fbpx

نهر الفرات… تركيا تستبدل معارك النار بحرب الماء

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

” لو استطاع أردوغان لمنع الأوكسيجين عنا”. ويبدو أن تركيا استبدلت سلاح النار هذه المرة بسلاح الماء.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يستذكر عبود الخلف، وهو مزارع من ريف مدينة الرقة الشمالي، مقتل أحد أصدقائه جراء اقتتال عشائري في قرية “كبش وسطي”، ريف الرقة الشمالي، شمال سوريا، بسبب الخلافات على حصص الماء.  “ونشب الخلاف نهاية نيسان/ أبريل 2021، جراء انقطاع مياه الري، التي لم تصل إلى تلك القرية لنحو أسبوعين متتاليين، ما أدى إلى مقتل شخص وتهجير عائلة الآخر”. وأدت حاجة المزارعين إلى المياه والخوف من خسارة المحاصيل الى نشوب صراعات محلية بين المزارعين، بخاصة أنهم كانوا يحصلون على حصصهم المائية كل أسبوع قبل أزمة ندرة المياه الحالية. ويعد هذا الحادث إشارة واضحة إلى آثار الجفاف على السلم الأهلي بين المجتمعات المقيمة على ضفاف الفرات، أحد أكبر الأنهار في الشرق الأوسط.

وتحبس تركيا منذ أكثر من ثلاثة أشهر، مياه الفرات ودجلة في ستة سدود داخل أراضيها، أكبرها سد “أتاتورك” ثاني أكبر سد في الشرق الأوسط، بطاقة تخزين تصل إلى 48 مليار متر مكعب من المياه، مخالفة بذلك الاتفاقية الدولية. وينبع نهر الفرات من تركيا ويدخل الأراضي السورية عند مدينة جرابلس، في ريف حلب ويمر النهر في الرقة وبعدها بدير الزور ثم يخرج من الأراضي السورية عند مدينة البوكمال ليدخل العراق عند مدينة القائم في الأنبار، ويلتقي في جنوب العراق مع نهر دجلة، ليشكلا شط العرب.

وبحسب اتفاقية عام 1987 الموقعة بين دمشق وأنقرة والمتعلقة بنهر الفرات، تبلغ حصة سوريا من المياه الآتية من تركيا 500 متر مكعب من المياه في الثانية، وتبلغ حصة العراق من تلك المياه 58 في المئة، لكن يقتصر الوارد المائي في نهر الفرات، الآن، على أقل من 200 متر مكعب، أي ربع الكمية المتفق عليها في انخفاض تاريخي لمستويات المياه الواردة إلى سوريا، بحسب ما أفادت الإدارة العامة لسدود شمال وشرق سوريا. وبعدها بعامين، وقعت سوريا اتفاقية مع العراق، نصت على أن تكون حصة الأخيرة الممررة لها عند الحدود السورية العراقية 58 في المئة من مياه الفرات مقابل 42 في المئة لسوريا من إجمالي الكمية التي تردها من تركيا، وبحبس تركيا للوارد إلى سوريا تتأثر العراق أيضاً.

وبعد أكثر من 20 عاماً من زراعة القطن، اضطر الخلف إلى تبديل محصوله هذا العام إلى البطيخ الأحمر، كون القطن يحتاج إلى كميات كبيرة من المياه التي لم تعد متوفرة ولا تصل كما السنوات السابقة إلى أرضه الزراعية، التي تتجاوز مساحتها 50 دونماً، قسمها بين زراعة البطيخ والقمح وبعض المحاصيل الأخرى، ويعلق قائلاً “خسرت محصولي الأساسي”. 

“الماء كان يأتي 24 ساعة في اليوم، لكن 6 ساعات فقط هي حصتنا الحالية (…) بداية الشهر الحالي كان لا بد من ري محصول القمح، لكن الأيام تمضي ولا مياه.  كمية المياه الواردة عبر قناة الري كانت 90 م3 في الثانية أما الآن فانخفضت إلى نحو 65 م3 في الثانية الواحدة” يضيف الخلف.

سجل ريف الرقة الشمالي، خلال الفترة السابقة، حادثة قتل ثانية للسبب نفسه، وهو حاجة السكان إلى المياه والشجارات حول من يحصل عليها قبل الآخر، ويهدد ذلك السلم الأهلي المجتمعي بخاصة في مجتمع عشائري لا ينسى مثل هذه الحوادث، ولا تزال تنشط فيه حالات الأخذ بالثأر.

