fbpx

بارزاني في القصر الرئاسي التركي مرتدياً زي البيشمركة!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كل هذا الهجوم على أوزال لم يمنعه من التمسك بموقفه فادلى بتصريحات اعتبر فيها ضرورة استقبال “ممثلي المجموعات التي تلعب دورا في الصراع العراقي الداخلي” وأضاف: “لم لا ألتقيهم؟ سوريا والسعودية والادارة الاميركية تلتقي هذه المجموعات. يجب توسيع هذه اللقاءات”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان لإجراء الانتخابات الكردية في أيار/مايو 1992 وتشكيل ادارة موحدة في كردستان، التي اعتبرها برلمانها المنتخب اقليما فيدراليا عراقيا، تأثيراً مباشراً في إقامة علاقات مباشرة بين القيادة الكردية السياسية والادارية مع دول التحالف الغربي، خصوصا لجهة توسيع الدعم السياسي وتقديم المساعدات الانسانية عبر تمويل مشاريع نفذتها منظمات دولية متخصصة لاحياء الريف الكردستاني واعادة بناء نحو اربعة آلاف قرية دمرها النظام العراقي. في الأثناء حرصت القيادة الكردية على تعزيز علاقاتها مع تركيا كونها كانت الممر الحيوي الرئيسي الذي تستخدمه دول التحالف والمنظمات الدولية للوصول الى كردستان وايصال احتياجاتها خصوصاً أن الكرد أنفسهم كانوا يستخدمون الطريق الى تركيا للتجارة ونقل الوقود بالشاحنات كما للسفر الى الخارج. التحالف الدولي من جهته كان يعتمد على موافقة الحكومة التركية لاستمرار عملياتها في كردستان واستخدام قاعدة انجيرلك الجوية لفرض الحظر الجوي على العراق شمال خط العرض 36 وفقا لقرار مجلس الامن 688. وكان استمرار عمليات التحالف الدولي عبر تركيا يستدعي موافقة برلمانه مرة كل ستة أشهر.

على صعيد العلاقات بين القيادة الكردية وتركيا فانها شهدت تطورات عدة في اطار تمتينها وتعزيزها. إذ وجهت دعوة رسمية الى زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني مسعود بارزاني لزيارة أنقرة ولقاء الرئيس تورغوت اوزال وغيره من المسؤولين وحدد موعد الزيارة في 19/2/1992. وكان بارزاني قرر ارسال ممثل جديد لحزبه في أنقرة ووقع الاختيار على سفين دزه يي الذي بقي في ذلك المنصب سنوات عدة. قبل ذلك باسبوع توجه سفين برفقة والده محسن دزه يي، الذي كان قياديا قريبا من بارزاني وممثله في الزيارة السرية التي قام بها مع جلال طالباني الى أنقرة في آذار 1991. دزه يي الأب قدم الى المسؤولين في أنقرة نجله الذي بقي فيها انتظارا لزيارة بارزاني فيما عاد هو الى كردستان. في 19/2 وصل بارزاني الى أنقره برفقة وفد ضم هوشيار زيباري الذي كان وقتها مسؤول العلاقات الخارجية لحزبه ودزه يي والقيادي في الحزب فاضل ميراني واصطحب بارزاني معه نجله الأكبر الشاب مسرور الذي لم يكن يشغل بعد اي موقع قيادي وأقام الوفد في فندق إيتشقلا محاطا برعاية خاصة من قبل ادارته ومالكه الكردي. وكنت وصلت الى أنقرة مندوبا عن “الحياة” لتغطية زيارة بارزاني وأقمت في الهيلتون وفي يوم وصول وفد بارزاني زرته في فندقه. 

