fbpx

درس في القوميّة من أبو مصطفى

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تجمعني بصديقي أبو مصطفى أمزجة وهوايات كثيرة منها حبّ الكنافة. مرّةً قلت له إنّ كثيرين يفضّلون الكنافة النابلسيّة على كنافتنا، لكنّ أبو مصطفى انتفض مستاءً: “أبداً، كنافتنا أطيب”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تجمعني بصديقي أبو مصطفى* أمزجة وهوايات كثيرة منها حبّ الكنافة. مرّةً قلت له إنّ كثيرين يفضّلون الكنافة النابلسيّة على كنافتنا، لكنّ أبو مصطفى انتفض مستاءً: “أبداً، كنافتنا أطيب”. قلت له: “وهل أكلتَ كنافة نابلسيّة قبلاً؟”، ردّ وقد رفع استياءه إلى سويّة الغضب: “لا”، ثمّ أضاف: “ولن آكلها أبداً”.

“لكنْ كيف تعرف إذاً أنّ كنافتنا أطيب؟”.

“هيك… إنّها أطيب. أنا متأكّد أنّها أطيب”.

كلام أبو مصطفى أفهمني وجهاً من وجوه القوميّة لا تتطرّق إليه الكتب إلاّ لماماً: إنّنا ننحاز، بل نتعصّب، لما نعرف ونملك، ولسنا معنيّين بمعرفة سواه، ولا بمقارنته بهذا السوى.

موقف أبو مصطفى أعادني إلى قريبٍ لي كان يبادرني، كلّما أكون عائداً من لندن إلى بيروت، بعبارة ثابتة لا تتغيّر: “عد يا إبن خالي إلى لبنان. إنّه أجمل بلد في العالم”. وذات مرّة سألتُه: “لكنْ أيّ البلدان زرتَها يا سليم؟”، فأجاب: “لا أعرف إلاّ الكويت”.

كلام أبو مصطفى أفهمني وجهاً من وجوه القوميّة لا تتطرّق إليه الكتب إلاّ لماماً: إنّنا ننحاز، بل نتعصّب، لما نعرف ونملك، ولسنا معنيّين بمعرفة سواه، ولا بمقارنته بهذا السوى.

اقرأ أيضاًالنظرية الأسدية حيال لبنان: القتال المضبوط

وأذكر عبارة كانت دارجة في أوساطنا إبّان سنوات الطفولة، هي بالضبط ما ظلّ سليم يردّده على رغم بلوغه الثمانين: “إنّ لبنان أجمل بلد في العالم”. أحد رفاقي، وكان عمّه ضابطاً في الجيش، كان يذهب أبعد بكثير، فيؤكّد لنا من دون انقطاع أنّ بلدنا يملك أقوى جيش في العالم، وهذا فضلاً عن أنّ عَلَمه أجمل الأعلام، ونشيده الوطنيّ أجمل الأناشيد، فيما بطله في المصارعة الحرّة، المدعوّ إدمون الزعنّي، أقوى رجال الكون قاطبة.

هذه الأحكام ليست تفصيلاً قليل الأهميّة في القوميّة. فمؤخّراً نُشرت إحصائيّة تقول إنّ 92 في المئة ممّن لا يحملون جواز سفر في الولايات المتّحدة يؤيّدون دونالد ترامب، وهم على يقين بأنّ بلدهم متفوّق على باقي بلدان العالم في المجالات كلّها. فهؤلاء، في أغلب الظنّ، يتوهّمون التغلّب على نقص المعرفة عبر إصدار أحكام شاملة وقاطعة في زعم المعرفة. وهم قد يتوهّمون التغلّب على فقرهم أو تهميشهم اللذين منعاهم من السفر والاطّلاع على العالم بالتعالي على هذه الحاجة أصلاً. فلماذا الحسرة حين لا نسافر إلى أمكنة هي أقلّ كثيراً من مكاننا، وإلى بشر هم بالتعريف أدنى من بشرنا؟ هكذا تبدو موافقتهم، مجرّد الموافقة، على إجراء المقارنات عملاً مرفوضاً من حيث المبدأ.

أمّا الذي يشك في الصلة بين موقف أبو مصطفى والقوميّة، فعليه أن يتذكّر قوميّين لا بدّ أنّه التقاهم في حياته: فهؤلاء لا تردعهم معرفتهم الطفيفة بالتاريخ القديم، وربّما رسوبهم المتكرّر في مادّة التاريخ المدرسيّة، عن إعلان انتسابهم إلى خالد بن الوليد وأبي ذرّ الغفاريّ، وأحياناً إلى هانيبعل ونبوخذ نصّر وأرتحششتا.

الفارق أنّ المادّة القوميّة التي يشتغل عليها أبو مصطفى أشدّ تواضعاً بكثير، فضلاً عن كونها أطيب بلا قياس. إلى ذلك فالقوميّون الكنافيّون لا يريدون أن يحرّروا شيئاً ولا أن يفتحوا مقاومات وحروب مصير، وهم بعيدون جدّاً عن المقارنات السمجة بين القوميّات المضطهِدة والقوميّات المضطهَدة. فلا بأس حبّاً بالكنافة وبأبو مصطفى أن نتسامح لربع ساعة مع هذه القوميّة الطيّبة. نعم، المجد والخلود لكنافتنا والخزي والعار لكارهيها.  

*نكايةً باللغة، لم أقل أبا وأبي، لأنّه في جميع الحالات “أبو” مصطفى.

اقرأ أيضاً: هل نحن شعب من الزجّالين؟