ظلام وعطش

على بعد مئات الكيلومترات من قرية الخلف، يُنير أحمد حسو، الطريق أمامه بمصباح كهربائي، إذ لم تر مدينته الحسكة النور منذ أيام، وذلك بعد حبس تركيا مياه نهر الفرات وتوقف العنفات عن العمل، بالتزامن مع توقيف القوات التركية المتمركزة في مدينة سري كانيه (رأس العين) محطة مياه علوك وبات الحال عطش يرافقه ظلام، يخترقه أحياناً نور المولدات الكهربائية.

ومنذ سيطرة القوات التركية على مدينة سري كانيه في تشرين الأول/  أكتوبر 2019، أوقفت محطة علوك 18 مرة حتى الآن، لتحرم نحو مليون شخص من سكان الحسكة وأريافها من الماء وسط انتشار فايروس “كورونا” في المدينة التي تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد الإصابات المعلنة في مناطق شمال سوريا وشرقها.

ويقول حسو إن المشكلة قبل الآن كانت في الماء لتصبح في الماء والكهرباء، حاملاً قناني مياه اشتراها من محل تجاري، لتشربها العائلة أثناء الإفطار، متذمراً من المعاناة التي يعيشونها جراء “المصادفة التي جعلتهم جاراً لتركيا”، ويضيف ” لو استطاع أردوغان لمنع الأوكسيجين عنا”. وتحاول تركيا جاهدة منع حصول الكرد في سوريا، على حكم ذاتي على غرار إقليم كردستان- العراق، وعلى رغم إن الإدارة الذاتية المعلنة في شمال سوريا وشرقها تضم جميع المكونات القومية، إنما لم يمنع ذلك تركيا من محاولة إسقاطها بشتى الوسائل، آخرها اجتياح مدينتي سري كانيه وتل أبيض بمساعدة المعارضة السورية الموالية لها. ويبدو أن تركيا استبدلت سلاح النار هذه المرة بسلاح الماء. 

وبحسب هيئة الطاقة في الإدارة الذاتية منذ أواخر كانون الثاني/ يناير الفائت، بدأت كميات الوارد المائي من الجانب التركي بالانخفاض، علماً بأن كمية الوارد المائي لا تتجاوز 250 م3/ثا بأفضل الأحوال وبشكل مستمر منذ ثلاثة أشهر، على رغم أن الاتفاقية الموقعة تجبر تركيا على ضخ 500 م3/ثا.

وانخفض منسوب المياه في سد تشرين، شمال سوريا، إلى 321م، ما يعني انخفاضاً تجاوز 4 أمتار شاقولية عن المنسوب الطبيعي وهو 325.5 م، وكذلك انخفض منسوب بحيرة الفرات إلى أدنى مستوى وهو 298م، وبذلك تجاوز الانخفاض خمسة أمتار شاقولية عن المنسوب الاعتيادي وهو 304م. 

وتقول آهين سويد، وهي الرئيسة المشتركة لهيئة الطاقة في الإدارة الذاتية، إن “هذا المستوى من الانخفاض يعتبر المنسوب النهائي في توليد الطاقة الكهربائية، أي أن العنفة المائية لا يمكنها توليد الطاقة الكهربائية ألا بنسبة لا تتجاوز 50 في المئة من قدرة عنفة واحدة، وباستمرار هذا الوضع نقترب من السيناريو الأسوأ وخلال فترة قصيرة لا يمكن توليد أي طاقة كهربائية من السدود في شمال سوريا”.

وبذلك تدق المسؤولة السورية ناقوس الخطر من ظلام دامس في شمال شرقي سوريا، لتضيف عليه إن “المصائب لا تأتي فرادة”، وتقول “مع انقطاع التيار الكهربائي يستحيل تشغيل محطات مياه الشرب ومحطات مياه الري والمنشآت الحيوية الاستراتيجية الأخرى”، في إشارة إلى المعامل والمصانع التي تعتمد على التيار الكهربائي الوارد من السد.

ويقول محمد طربوش، وهو المدير العام للسدود في شمال شرقي سوريا، إن نصف متر يفصلهم عن المنسوب الميت، وهو المنسوب الذي يمنع التوليد عنده، حيث فقد سد تشرين وهو أول السدود على نهر الفرات داخل الأراضي السورية، نحو مليار متر مكعب من أصل مليارين من مخزونه الكلي، بحسب قوله.

يأتي كل ذلك وسط اضطراب في مناخ الأرض مع ارتفاع في درجة حرارة الكوكب، وتغير كبير في طبيعة الظواهر الطبيعية وتدهور مستمر للغطاء النباتي وللتنوع البيئي، ويختصر مصطلح “التغير المناخي” كل تلك العوامل، التي يتحدث قادة العالم عن مواجهته وضرورة التصدي له، وكان ذلك من أبرز شعارات الرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن. وقد خلص تقرير للأمم المتحدة نُشر في آذار/ مارس 2020، إلى أن التغير المناخي سيؤثر في إمكانية توافر المياه اللازمة للاحتياجات البشرية الأساسية، ما سيترتب عليه تقويض حقوق مليارات البشر في التمتع بمياه شرب نظيفة وخدمات صرف صحي. وحذر التقرير من أن يفقد 52 في المئة من سكان العالم، بحلول عام 2050، فرص الحصول على حقهم في مياه شرب آمنة وخدمات صرف صحي، من جَرَّاء تأثير التغيُّر المناخي على موارد المياه؛ مشدداً على الارتباط الوثيق بينهما.

‎واعتبر طربوش أن الآتي “كارثة” بقوله “أكثر من 5 ملايين شخص- على الأقل- معرضون لخطر الأمن الغذائي بسبب تعليق الري حالياً، وتشير التوقعات إلى توقفه بشكل نهائي قريباً، بالتزامن مع استمرار انخفاض المناسيب، وكذلك شح في مياه الشرب، إذ يعتمد نحو ثلاثة ملايين شخص على شرب ماء الفرات، إضافة إلى مشكلات بيئية إثر زيادة التلوث الناجم عن نقص المياه وزيادة النفايات الصناعية والصرف الصحي على النهر”.

‎وبحسب إحصاءات هيئة الزراعة والاقتصاد في الإدارة الذاتية، تقدر مساحة الأراضي المروية من مادة القمح المعتمدة على نهر الفرات، بـ180 ألف هكتار هذه السنة أي 57 في المئة من المساحات المروية من القمح المزروعة في شمال وشرق سوريا.  وقال سلمان بارودو، وهو الرئيس المشترك للهيئة إن تأثير انقطاع المياه عن الزراعة تنذر بكارثة تهدد الأمن الغذائي بالإضافة إلى انعكاس هذا الانقطاع على الأراضي التي يقضمها التصحر رويداً رويداً، وبالتالي سينعكس بشكل سلبي على الوضع الاقتصادي، بحسب قوله.

‎وقدر المسؤول الاقتصادي خسائر العام الزراعي الحالي بـ56 مليار ليرة سورية (نحو 18 مليون دولار أميركي)، وذلك نتيجة انحباس الامطار والجفاف الذي ضرب المنطقة جراء حبس مياه الفرات، إذ إن معظم الزراعات في المنطقة بعلية، وتبلغ نسبة الأراضي نحو 70 في المئة من إجمالي الزراعة في شمال سوريا وشرقها.

 وتتقاطع توقعات المزارعين وجهات رسمية حول تسمية الموسم الحالي بـ”الأسوأ” بين المواسم الأخيرة، نظراً إلى الخسائر الكبيرة في موسم القمح هذا العام شمال شرقي سوريا، وتفاءل بارودو بأن يبلغ إنتاج القمح هذا العام إلى 450 ألف طن بنوعيه القاسي والطري، في حين بلغ إنتاج العام الفائت 870 ألف طن من القمح.

‎وتبدو تصريحات المسؤولين العراقيين أقل صرامة من نظرائهم السوريين، إذ تجنب علي راضي، وهو المتحدث باسم وزارة الموارد المائية العراقية خلال حديثه لـ”درج” التصعيد ضد تركيا، مكتفياً بأن الوارد المائي قل بنسبة 50 في المئة، وأنه من خلال الإجراءات المتخذة والاستفادة من المحافظة على الخزينة المائي في بحيرة الحبانية، فالكميات الموجودة تلبي كل الاحتياجات.

‎وبينما تكثر التصريحات والمطالبات بضخ مياه الفرات، يتأمل عبود الخلف ألا يخسر محصوله بشكل كامل، ويقول بلهجته البدوية “والله رح يجتلنا الجوع”، بما معناه أن الجوع سيقتل الجميع إذا ما بقي الحال كما هو…

إقرأوا أيضاً: