذ القبض عليه في الخامس من آب/ أغسطس 2018 حتى ظهوره في نقطة تفتيش في محافظة البحيرة بعد 5 أيام، تنفيذاً لإذن الضبط والإحضار الصادر من النيابة بحقه، كما كان محتجزاً “بشكل غير قانوني” طوال تلك المدة، وتم احتجازه شهراً في مقر احتجاز غير قانوني وهو جهاز الأمن الوطني مع منعه من التواصل مع ذويه ومحاميه، بما بخالف القانون.

إقرأوا أيضاً:

حرمان الراهب من تقديم “أدلة براءة” وزيارة أهله قبل الإعدام

في وقت لاحق، عدَّل الراهب أشعياء المقاري أقواله، وتحديداً أمام الدائرة الثانية بمحكمة جنايات دمنهور بحجة إكراهه على الاعترافات الأولى وتعذيبه، لكن هيئة المحكمة طرحت تلك المطالب جانباً، وأصدرت حكماً بمعاقبته بالإعدام شنقاً بناءً على اعترافاته الأولى.

كذلك تجاهلت النيابة العامة في ما بعد مذكرة محاميه للتحقيق في وقائع التعذيب والاعتراف بالاكراه والتماس لإعادة النظر في الحكم بناءً على تقرير الطب الشرعي الذي أثبت أن الجروح القطعية التي وجدت على جسد القتيل لا تتوافق مع أداة القتل المنسوب لأشعياء استخدامها، وانتهى الأمر بحرمانه آخر زيارة قبل تنفيذ حكم الإعدام.

لم يبدُ التعنت محصوراً في تنفيذ حكم الإعدام من دون الالتفات إلى التشكيك في ما سبق الحكم من كلام عن اعترافات ملفقة وتعذيب والرغبة في غلق القضية بأسرع ما يمكن، إنما في عدم إخبار فريق دفاع الراهب وأهله بموعد تنفيذ الحكم، ويعتبر البيان تلك الخطوة “عرفاً متبعاً من قبل وزارة الداخلية بقيامها بتنفيذ أحكام الإعدام بدون إعلام ذوي المدانين بميعاد التنفيذ وعدم السماح لهم بمقابلتهم قبل التنفيذ طبقاً للمادة (472) من قانون الإجراءات الجنائية، التي نصت على أن أقارب المحكوم عليه بالإعدام لهم الحق في أن يقابلوه في اليوم الذي يعين لتنفيذ الحكم، على أن يكون ذلك بعيداًمن محل التنفيذ”.

أقفلت القضية بإعدام الراهب المشلوح، لكن الوصمة وراء الإعدام المتعجّل لن تبرح منظومة العدالة إلى وقت غير بعيد. 

شكوك كثيرة تحيط بقضية رأي عام كفيلة بإحداث حالة غضب عارمة لدى شريحة واسعة من المسيحيين، الذين يعتقدون أن الإعدام متعنّت وطائفي، ومن دون أدلة كافية.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!