أصبحت زيارة بارزاني القصة الرئيسية في الاعلام التركي وفي تقارير المراسلين الغربيين في أنقرة وسط مظاهر الاستقبال الحافل التي خصه بها المسؤولون الاتراك. وقتها كان سليمان ديميريل رئيسا للوزراء بعد فوز حزبه “الطريق المستقيم” بغالبية مقاعد البرلمان اثر الانتخابات التي اجريت في حزيران من العام السابق وشكل حكومته بالائتلاف مع حزب الشعب الجمهوري الذي أصبح زعيمه إردال إينونو نائبا لرئيس الوزراء وسكرتيره العام حكمت تشيتين وزيرا للخارجية. في صباح اليوم التالي من وصول بارزاني الى أنقره استقبله تشيتين أولا في مقر وزارة الخارجية ثم توجه من هناك الى مقر رئاسة الوزراء حيث استقبله إينونو قبل أن يستقبله ديميريل ليبحث معه في العلاقات بين الطرفين وفي السياق أثار معه نشاطات حزب العمال الكردستاني الذي كان يستخدم قواعده في كردستان العراق لشن هجمات عبر الحدود مستهدفا قوات الجندرمة والامن داخل الاراضي التركية. وكان بارزاني حرص على ان يظهر في كل هذه اللقاءات بزي البيشمركة الذي يرتديه دائما الأمر الذي لم يستأثر باهتمام وسائل الاعلام التركية فحسب بل كذلك باهتمام أكبر من قبل الكرد في تركيا. وبزي البيشمركة أيضا توجه بارزاني الى قصر تشانكايا الرئاسي حيث استقبله أوزال بحفاوة. عدسات التلفزيون التي كانت تغطي لقاءات بارزاني ركزت خصوصا على زيه الكردي. وما ان عاد الى الفندق حتى بدأ عشرات الكرد من سكان أنقرة يتدفقون عليه للترحيب به ناهيك عن شخصيات ونواب كرد كانوا نجحوا في الوصول الى البرلمان. استمرت زيارة بارزاني لأنقرة بضعة ايام غادر بعدها متوجها الى لندن للقاء مقرر مسبقا مع رئيس الوزراء البريطاني وقتها جون ميجور.

أصبحت زيارة بارزاني القصة الرئيسية في الاعلام التركي وفي تقارير المراسلين الغربيين في أنقرة وسط مظاهر الاستقبال الحافل التي خصه بها المسؤولون الاتراك.

غضب تركي 

ناهيك عن أن ظهور بارزاني بزي البيشمركة في القصر الرئاسي فان أوزال أثار غضب معارضيه  مجددا في آب/اغسطس من العام ذاته عندما  استقبل في يوم واحد وفدين يمثلان المعارضة العراقية: وفد يمثل المعارضين الكرد والعرب والتركمان وأخر يمثل الكرد وحدهم. في البداية كان مقررا ان يستقبل اوزال طالباني وبارزاني فقط. لكن حدثت تطورات أدت الى قراره استقبال الوفود الثلاثة. القصة تستحق ان ارويها نقلا عن زميلي وصديقي جنكيز تشاندار الذي كان لاعبا فيها. رواها لي وقتها واعاد روايتها بمزيد من التفاصيل في كتابه المترجم الى العربية بعنوان “”قطار الرافدين السريع”. تشاندار كان آنذاك مستشارا لأوزال وحلقة اتصاله بالكرد والتركمان. كانت الجبهة التركمانية تتخذ مكتبا لها في أنقره. وفي زيارة سابقة لي الى العاصمة التركية زرت المكتب وتعرفت على أرسلان ورفاقه. تشاندار كان يقيم علاقة متينة مع أرسلان ويحرص على ايصال صوته الى أوزال. بينما كان بارزاني وطالباني في أنقرة انتظارا لموعد اللقاء مع أوزال الذي كان على وشك ان يعود الى العاصمة من مقر استراحته في مرمريس لاستقبالهما. حتى ذلك الوقت لم يكن رئيس الجبهة التركمانية مظفر أرسلان قد التقى الرئيس التركي الذي كان أبلغه سابقا بان تقتصر لقاءاته مع مستشار وزارة الخارجية للشؤون الخارجية أوزدم سانبيرك لذا استعان بصديقة جنكيز لكي يرتب له لقاء مع أوزال. جنكيز فكر بخطة “لفرض أمر واقع على اوزال” بحسب تعبيره، لكي يلتقي أرسلان فاقترح على الأخير ان يرافقه الى مرمريس حيث يقول لأوزال انه علم صدفة ان أرسلان موجود هناك ايضا وانها فرصة مناسبة لاستقباله. لكن ردا على اقتراح جنكيز قال له اوزال انه وجه مستشاره الاعلامي كايا توبيري باستقبال ارسلان في أنقرة. جنكيز لم يتراجع فقال لأوزال ان الصحافة ستستغل استقباله لطالباني وبارزاني لمهاجمته واتهامه بانه يحتضن الكرد ويتجاهل التركمان. أوزال فكر قليلا ثم استدعى احد موظفيه وأمره بأن يجدوا ارسلان ويبلغوه بانه سيستقبله بعد ساعة. يعترف جنكيز ان تلك “كانت الحيلة الوحيدة التي حبكتها على أوزال من دون علمه طوال سنتين من العمل المشترك المعتمد على الثقة المتبادلة بيننا” بحسب روايته في كتابه مضيفا بأنه سرعان ما أتبعها بحيلة “ثانية أخيرة”.

لكن جنكيز فشل في الحيلة الثانية التي حاول ان يحيكها هذه المرة على طالباني وبارزاني. فعندما ذهب ليلتقيهما في أنقرة ويبحث معهما اللقاء مع أوزال بعد ايام قال لهما ان الرئيس التركي سيستقبلهما وأرسلان معا. كان واضحا من رد فعل الزعيمين الكرديين عدم ارتياحهما الى ذلك “فدخلا في حوار بينهما بالكردية” وبعدما انتهيا من التشارور قال طالباني لجنكيز: “بالتأكيد لا يمكننا ان نفرض شروطا على طريقة استقبال رئيس الجمهورية لنا فهذا يعود اليه، ويشرفنا ان نلتقيه في كل الظروف. لكننا توقفنا كاك مسعود وأنا عند هذه المشكلة: إذا استقبلنا كقائدين كرديين مع قائد تركماني، فستبدو تركيا وكأن لها أطماع في شمال العراق، وانها تنظرالى شمال العراق نظرة مختلفة ولا تعترف بوحدة التراب العراقي”. وتابع طالباني وفقا لرواية جنكيز في كتابه: “كاك مسعود قادم من دمشق للتو وأشار الى احتمال تفسيرها لهذا الأمر، على الأقل على هذا النحو. فهل يمكن ان يستقبلنا الرئيس نحن الاثنين وحدنا ثم يستقبلنا مجددا مع وفد لهيئة من المعارضين العراقيين يمثل فيه العرب ويضم أرسلان ايضا”؟ لم يكن جنكيز يتوقع هذا الاقتراح المضاد فأقر لاحقا في كتابه “سقطت في الحفرة التي حفرتها بمعزل عن أوزال” وقال للزعيمين الكرديين انه سينقل الاقتراح الى الرئيس. يضيف جنكيز انه عندما أبلغ أوزال باقتراح الزعيمين الكرديين فانه لم يستغرق سوى ثوان معدودة ليقرر قبول الاقتراح وحدد رأساً الثاني من ايلول/سبتمبر ليستقبل طالباني وبارزاني على حدا، ثم وفدا يمثل المعارضة العراقية. أبلغ تشاندار الزعيمن الكرديين بقرار أوزال فأجريا اتصالات عاجلة مع لندن والقاهرة أسفرت بحسب جنكيز عن تشكيل وفد للمعارضة ضم بالاضافة اليهما عدداً من الشخصيات كان بينهم محمد بحر العلوم وسامي عزارة وأياد علاوي ومحمد الآلوسي وهاني الفكيكي. شخصيا كنت في أنقرة وقتها فاقترح عليّ مام جلال أن انضم الى الوفد فاعتذرت وقلت له انني موجود بصفتي مراسلا لجريدة “الحياة” ولا يمكن أن انضم الى وفد يمثل المعارضة العراقية.

هكذا أثار أوزال غضب معارضيه ومنتقديه في الصحافة التركية فشنوا عليه هجوما لاذعا لتدخله في الشؤون الداخلية للعراق واعتبار ذلك انتهاكا لتقاليد الديبلوماسية التركية. ولم تخل كتابات معلقين اتراك من اتهامات غير موثقة للرئيس بأنه بحث مع المعارضين العراقيين اطاحة النظام العراقي. ويشير جنكيز الى عناوين مثيرة في الصحف التركية منها جريدة “حريت” التي اختارت في اليوم التالي على صفحتها الأولى مانشيتا على ثمانية أعمدة: “قمة إسقاط صدام في القصر الرئاسي” وتحته عنوانان فرعيان أولهما ان جدول الأعمال تضمن موضوعين: خطة خط العرض 34 (منطقة الحظر الجوي) لتضم “التركمان والسنة والشيعة وليس الكرد فقط”. أما العنوان الفرعي الثاني فكان “الحكومة الموقتة: تأسيس حكومة وبرلمان موقتين تتمثل فيهما المجموعات المعارضة التي تعمل ضد صدام حسين”. ولم يقتصر الامر على المعلقين الصحافيين بل شمل السياسيين بمن فيهم رئيس الوزراء ديميريل الذي ينقل عنه جنكيز تصريحا جاء فيه: “ذكّرته بصلاحياته (يقصد أوزال) عدة مرات. الجميع يعرف صلاحيات كل من رئيس الجمهورية والحكومة والمجلس (البرلمان) بحسب دستور الجمهورية التركية”. لكن السياسي المخضرم زعيم حزب اليسار الديموقراطي بلند أجاويد، الذي كان زار بغداد قبل فترة بهوية صحافي واعلن هناك تضامنه مع النظام العراقي، فاق ديميريل في انتقاده لاوزال فصرح بأن “اميركا تستخدمه من اجل تقسيم تركيا ويبدو انه لم يفهم بعد ان تقسيم تركيا هو ما يكمن خلف تقسيم العراق الى ثلاث دول، أو انه يدخل اللعبة من دون وعي”. لكن كل هذا الهجوم على أوزال لم يمنعه من التمسك بموقفه فادلى بتصريحات اعتبر فيها ضرورة استقبال “ممثلي المجموعات التي تلعب دورا في الصراع العراقي الداخلي” وأضاف: “لم لا ألتقيهم؟ سوريا والسعودية والادارة الاميركية تلتقي هذه المجموعات. يجب توسيع هذه اللقاءات”. 

إقرأوا أيضاً:

قتال كردي – كردي

قبل حرب الكويت كان هناك وجود محدود لمقاتلي حزب العمال الكردستاني في المناطق الجبلية داخل اراضي كردستان العراق في الغالب في شكل مفارز صغيرة متنقلة بين كردستان العراق وتركيا. لكن “العمال الكردستاني” استغل حال الفوضى والفلتان الأمني على حدود العراق وانشغال البيشمركة في لمّ صفوفها واعادة تنظيمها فيما القيادة الكردية كانت تتفاوض مع بغداد، فتغلغل مقاتلوه الذين يسميهم “الكريلا” بسرعة وباعداد كبيرة الى مناطق عدة داخل كردستان العراق والى عمق عشرات الكيلومترات واقاموا قواعد ثابتة ونشروا نقاط للسيطرة على الطرق وفرضوا أتاوات جمركية بعدما استولوا على أسلحة تركتها القوات العراقية. وإذ تفاقم الأمر وزاد نفوذ “العمال الكردستاني” فان الوضع بات يقلق جديا القيادات الكردية ناهيك عن أنه أغضب الاتراك الى حد التهديد بالتدخل العسكري مباشرة في حال فشلت القيادة الكردية في تحجيم وجود “العمال الكردستاني” الذي زادت عمليات مقاتليه جرأة داخل تركيا منسحبين عبر الحدود الى قواعدهم في المناطق الجبلية داخل كردستان العراق. في ظل هذه الاوضاع وجدت القيادة الكردية نفسها امام خيار وحيد تمثل في المواجهة المسلحة مع قوات “العمال الكردستاني” منعا لتدخل عسكري تركي واسع من جهة ولاعادة فرض نفوذها على المناطق التي فقدتها لصالح العمال الكردستاني، خصوصا بعد فشل نداءاتها الى قيادته في مراعاة وضع كردستان العراق والتوقف عن ممارسة نشاطات سياسية في مناطقها وشن عملياته عبر الحدود. وكان القائد السياسي لقوات “العمال الكردستاني” وقتها عثمان أوجلان الملقب “فرهاد” شقيق زعيم الحزب. هكذا بدأ قتال كردي – كردي في تشرين الأول 1992 عندما شنت قوات البيشمركة، تحديدا التابعة للحزبين الرئيسيين، عمليات عسكرية ضد كريلا “العمال الكردستاني” وأسفرت عن سقوط قتلى وجرحي من الطرفين. في الأثناء دخلت قوات تركيا في عرض للقوة الى مناطق في محافظة دهوك لكنها انسحبت لاحقا. 

لكن القتال لم يستمر طويلا. العمليات القتالية الرئيسية تحملتها قوات البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني. في النهاية، بحسب ما سمعته من كوسرت رسول علي الذي قاد قوات بيشمركة “الوطني الكردستاني” انه استطاع اقناع فرهاد وقيادته بوقف القتال، والارجح كان ذلك بتوجيهات من زعيمه جلال طالباني وبالاتفاق مع زعيم “الديموقراطي الكردستاني” مسعود بارزاني، على أساس نقل الكيريلا وقادتهم الى مناطق آمنة تحت سيطرة “الوطني الكردستاني” في محافظة السليمانية. وهذا ما تم بالفعل فنقلت قوات “العمال الكردستاني” الى منطقة تسمى زلي كانت خلال القتال بين البيشمركة والجيش العراقي قاعدة ومقرا لطالباني. وزلي جيب حصين يقع على الحدود مع ايران. لكن قرار نقلهم الى زلي أغضب “الديموقراطي الكردستاني” خصوصا عندما حوله “العمال الكردستاني”، الذي احتفظ باسلحته قاعدة له ونشر في محيطه نقاط سيطرة وفرض نفوذه على قرى محيطة به. شخصيا كنت وقتها أجريت اتصالا عبر الهاتف مع كاك مسعود فعبر لي عن عدم ارتياحه لنقل الكريلا الى زلي واعتبر ذلك انتهاكا لاتفاقه مع طالباني على وضعهم تحت السيطرة بنقلهم الى قلعة واسعة تقع على الطريق بين السليمانية ودوكان وكانت في السابق قلعة سوسي التي كانت ثكنة عسكرية عراقية مجهزة تستوعب أكثر من ألفي شخص. لكن مام جلال اعتبر ان نقلهم الى تلك القلعة سيجعلهم هدفا سهلا لقصف جوي تركي محتمل. في اي حال لم يستمر بقاؤهم طويلا في زلي وسرعان ما عادوا أفرادا وجماعات بوسائل مختلفة بما فيها عبر ايران وبمعرفة من سلطاتها الى قواعدهم الجبلية الحدودية مع تركيا متحصنين في جبل قنديل حيث مازالوا هناك. ومنذ ذلك الحين تحول وجودهم مشكلة للقيادة الكردية الأمر الذي يؤدي الى توترات مستمرة مع تركيا وتستخدمه لوجودها العسكري في المنطقة. 

أثار أوزال غضب معارضيه ومنتقديه في الصحافة التركية فشنوا عليه هجوما لاذعا لتدخله في الشؤون الداخلية للعراق واعتبار ذلك انتهاكا لتقاليد الديبلوماسية التركية. ولم تخل كتابات معلقين اتراك من اتهامات غير موثقة للرئيس بأنه بحث مع المعارضين العراقيين اطاحة النظام العراقي.

في 16/6/1993 التقيت في أنقرة فاضل ميراني القيادي في “الديموقراطي الكردستاني” وهو حاليا سكرتير الحزب وأكد ان زلي خلت عمليا من مقاتلي “العمال الكردستاني” الذي كان اعلن ان الكريلا اضطروا الى الفرار من هناك بعد قصف مدفعي شديد قامت به ايران قبل اسبوع لكن في الواقع انهم كانوا أخلوا زلي قبل ذلك بمدة. واعتبر ميراني قصة القصف المدفعي “مسرحية” لتبرير اخلاء المعسكر. في اللقاء مع ميراني كان حاضرا ايضا الصديق الراحل سرجل قزاز الذي كان وقتها ممثلا لـ “الوطني الكردستاني” في أنقرة فأكد كلام ميراني وقال انه يواجه احراجا في اتصالاته مع المسؤولين الاتراك “لأننا من جهة نؤكد لهم اننا نطلب صداقة تركيا وفي الوقت ذاته نتعاون مع حزب العمال الكردستاني”. أضاف قزاز “إننا فرضنا في البداية السيطرة على الكيريلا حتى آذار 1992 ولم تحدث مشاكل مع تركيا لكنه اعتبر ان الاتراك، الذين كانوا تعهدوا بالتزامات تجاه القيادة الكردية، لم ينفذوا وعودهم. ميراني اعتبر ان السبب يعود الى ان الاتراك “أدركوا اننا لم نكن جديين في السيطرة” على الكريلا وضرب مثالا على ذلك: ” في كانون الاول الماضي توجه صحافيون اتراك الى زلي لكن فرهاد منعهم من دخول المعسكر وطردهم وقال لهم انهم ليسوا أسرى بل موجودون هنا وفقا لاتفاق وانهم مسلحون ومستمرون في تدريباتهم القتالية”. وتابع ميراني “لكنهم منذ وقت مبكر كانوا يستقبلون صحافيين أجانب وأتراك من جماعتهم ويؤكدون لهم انهم سيواصلون القتال ضد تركيا”.

في غضون ذلك كان انصار “العمال الكردستاني” في أوروبا يتظاهرون امام الممثليات التركية وينظّمون حملات اعلامية ضد “الدولة التركية الفاشية” وقامت عناصر منهم باحتلال بعض الممثليات. أخبرني ممثل “الديموقراطي الكردستاني” في أنقرة سفين دزه يي أن وكيل وزارة الخارجية اوزدم سانبيرك أعرب له عن الرغبة في ان تظهر القيادة الكردية نوعا من التضامن مع أنقرة بأن تصدر بيانا تدعو فيه الى وقف تلك الحملات. دزه يي اوصل الرسالة التركية الى بارزاني وطلب في غياب ممثل لحزب طالباني ان يوصلها الى زعيمه إلا أنه رفض قائلا ان الاتراك لم يطلبوا منه ذلك مباشرة. لكن الخارجية التركية لم تتصل به لانه لم يكن ممثلا معتمدا لديها. من جهتي اتصلت بطالباني وأبلغته بالامر وعلمت من دزه يي أن بارزاني أبلغه في برقية اليه في 25/6 بانه سيجتمع في ذلك اليوم مع طالباني للبحث في الأمر. وبالفعل أصدر الزعيمان الكرديان بيانا باسميهما اعربا فيه عن “بالغ الأسف” لقيام “بعض الشباب الكرد المتطرفين باحتلال بعض القنصليات التركية في فرنسا وألمانيا وسويسرا بدعوى المطالبة باحلال السلام في تركيا وايقاف العمليات العسكرية هناك”. وتابع البيان، الذي تلقيت من طالباني نسخة منه بخط يده وتحمل توقيعه وتوقيع بارزاني ومازلت أحتفظ بها، “إن القيادة الكردية العراقية ترى من واجبها، منعا لخلط الاوراق وتشويش الأذهان أن تبين الحقائق التالية: أولا، لقد تميزت الحركة الكردية عموما بلجوئها دوما الى الاساليب النضالية الشريفة في العمل الديموقراطي السلمي والسياسي وكذلك في العمل الثوري المسلح. فقد ظلت بعيدة عن أوزار الارهاب والعنف الأعمى والاساليب الصبيانية المتطرفة. لذلك فاننا نعتبر ذلك تقليدا كرديا شريفا لا يجوز الخروج عنه أبدا. ثانيا، ان الاحتلال المسلح للقنصليات وازهاق الارواح خلاله والاحتفاظ بالابرياء رهائن ومحتجزين كل ذلك يعتبره العالم المتمدن عملا ارهابيا مدانا. لذلك فاننا إذ ندين الاحتلال المسلح للقنصليات التركية نعتبره أيضا ضارا بسمعة الحركة التحررية الكردية وخروجا على التقاليد النضالية الكردية وعليه ندعو القائمين به الى التوقف الفوري عن هذه العمليات حرصا على سمعة الشعب الكردي وقضيته الوطنية العادلة”.

وفي مسعى الى ان يكون بيانهما متوازنا حرص الزعيمان الكرديان على تاكيد موقفهما من العلاقات مع تركيا وازاء الوضع الكردي هناك فتابعا: “ثالثا، ان احلال السلام والاسقرار في الجمهورية التركية وتجنب إراقة الدماء التركية والكردية وانهاء اقتتال الاخوة الاكراد والاتراك كان على الدوام هدفا نبيلا سعينا بكل جهودنا من أجل تحقيقه”. وسعا الزعيمان الكرديان الى تطمين الاتراك بانهما حريصان على ضمان امن الحدود فأكدا: “رابعا، إن القيادة الكردية العراقية التي عملت الكثير لضمان أمن الحدود التركية العراقية الدولية ومن اجل انهاء اقتتال الاخوة إذ تعلن تمسكها بالتزاماتها الخاصة بضمان أمن الحدود ومنع استخدام اراضي كردستان العراق منطلقا للاعمال المسلحة ضد الجمهورية التركية تهيب بالاخوة الاكراد الانصراف عن اعمال العنف والاساليب الارهابية والتوجه بصدق وحكمة وواقعية نحو الحل السياسي والسلمي الديموقراطي ونأمل أن تعمل حكومة الجمهورية التركية بدورها من أجل السلام والاستقرار في بلادها وحل المشاكل فيها بالأساليب الديموقراطية السلمية. فعلى الجميع أن يدركوا أن الأخوّة التركية الكردية راسخة الجذور في أعماق التاريخ لن تُصان ولن تتعزز إلا بالوئام والمحبة والسلام بعيدا من الاقتتال والعنف والتطرف والتعصب وباحترام حقوق الانسان والديمقراطية لمصالح المشتركة المشروعة”.

المؤسف ان القيادة الكردية نفسها لم تلتزم بهذه النصائح للاشقاء الكرد في تركيا ولم يمر عام آخر حتى نشب اقتتال الاخوة في كردستان العراق بين الحزبين الرئيسيين وراح ضحيته آلاف القتلى والجرحي.

” في كانون الاول الماضي توجه صحافيون اتراك الى زلي لكن فرهاد منعهم من دخول المعسكر وطردهم وقال لهم انهم ليسوا أسرى بل موجودون هنا وفقا لاتفاق وانهم مسلحون ومستمرون في تدريباتهم القتالية”.

وفاة أوزال وانهيار وقف النار

كان وقف النار الذي اعلنه اوجلان في آذار 1993 لمدة ثلاثة اسابيع ثم مدده حتى اشعار آخر قد انهار. حدث ذلك بعد نحو شهر من وفاة الرئيس أوزال وشهرين من حادث وصف بانه غامض لسقوط طائرة هليكوبتر عسكرية في تركيا كانت تقلّ قائد قوات الدرك (الجندرمة) الجنرال أشرف بيتليس الذي ارتبط بعلاقات ودية مع القيادة الكردية. انهار وقف النار إثر كمين نصبته في 24/5/1993 مجموعة من الكريلا على باص كان يقله جنود اتراك غير مسلحين عائدين من اجازتهم ليلتحقوا بوحدتهم وأدى الى مقتل 33 جنديا وخمسة مدنيين. لاحقا اعترف أوجلان خلال محاكمته في تركيا عام 1999 ان الهجوم أمر به القائد الميداني في المنطقة شمدين صاكيك الملقب “برماغسز” (بلا أصبع وكان فقد اصبعا نتيجة لسقوط صاروخ تركي على موقعه). العملية نفذت على الطريق السريع بين مدينتي إيلازيغ وبنغول في المنطقة الكردية جنوب شرقي تركيا. من لندن اتصلت بمام جلال فكان منزعجا تماما من العملية التي ادت الى انهيار وقف اطلاق النار وهو الذي لعب دورا رئيسيا من اجل تحقيقه. قال لي إنه غاضب، وطلب مني الاتصال بجماعة اوجلان في دمشق لابلاغهم انه يدين بشدة ما فعلوه. من جهتي اتصلت بدانا أحمد الذي كان ممثل “الوطني الكردستاني” في دمشق ونقلت له استياء مام جلال وقلت انني ساحاول ان أنقل ما قاله لي الى “العمال الكردستاني”. فاجأني أحمد بالقول ان “جمعة” (الأسم الحركي لجميل بايك الشخص الثاني بعد أوجلان) جالس معه في مكتبه ويمكنني ان اتحدث معه مباشرة. شخصيا لا اعلم هل كان ذلك الشخص بايك فعلاً، أم لا لكنني في اي حال تحدثت معه ونقلت اليه موقف طالباني وادانته لعملية قتل الجنود الاتراك فكان رده غامضا وفهمت منه انهم يحققون في الأمر لمعرفة حقيقة ما حدث. 

لاحقا وأنا في أنقرة أجريت في 28/6/1993 اتصالا من مكتب قزاز مع مام جلال الذي كان في أربيل فاخبرني أن أوجلان تحدث معه وفي اعتراف نادر أبلغه بانه للمرة الأولى لم يعد في إمكانه السيطرة على المتشددين في حزبه الذين نفذوا عملية قتل الجنود الأتراك بأمر من صاكيك. يُشار الى ان قوات تركية استطاعت اعتقال صاكيك في كردستان العراق في عملية نفذتها قوات خاصة في 1998 ونقلته الى تركيا حيث صدر عليه عام 1999 حكم بالاعدام لكنه خفف الى السجن مدى الحياة إذ كانت تركيا آنذاك ألغت تنفيذ أحكام الاعدام وهو ما طبق ايضا على أوجلان نفسه. في الاتصال ذاته مع مام جلال من أنقرة أضاف ان موضوع “العمال الكردستاني يزداد سخونة وسيستمر ساخنا طوال الصيف ليهدأ في الخريف”. وفي شأن الاتفاق مع عثمان اوجلان بنقل الكريلا الى زلي قال “انهم تعهدوا بالامتناع عن ممارسة أي نشاط سياسي أو حزبي في كردستان العراق”. ونفى انهم ينتشرون في أماكن أخرى قائلا ان الاتراك يتخذون ذلك “ذريعة لتبرير فشلهم وكل ما كانوا يقولونه في الماضي بأن الهجمات عليهم مصدرها من خارج الحدود غير صحيح والدليل استمرار عمليات المقاتلين داخل الاراضي التركية وفي مواقع بعيدة جدا عن الحدود معنا”. وختم بانه “من جهتنا وعلى عكس الاتراك ملتزمون بتنفيذ التزاماتنا تجاههم وأنا وكاك مسعود متفقان 100% في هذا الخصوص وأحدث دليل على ذلك البيان المشترك الذي وقعناه في شأن الهجمات على الممثليات التركية في أوروبا”.

إقرأوا أيضاً: